أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي الذيب - الأشرار الأربعة: ... واخرجْنا منهم سالمين















المزيد.....



الأشرار الأربعة: ... واخرجْنا منهم سالمين


سامي الذيب
(Sami Aldeeb)


الحوار المتمدن-العدد: 6581 - 2020 / 6 / 2 - 10:04
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ذكرت في مقال سابق
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=677132
أن الأستاذ الدكتور محمد المزوغي اصدر كتابا عنونه: في ضلال الأديان
يمكنكم الحصول عليه من الدار الليبرالية. للحصول عليه يمكن الإتصال بها
+49 176 21419894
[email protected]
وللقراء خارج سوريا لاسيما في الدول الأوروبية أصبح بالإمكان طلب كتب الليبرالية عن طريق موقع صفحات ناشرون السويد
https://www.safahat-publishers.com/product-tag/dar-lebralye/

وقد كرس المزوغي الجزء الأكبر من هذا الكتاب لسحق فكر اربعة من أشرار مجتمعنا:
يوسف زيدان
يوسف الصدّيق
محمد عابد الجابري
ومحمد الطالبي
.
وقد نقلت لكم ما كتبه المزوغي عنهم. ولكن ماذا عن الرد المعاكس المسيحي؟
يقول الأستاذ المزوغي
---------------
بما أن زيدان والصديق والطالبي والجابري وغيرهم من المفكرين العلمانيين والعقلانيين العرب سَمَحوا لأنفسهم بالتجريح في الديانة المسيحية والتهجّم عليها بأسلوب يتراوح بين القدح الضّمني والإساءة اللفظية الصريحة من المنتظر أن يَنتصبَ المفكرون المسيحيون المحدثون للردّ عليهم والدفاع عن عقيدتهم. لكن هذا لم يحدث اطلاقا (باستثناء القنوات الفضائية: القمص زكريا بطرس، ورشيد المغربي، ووحيد وفدوة، الخ)، لا أعرف مفكرا عربيا واحدا، من خلفية مسيحية، ذا شهرة عالمية كتب كتابا للردّ على المسلمين بمنطقهم العنيف، أو توغّل في القرآن وسيرة محمد بالنقد والدحض، وأبعدُ منه أن يستعمل عبارات جارحة ومُهينة كتلك التي استعملها المفكرون العرب المسلمون ضد الأناجيل ويسوع المسيح.
على العكس من ذلك، نرى أن مفكرا مرموقا كإدوارد سعيد انبرى بالدفاع عن الدين الإسلامي وعن محمد ضد انتقادات المستشرقين واتّهم الاستشراق الغربي عموما بمعادة الإسلام ونبيّ الإسلام، حتى استحسن ذلك منه ليس العلمانيون فقط وإنما الإسلاميون أيضا. وجورج طرابيشي لو لم يَعرف أحدٌ خلفيّته المسيحية لَظَنّ أنه مفكر اسلامي سلفي، حيث وقف هو نفسه ضد نقّاد الإسلام، عارض الإلحاد في مقال كارثي وضعه في خاتمة كتابه "هرطقات 2 "، ثم ألّف كتابا يدافع فيه عن الإسلام الصحيح، إسلام القرآن ضد إسلام الفقهاء. لدينا أيضا عزمي بشارة الذي تحوّل رأسا إلى الوهابية وأبدى شراسة في الذبّ عن الإسلام، والقدح في العلمانية وصلت به إلى حدّ تزكية الإرهابيين قاطعي الرؤوس الذين يَفْتكون الآن بمسيحيّي العراق وسوريا ومصر.
قد يكون تصرّفهم هذا نابع من موقف تفهّمي حصيف، ومن وعي بخطورة الانزلاق في هذا المَطبّ الجدالي، خصوصا وأنهم بحضرة أناس متعصّبين، لا يقبلون النقد، ومُستعدّين لحرق الأخضر واليابس للدفاع عن دينهم؛ من المحتمل أيضا أن المسيحيين العرب تفطّنوا إلى أنهم لو ردّوا على تجريحات المسلمين بتجريحات مضادة لاتُّهِموا بإثارة النعرات الطائفية ولَعَرَّضوا حياتهم وحياة إخوانهم إلى الخطر. كل هذا صحيح، لكن أن يُشمّروا هم أنفسهم للدفاع عن الإسلام، وأن يَمتنعوا عن مجابهة المفكرين العرب الذين اختاروا الهجوم على المسيحية، والتّنبيه على خطورة تنظيراتهم، فهذا أمر يدعو للعجب حقا.
ثمّة إذن عدم توازن مبدئي في هذا السجال العقائدي، والكفة دائما مرجحة للكتّاب العرب المحدثين (ذوي الخلفية الإسلامية)، وغياب تام للجانب الآخر.
لكن الوضعيّة لم تكن على هذه الشاكلة في العصور القديمة، ولم يَبق المجادلون المسيحيون في حالة خنوع واستسلام بل إنهم ردّوا على المسلمين وهجموا هم أنفسهم على القرآن ونبيّ الإسلام وذلك بالاعتماد على المصادر الإسلامية نفسها وعلى النص القرآني ذاته. سأعرّج على أسماء بعض النقّاد العرب المسيحيين والغربيّين القدامى، وسأعرض، بكل تجرّد، ردودهم على تهجمات المسلمين، وكيف أنهم حاجّوهم بأدلة مستمدة من القرآن والسنة وبيّنوا عيوبهم وثغراهم بدقة وببراعة أكثر مما يتصوره الطالبي وغيره.
-------
بعد هذه المقدمة، عرض الأستاذ المزوغي موقف أربعة مسيحيين: شرقيين وغربيين، وهم
ثيودور أبو قرّة
عبد المسيح الكندي
ريكولدو (Ricoldo)
كوادانيولو (Guadagnolo)
إلا أن الأستاذ المزوغي رفض نشر ما كتبه في كتابه حول موقف هؤلاء لكي لا يهضم حق الناشر. فمن يهمه يمكنه الرجوع لكتابه في ضلال الأديان المذكور اعلاه

وختم المزوغي كتابه بنص عنونه ... واخرجْنا منهم سالمين
---------------------------------------
وهو عنوان لدعاء يتلفظ به المسلمون في صلواتهم
اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بين أيديهم سالمين

وأنقل لكم هنا النص الكامل للخاتمة بعد اذن الأستاذ المزوغي
......
كيف يَنظر الفيلسوف إلى هذه التّهجّمات المُتبادلة؟ ما حُكمه على عداوات أهل الأديان وحروبها المتواصلة؟ إنها خرافات تُحارب خرافات، لامنطق يُنازع لامنطق، جنون يَطحن جنونا؛ مشهد مؤلم جدا، لكن الخاسر الأوحد فيه هو العقل. كيف لا والدين، كما يقول العظيم دُولباخ، عدوّ للعقل والمَدنيّة والأخلاق، فهو لا يَصنع إلاّ طغاة شرسين، ولا يربّي الشعوب إلاّ على الخنوع والبؤس؛ المبادئ الدينية غرضها الوحيد هو تخليد الطغيان والتضحية بالشعوب وتأبيد شقائها؛ الدين يدمّر أسس الضمير الأخلاقي ويُشجّع على الانحراف والعنف؛ كوارث لا تحصى ولا تعدّ ينتجها الدين الذي لوّث الأخلاق وشوّه كل الأفكار السديدة، ومَسَخَ جميع التعاليم المفيدة؛ كل دين، بما هو كذلك، هو غير متسامح، وبالتالي كل دين يَمنع من فعل الخير؛ الدين يُطلق العنان للرّذائل، ويُضفي الشرعية عليها، ويسمح بكل أنواع الجرائم لتحقيق مخطط الله؛ كلّ أخلاق تتنافى مع المعتقدات الدينية؛ الدين يشلّ الأخلاق ويقضي على الفطرة السليمة. في النهاية، كل هذه الأسباب وغيرها أدّت بالناس إلى الإلحاد، لأن الدين عبثيّ وإله الأديان شرّير ووحشي.
إن هذا التشاحن يذكّرني بالمُجادلين المسيحيين في بعض الفضائيات الذين يَنقدون الإسلام نقدا عقلانيا، باستعمال ترسانة التاريخ النقدي والتحليل الفيلولوجي ومقارنة النصوص، ولكنهم يمتنعون عن إخضاع كتبهم "المقدسة" لنفس العملية النقدية، ويتحصّنون بالأسرار والغيب وما وراء العقل. وفي مقابل ذلك هناك المئات من القنوات الإسلامية التي تُفرز كل ما لديها من تهجّمات ضد المسيحيين وكُتب الأديان الأخرى، ولكنها تُحصّن أساطيرها المضحكة تحت تعلّة الوحي الإلهي وقدسيّة القرآن. يهود، مسيحيون، مسلمون وأهل الملل في العالم يقفون في كفّة واحدة والفيلسوف يَقف في الكفة الأخرى ويُرَجَّح عليهم من جميع الوجوه. لأن الأديان كلها لا تساوي عقل فيلسوف واحد، الكتب المقدسة لا تساوي محاورة واحدة من محاورات أفلاطون.
أهل العقل في راحة، لأنهم خرجوا من هذا النفق المظلم ونَبَذوا نهائيا خرافات الأديان وجُنونها؛ طَلّقوا بلا رجعة آلهتها الاجرامية، شَطبوا من ذاكرتهم كُتبها العنيفة. شعارهم هو: دافعوا عن عقولكم كما لو كنتم تدافعون عن حُصون مدينتكم. وأهل الأديان يعرفون ذلك، وبالتالي من الطبيعي جدا، أن يتربصّوا بهم ويتلاحموا ضدهم وأن يُعلّقوا ظرفيا عداواتهم، لكي يهجموا على العقل. وهجوماتهم متكررة منذ ألفي عام ولكنهم لم يستطيعوا إلى اليوم أن يحققوا نصرا واحدا، أن يخترقوا حصن العقل، وإنما العقل هو الذي اخترقهم ودمّر معالمهم الواحدة تلو الأخرى، ولم يَبق منهم إلاّ مجموعة من المحاربين الهزيلين، وهم في طريقهم إلى التلاشي والاستسلام. والمسألة مسألة وقت. سيأتي يوم تَلعَنُ فيه الأجيال القادمة ذاكرة الأديان وكُتبها، وتقرف من المآسي التي تسبّبت فيها للجنس البشري، وستبقى ذِكْراها المُرّة لبعض الوقت ثم تضمحلّ هي نفسها وتتلاشى في بحر الزمن السرمدي.
لكننا اليوم نعيش لحظة تاريخية عصيبة تُحتّم علينا مواجهة هذه الموجة الصاعدة من اللاعقل، والالتزام بجهد المفهوم لكي نُعرّي هذه الأديان ونتصدى لأكاذيبها ونُوَعّي الشباب بأن وعود الجنان والحوريات هي مَكيدة وأوهام، وأن الخلاص لا يأتي من اعتناق أيّ دين في العالم، بل من نبذ الأديان كلها والتمسك بالعقل وحده.

***
لا يمكن للعاقل أن يُنقذ أي دين أو يَتبنّى أيّ عقيدة من عقائد الأديان التوحيدية لأن تعاليمها تَصْدم عقله وتَجرح إنسانيته؛ أمّا كُتُبها فهي خزّان المفارقات والأساطير والعنف، وكل من أراد انقاذها أو عَقلنتها فهو يتعرّى حتما من صفة الفيلسوف. لقد حاول فيلون الاسكندراني، منذ القرن الأول قبل الميلاد، عَقلنة تعاليم التوراة واجتهد لتَنْقية تاريخ أنبياء بني إسرائيل من الشوائب اللاأخلاقية. فماذا كانت النتيجة؟ خلاصة تأويليّة مؤلمة، مُريعة، ولاأخلاقية.
في كتابه عن حياة النبي موسى، حينما وصل إلى حروبه ضد الكنعانيين قال، بكل أريحية، إن موسى «قضى على الأعداء كلّهم (أبادهم على بكرة أبيدهم "αναιρεθεντων") »، ثم إثر المجزرة أقام احتفالات وقدّم القرابين وصلوات الشكر للإله، و"الفيلسوف" فيلون يسرد علينا هذه الأعمال المروّعة دون أن يَرفّ له جفن، وكأنها فسحة في بستان.
وإنْ أردتم أن تروا نسخة تاريخية عتيقة، ومُعبّرة جدا لما سيحدث للفلسطينيّين بعد ألفي سنة، فاقرؤوا هذا المقطع من فيلون، حيث يستعمل فيه تقريبا نفس العبارات المستخدمة من طرف الصهاينة الحاليّين: في المعركة ضد العموريين، تم القضاء الكلّي على الأعداء، بحيث اختفت تماما من مُدُنهم كل القوى الشبابيّة «وهكذا، أصبحت المدن (πόλεις) في نفس الوقت فارغة وملآنة (κεναί καὶ πλήρεις): فارغة من أولئك الذين سكنوها من قَبل [سكّانها الأصليّين (ἀρχαίων οἰκητόρων)]، وملآنة [مُحتلّة] من طرف المنتصرين. وبالمثل، حتى المزارع في الحقول، أفرغتْ من سكانها، واحتُلّت من قِبَل رجال في منتهى الكمال (ἄνδρας βελτίους τὰ πάντα) ».
مجموعة من الرجال الكاملين، سحقوا حشرات: هذا هو منطق الحكيم الاسكندراني، وهذا هو منطق الصهاينة الذين قتّلوا الفلسطينيّين واحتلّوا أرضيهم في 48.
وفي واقعة أخرى يتحدث، بكل سرور، عن ذبْح بني اسرائيل للفلسطينيّين، وكيف أن المحاربين عادوا إلى قواعدهم سالمين، ولم يُقتَل أو يُجرَح منهم ولو فرد واحد. هؤلاء المحاربون، يقول فيلون، كانوا مُشبّعين بالإيمان بالله (πιστευειν θεω) ، وهو سلاحهم وآلَتهم وكل قوّتهم التي بها تغلّبوا على أعدائهم. ورغم ذلك فإنه يزعم بأن كل المجازر التي قاموا بها كانت للدفاع عن دين الله، وأن قائدهم موسى، قبل خوض المعركة، أنبأهم بأن هذه المعركة لا تُشنّ من أجل النفوذ أو للاستحواذ على الأملاك وإنما من أجل الدين الحق (εὐσεβειας) والقداسة (ὁσιότητος) .
لكن هذا لا شيء أمام ما سيقوله الآن، ودائما بكل سرور وابتهاج. ضعوا بين أعينكم داعش الصهيونية والتّساحال الصهيونية مربّع: «لقد مَسحوا من على وجه الأرض مُدُنا بأكملها، حرّقوها (εμπιπραντες) أو دمّروها (ηφανισαν)، بحيث إنه لا يمكن أن يُقال عنها إنها كانت مسكونة من قبل؛ ويعتبرون من حقّهم قتل الأسرى الذين قبضوا عليهم بأعداد لا تحصى، رجالا ونساء (ανδρας και γυναικας) ... لكنهم أعفوا الصبيان والفتيات ... وبعد أن استحوذوا على غنائم كثيرة، من منازل الملوك والسكّان، ومن منازل أخرى في الأرياف وَصَلُوا إلى المعسكر مُحمَّلين بكل أنواع الخيرات المسلوبة من الأعداء ».
وهكذا بعد أن اقتلعوا المدن من الجذور، وقتلوا الأسرى واستحوذوا على الأسلاب وجلبوا الذراري والفتيات الصغيرات، امْتَنّ لهم قائدهم موسى، وأثنى على شجاعة أتباعه، وشكَرَهم لأمانتهم في المحافظة على الغنائم دون الاستفراد بها. لكنه حَرِصَ على تطهير (καθαραι) القاتلين الذين عادوا من المعركة ملطّخين بالدماء ومُحمّلين بالغنائم والسّبايا. ثم يواصل فيلون، دون خجل، أو وخزة ضمير، قائلا: «إن قتل الأعداء هو عمل مشروع ["مطابق للقانون (νομιμοι)"] ، لكن من يقتل إنسانا، حتى وإن كان لسبب مشروع كالدفاع عن النفس أو الرد على العنف، فهو مذنب بحكم القرابة الأصلية والجامعة بين البشر ». كيف يتمّ التعامل إذن مع مَن يزهق نفسا بشرية؟ لا حرج عليه، يُجيب فيلون، يكفي أن يَتطهّر، ويتخلّص من عدوى الميّت، حتى يسقط عنه الذنب: «لذلك فإن من يقترف جرما يجب عليه أن يتطهّر، لكي يعوّض ما يُحسَبُ أنه عدوى ».
يعني: اقتلوا كما شئتم، المهمّ أن تذهبوا إلى الكاهن كي يُطهّركم من أدران الدماء. وهذا الكلام صادر عن رجل يَدّعي بأنه افلاطوني متشبّع بالفكر اليوناني، وغارق في الروحانيات العبرية .
ولم يَكتف بهذه الوحشية، بل إنه أضاف إليها شُحنة من السخرية، حيث أثنى على موسى لِعَدْلِه في توزيع الغنائم وقال بالحرف: «إن هذا التوزيع كان جميلا جدا، "روعة" (παγκάλη) »؛ ثم أشاد بحِكْمَة هذا النبيّ القتّال وفضائله التي فاق بها جميع الناس في كل العصور. فدخل في نوبة هستيرية من التمجيد، ونسي كل جرائمه التي عدّدها هو نفسه؛ قال إن موسى كان أحسن المشرّعين في العالم أجمع (νομοθετῶν ἄριστος τῶν πανταχοῦ πάντων)، أحسن من مشرّعي اليونانيين والبرابرة، بل إنه أعطى «شرائع جميلة جدا (νόμοι κάλλιστοι) وإلهية حقا (ἀληθῶς θεῖοι) ».
لكن أغرب ما نقرأ في نص فيلون، على المستوى اللاهوتي، تصوّره المتناقض للإله، فهو من جهة، يحاكي افلاطون في الاعلاء من شأن الإله، ومن جهة أخرى، مُقيّدا بنصه المقدس، يُنزله إلى الحضيض. فيلون الأفلاطوني هو هذا: «الله هو خالق الكل (ποιητης των ολων)، أب الكون، الذي يرفع ويجمع معا الأرض والسماء والماء والهواء وكل شيء يعتمد على هذه العناصر، هو الذي يرأس الآلهة والبشر... عطوف ورحيم، ينشر في كل أنحاء الكون قوّته المُنعِمة ».
فيلون الحشوي هو هذا: الاله الخالق القدير الرحيم، يتحوّل فجأة إلى "القائد الأعلى للقوّات المسلّحة (τῷ συμπάντων ἡγεμόνι)، ويَقتسم الغنائم التي سلبَها موسى وجنوده .
أخيرا، لكي يُريح فيلون المسيحيين والمسلمين من أتعابهم ـ قبل أن يُوجَدوا بعد ـ ويَسحَب منهم كل مشروعية مُقبلة، فهو ينبؤهم بأن شريعة موسى «هي شريعة ثابتة، راسخة، لا مُتغيّرة، كما لو أنها خُتمت بِخَاتم الطبيعة ذاتها، وسَتَبقى مَكِينة من اليوم الذي كُتِبتْ فيه إلى يومنا هذا، وستدوم في المستقبل ما دامت هناك شمس وقمر وسماء وكوزموس (κόσμος) ».

***
لكن فِيلون الاسكندراني لا يعلم أن بَعده بستّة مائة عام سيَبْرُز دين جديد، في بلاد العرب، يَحمل على كاهله تراث العهد القديم ويُعيد إحياء شريعة الحرب التوراتيّة بكل فظاعاتها: من الإبادة الجماعية إلى قتل الأسرى وسبي النساء وتقاسم الغنائم بين النبيّ والإله ...الخ.
وما كان ليَتوقّع، أعني فيلون الاسكندراني، أن بعده بألفي سنة سيجيئ "فيلسوف" من شمال إفريقيا، درسَ الفلسفة في السّوربون ببلاد الغال (فرنسا) وتشبّع من الروحانيات الاسلامية، وسيَنسج على منواله في تبرير أعمال القتل الجماعي والسطو والسبي والنهب التي ذُكرت في القرآن والسّيرة. الآن عرفتم من هو هذا "الفيلسوف"، إنه يوسف الصّدّيق.
الإبادة الجماعية التي ذكرها فيلون تجدونها حرفيا عند الصدّيق؛ وتجدون أيضا الغنائم والسبايا وكيفيّة تقسيم الأسلاب بين النبي والله والمحاربين، وأشياء أخرى لا تقلّ فظاعة عمّا جاء به "الفيلسوف" اليهودي.
في كتاب "هل قرأنا القرآن؟" يتحدّث بكل أريحية عن «معركة حنين التي خاضتها جيوش النبي محمد نفسه »، ويصفها بأنها حرب إبادة، كما صوّرها المؤرخون العرب القدامى، حيث «أدركت هَوَزان نهايتها ».
أن يشنّ المسلمون الحروب وأن يُقارِبوا على إبادة قبيلة بأكملها فهذا بالنسبة للسيد يوسف الصّدّيق لا يمثّل أيّ احراج، ولا يثير فيه أيّ تساؤل: مجموعة من الأبطال الغزاة دعسوا حشرات وكفى. لقد نَزلنا مع هذا الرجل إلى الحضيض، بل أعمق وأخطر من الحضيض، إلى الدرك الأسفل من الجحيم؛ جحيم الإرهاب. ويبدو هذا جليّا من استشهاده بالآيتين من سورة الأنفال، لم يذكرهما حرفيّا في المَتن وإنما أحال عليهما في أسفل الصفحة. الأولى تقول: (يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول) والثانية: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خُمسه وللرسول ولِذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل). الأنفال هي أسلاب الحرب، يعني عملية الاستحواذ على ممتلكات الناس ونهبها بعد قتلهم وتشريدهم، واسمها الحقيقي "غنيمة"، جمع غنائم، والقرآن ينصّ على إنّ خُمس الأسلاب تذهب إلى الله والخمس الآخر إلى الرسول، أو أنهما يقتسمان الخمس. تصوّروا هذا الكلام يصدر من إله السماوات والأراضين: إله يَقتسم أملاك الناس المنهوبة هو ونبيّه. لماذا نعيب على فيلون وعلى العهد القديم إذن؟ أنا أشك في أن إنسانا مسالما وذا حس إنساني سيَبقى على إيمانه باليهودية والإسلام، وسيواصل في تقديس التوراة والقرآن بعد أن يقرأ هذه الأشياء. إنه كلام لا يمكن أن يصدر إلاّ من قطاع طرق ولصوص فاقدي العقل والإنسانية.
لكن الصدّيق، بما اشتُهر به من خَور وسفسطة، يُبرّر هذه الأعمال الفظيعة واللاأخلاقية، مُستعينا بالثقافة اليونانية القديمة التي جَعلَها المعيار الأوحد للصواب والمعقولية، ومتّخذا منها سلاحه السرّي كلّما أوصدت أمامه أبواب العقل. قال بكل أريحية: «يذهب خمس غنيمة الحرب ... كما جاء في الوحي المُنزّل، إلى الله ورسوله ». ويجب التذكير أنه كان قد أعلن في الصفحات السابقة أن الرسول جاء ليؤسس مدنية وحياة مستقرة في كنف المواطنة والحرية والسلام. لكنه لم يستطع أن ينكر البداهة لأن القرآن يقهره، فتحدث عن غنيمة الحرب التي جاءت في الوحي المنزّل، ثم مباشرة انتقل إلى «عالم الأنثربولوجيا والإغريقيات» الفرنسي مارسيل ديتيان، لماذا؟ لكنه لم يستطع أن ينكر البداهة لأن القرآن يقهره، فقهر معه القارئ وجرح إنسانيته، حيث بغياب المبرر الأخلاقي وجد مبررا تاريخيا استقاه من «عالم الأنثربولوجيا والإغريقيات» الفرنسي مارسيل ديتيان، لماذا؟ لكي يسوغ هذه الأفعال اللاإنسانية المنصوص عليها في القرآن ولكي يميط اللثام، حسب قوله، «عن الأصول البعيدة» لهذا الممارسات، التي لم يشجبها القرآن وإنما «بَعثَها وأرساها وفعّلها القول القرآني (remises à jour, réaménagées ou restaurées par la parole coranique ) ».
تصوّروا هذا التّنكيل! تصوّروا إلى أي حدّ وصلت الوحشية بهذا الرجل! هكذا لدينا "فيلسوف" عليم بالفلسفة الحديثة وبالثقافة اليونانية القديمة التي من المفروض أن تَقِيَه من النزول في قاع الجحيم، وإذا به يتخلّى عن علمه وينسلخ تماما من إنسانيّته، لكي ينخرط في إضفاء مشروعية على أعمال اجرامية. ولا يخجل من التأكيد عليها والقول بصريح العبارة إنّ القرآن: بعثَ وأرسى وفعّل النهب والسلب. وماذا يفعل الآن الإرهابيون الإسلاميون في سوريا؟ ألم يَبعثوا ويُرسُوا ويُفعّلوا القول القرآني؟ أنا أضع هذا الرجل أمام مسؤوليّته وأنتظر منه أن يُدين أعمال القتل والنهب التي يقوم بها الإرهابيون الحاليون، والغنائم التي يتقاسمونها فيما بينهم، وبالتالي أن يدين القرآن منبع هذه الأوامر والمشرّع الأول لها. أطالبه بأن تكون له الجرأة مرة واحدة ويصرّح بقولة صادقة، ويعترف بأن الغنائم هي عمل مناف للحق والعدل والأخلاق، وأنّ من يقترفها هو اجرامي في حق الإنسانية.
لكنني أشك في أن الرجل قادر على أن يخطو هذه الخطوة وذلك لسبب بسيط وهو أنه يُقدّس القرآن، مثله مثل الإرهابيين، زائد أن مثاله الأعلى، اليونانيين، قد فعلوا ذلك وبالتالي فلا سبيل إلى الاستنكار والشجب. ومع ذلك، فإن هذا الفيلسوف العليم بالتاريخ والضليع في اللغات القديمة، مرّة أخرى، سَفسطَ وبدّع لأن أقرب أناس فعلوا مثل هذه الأعمال هم أنبياء بني اسرائيل الذين أمَرَهم يهوه بأن يقتلوا الناس الآمنين ويغنموا أموالهم، كما رأينا ذلك عند فيلون الاسكندراني، وكيف أن الرب بارك أعمالهم، مثلما باركها إله القرآن. ذلك أن كاتِب القرآن استقى مثاله من العهد القديم، وتشبّع من تعاليمه، وليس من الثقافة اليونانية.
لكن الصديق يهرب من المثال الأقرب إليه ويذهب رأسا إلى مكان قصيّ، إلى عالم الإغريق، مُستعينا بأحدث ما توصّل إليه الأنثروبولوجي الفرنسي مارسيل دِيتْيَان لكي يُلمّع صورة الإرهاب ويُغيّب الشكوك على القرآن في المَوْضع الأكثر ظلاما ولاإنسانية، أعني تقتيل الناس ونَهْب أموالهم. (أسْرد المقطع من دِيتْيَان كما استشهد به الصدّيق): «يُمثل المحاربون جماعة المتساوين. وتقوم المساواة بينهم على أساسيْ تَقاسم الغنيمة وتقاسم الطعام. ويتحدّد الأوّل بنموذج دائري ومحوري يُشكّل المركز فيه المال المشترك، والأملاك الجماعية، وما يضع الجميع على مسافة واحدة منه وفق علاقة تساوٍ صوري ».
لسان حال الصّدّيق يقول: إذا فعلها عصابة اليونان العظماء، فما المانع من أن يفعلها عصابة المسلمين الأوائل (والمُحْدَثين)؟ هذا هو منطق السيّد الصدّيق، هذا هو أقصى ما تمخّض عنه عقله الفلسفي اليوناني: أكثر مَقتا وسخرية وتبريرا للإرهاب، وخورا وسفسطة من هذا، لا يوجد.
أقول مَقتا وسخرية لأنه بعد هذا الكلام الخطير، وعوض أن يخجل من نفسه، ويطلب المعذرة من قرّائه، واصل في الاشادة الهستيرية بالقرآن، كما فعل فيلون اليهودي مع شريعة موسى، وقال إن الوحي قد أتى «في محطّة مناسبة من التاريخ ليشرح قدرة النمط المدني على صهر عناصر الديني والسياسي والاقتصادي، وليُعيد بناءها وترشيدها داعيا إلى فعل التعقّل المتجدد دوما، وإلى التجمّع حول فكرة الله الأوحد والتخلّص من شطط الوثنية ».

***
أما من الجانب المسيحي فإن الأمر لا يشهد تحويرا أو اختلافا جوهريا، ذلك أن عبد المسيح الكندي، الذي رأينا أعلاه كيف انتقدَ بشراسة نبيّ الإسلام لحروبه العدوانية، ولِحَمْلِه الناس على الايمان بالسيف، عندما واجَهَه مُحاوِره المسلم باعتراض استقاه من كتابه المقدس، راوغ، ثم التجأ إلى أسهل الحلول: إرادة الله. قال: «إنْ ادّعَيتَ أن موسى ويشوع بن نون، قد حاربا أهل فلسطين، وضربا بالسيف وقتلا الرجال وسبيا الذراري، وأحرقا القرى والمساكن بالنار ونَهَبا الأموال. فلِم أنكرتَ على صاحبنا (محمد) أمره وفعله؟ ». صحيح، كل ما جاء في هذا الاعتراض مذكور حرفيا في العهد القديم، وبصورة تحريضية، وعنيفة جدا. واعتراض المسلمين في حقه، رغم أنه تبريري، لأن صيغته: أنتم فعلتم ونحن فعلنا، لا فارق بيننا، وكلّنا سواسية في الإجرام، ودفَعَ الله ما كان أعظم. إجابة عبد المسيح، فظيعة ولاإنسانية، فقد زعم أن موسى ويشوع «فَعَلاَ ما فعلاه عن أمر الله، لِقِوَامِ ما أراده وقدّره، وإنجاز مواعيده. وفَعَلاَ، ذلك بقوْمٍ كانوا قد طغوا وبغوا وتجاوزوا الحد ».
ومن ذا الذي لم يَقل ذلك من المسلمين؟ ألا يقدّم الكتاب المقدس هو بدوره نفس الذريعة للقتل؟ ألا يعتمد اليهود أيضا على التعلّة ذاتها؟ ليس هناك من إنسان دموي في التاريخ لم يتذرّع بالإرادة الإلهية لتبرير أعماله الإجرامية.
أمّا توماس الأكويني الذي شنّع على رسول الإسلام حروبه وغزواته وشهوانيّته، حينما وصل إلى حروب يهوه وأوامره اللاأخلاقية حوّرها إلى أخلاقية، بل إنه استخرج قانونا دمّر به منظومة الأخلاق كلّها بحيث إن الفضيلة أصبحت رذيلة والعكس بالعكس. ولا ينجو من هذا القانون أي فِعلٍ قبيح مُنافٍ للعرف والأخلاق والإنسانية، من قبيل السّرقة والزنا وقتل الأبناء. يقول في الخلاصة اللاهوتية: «لا يُعتبَر ظلما إنزال الموت بكل إنسان، بريئا كان أو مذنبا، وكذلك الفسق (الزنا)، يعني مجامعة امرأة رجل آخر معيّنة له بحسب الشريعة الإلهية. فإذن مجامعة الرجل لأي امرأة كانت بأمر الله ليست فسقا ولا زنى، وكذا يُقال في السرقة التي هي أخذ مال الغير لأن كل ما يأخذه آخذٌ بأمر الله، الذي هو رب الكائنات كلها، ليس يأخذه دون إرادة صاحبه، فلا يكون سرقة».
ماذا ترك للإسلام من رذيلة إذن؟ ما الشيء الذي لم تَفُقْ به هذه الشريعة فظاعة الناموس الإسلامي واليهودي؟ وماذا ترك من حيّز للأخلاق إذا طبّق هذه الشريعة التي تسمح بالقتل وتُبارك الزنى والسطو؟ بالنسبة للأكويني يكفي أن يأمر الله بالقيام بأعمال رذيلة حتى تُنزَع عنها صفة الرّذيلة وتُلبس لبوس الفضيلة، والأمثلة متوفّرة بكثرة من خلال الكتاب المقدس بامتياز: «لهذا لمّا سلبَ بنو اسرائيل أمتعة المصريّين بأمرٍ من الله، لم يكن ذلك سرقة لأنه كان مقتضيا لهم به من الله، وكذلك ابراهيم لما رضي بقتل ابنه ... فإن قتله كان واجبا بأمر الله الذي هو رب الحياة والموت ... فإذا نفّذ الإنسان هذا الحكم بأمر الله لم يكن قاتلا ... وكذلك هوشع لمّا ضاجع امرأة زانية لم يزن .. ». تصوّروا مجتمعا تسود فيه مثل هذه القوانين الفصلية، والتي، مثل الهندام، تُلبَس وتُنزع بحسب تقلّبات الطقس ومِزاج الشمس.
والمجادل البارع فيليب كوادانيولو، العليم بالقرآن والتوراة والإنجيل والذي توسّع في مسألة العنف في القرآن وعاب على محمد أعماله الحربية، عندما اسْتَعرَض عليه محاوره المسلم، أحمد زين العابدين، نصوص العهد القديم (رغم أنه لا يؤمن بها) المملوءة عنفا وتقتيلا وحروبا، كرّس نفس الإجابة وتذرّع هو أيضا بإرادة الله، قائلا: « إن يشوع بن نون أرسله الله ليُعذّب شعوب الكنعانيّين من أجل خطاياهم، كما هو بيّن من الكتب المقدسة، حيث أمر الله موسى ويشوع وبني اسرائيل بأن يضربوا ويقتلوا شعوب الكنعانيّين حتى يفنوهم ». إن هذه المجزرة الفظيعة، هذا الأمر الإلهي بإفناء شعب كامل، لم تُحرك في هذا المنافح الشرس أية مشاعر إنسانية. الفرق الأساسي بين حروب المسلمين وحروب الإبادة التوراتية، حسب رأيه، هو أن إله اليهود، على عكس إله المسلمين، لم يأمرهم بأن يُرغِموا الكنعانيين على الإيمان، أما الإبادة فلا بأس بها.
وإذا كان الإنجيل بالفعل داعيا للسلام ومربّيا على الفضيلة لماذا حرّق المسيحيون الهراطقة ونصُّ الإنجيل بأيديهم؟ لماذا أدان البابا، ليون العاشر، سنة 1520 الأطروحة 33 من أطروحات مارتن لوثر والتي تقول: "إن حرق الهراطقة هو ضدّ إرادة الروح القدس (Haereticos comburi est contra voluntatem Spiritus)"؟ لو لم تكن بذور هذه الأحكام موجودة في النص لما تجرّؤوا على تنفيذها في الواقع.

***
المُجَادِلون المسيحيون لا يتحدّثون إلاّ على العقل، ولا يقدّمون إلاّ العقل كحجّة ضد خرافات القرآن، والمسلمون بدورهم لا يَحتجّون عليهم إلاّ بالعقل ولا يُعيّرونهم إلاّ بلاعقلانيّتهم، وإسرافهم في الخرافة، لكن العقل بريء منهما، لأن كليهما أشرس أعدائه. وقد رأينا أعلاه، كيف أن ريكولدو وكوادانيولو، يَعيبان على القرآن تعامله مع الشيطان ويستنكران زعمه بأن الحيوانات ستُحاسَب يوم القيامة. وهما لم يُجانبا الصواب، لأن الله، في الميثولوجيا القرآنية، عِوض أن يرمي بالشيطان في الجحيم، نزلَ عند رغبته، وترك له وسعا من الوقت، وحرّية تامة، هو وأعوانه كي يفعلوا ما يشاؤون، بينما توعّد البشرية كلها بأنه سيقذف بها في النار.
إن هذا التصور العنيف لله ككائن يغوي ويضلّ ويبعث الشياطين على مخلوقاته موجود في القرآن منذ بداية الوحي، ومنذ الفترة التي كان يتكلم فيها كاتب القرآن بنبرة صوفية مستخدما أسلوب السّجع والإيقاع الشعري . وهي احدى الأفكار التي استقر عليها ولم يبدّلها بتاتا: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدّا"، وهكذا فإن الله لا يكتفي بتضليل عباده الضّالين، يعني مضاعفة الضلالة، بل إنه يتباهى بتعامله مع الشيطان وإلحاقهم ضلالة بضلالة، وكأن هذا العمل بارّ ومن باب الفضيلة: "ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزّهم أزا". فعلٌ لا يليق بالإله إن كانت تعزّ عليه مخلوقاته.
أما الشيطان في العهد القديم فهو المهزلة بعينها: ففي سفر أيّوب (6 ـ 11)، الرب يتحاور مع الشيطان وكأنه يحاور صديقه أو قريبه، ويسأله حتى، "مِن أين أتيت؟" والشيطان يُجيب، بكل طلاقة، وبشيء من السخرية: "مِن الجَوَلان في الأرض ومن التمشّي فيها (أيوب 1: 7)". وهذا يذكّرني بقولة الرب لموسى: "مَا لك تَصْرُخُ إليَّ؟ (خروج 14: 15)".
أمّا الأناجيل فهي تقول إن يسوع فعل شيئا مشابها لما فعله إله القرآن بالشيطان: تَسامَحَ معه، بل نزل عند رغبته، ولكنه صبّ جام عذابه على حيوانات بريئة. وقد لفتتْ هذه الرواية الانجيلية انتباه الفيلسوف العظيم بُورفير (Porphyre)، واسمه الحقيقي "مالك"، أصيل مدينة صور، وأشْبعها تحليلا ونقدا بصورة تُثلج صدر الإنسان العقلاني، وسأختم بها أقوالي هذه: إن حكاية الشياطين التي تتوسل المسيح كي يطلقها، ثم يُدخلها في قطيع من الخنازير، تهرب للبحر ثم تغرق هناك، هي من أكثر الأشياء قرفا بالنسبة لعقل الفيلسوف؛ سمّاها هُراء رَخيصا (ὓθλος)، حماقات جديرة بالمجانين.
جاء في إنجيل مَتّى أن شيطانيْن اثنين خرجا من المقبرة وقابلا يسوع، ولكن، خوفا منه، دخلا في الخنازير وإذا بمجموعة من الشياطين يَخرجون معهم. أمّا مُرقس فقد تحدّث عن عدد مَهول من الخنازير: "يسوع قال له: أيها الروح النجس اخرج من هذا الإنسان، وسأله يسوع ما اسمك؟ فأجابه اسمي لِجْيون لأننا جيش كبير، وتوسّل إليه أن لا يطرده خارج البلد. وكان هناك قطيع كبير من الخنازير يرعى فتوسلت إليه الشياطين كي يدخلوا في الخنازير، وعند دخولها في الخنازير، اندفع قطيع الخنازير، كانت ألفين تقريبا من على حافة الجبل إلى البحر، فغرقت فيه. أمّا رعاة الخنازير فهربوا".
إن فيلسوفا عظيما مثل بورفير، متشبّعا بالفكر اليوناني، محيطا بعلم المنطق والرياضيات والميتافيزيقا، أمام هذه الرواية الإنجيلية لم يتمالك من اطلاق صرخة فزع وتعجّب. لم يُصدّق ما قرأه لأنه وجد نفسه أمام رواية مختلّة، فظيعة، وجارحة حتّى لصورة المسيح ذاته. قال: «يا لها من خرافة، يا له من هراء، يا للمهزلة الكبيرة حقا! قطيعٌ مِن ألفي خنزير تركض نحو البحر وتموت كلها غرقا. أنا لا أدري كيف يمكن لأحد، يَسمع الشياطين توسّل إليه بأن لا يرميها في الجحيم، يستجيب لدعواتها؛ وعوض أن يُرسلها إلى الجحيم، يُدخلها في الخنازير. ألا يحق لنا القول: يا للجهل! يا للجنون الكوميدي! أن يُلبّيَ أحدهم طَلب أرواح قاتلة سبّبتْ أضرارا كثيرة للعالم، ويسمح لها بأن تفعل ما تريده. فعلا، الشياطين تريد أن ترقص في هذه الحياة (χορεύειν ἐν βίῳ)، وبكلّ نَهَمٍ أن تُحوِّل العالم إلى مكان للتّسْلِيَة؛ تبتغي خلْطَ الأرض بالبحر، وصناعة، مِن هذا الخليط، مَشهدا كئيبا حِدَادِيّا؛ ترغب في قلب العناصر إلى فوضى وتدمير الكون كله وإحلال الخراب مَحلّه . أليس من الأجدر حقا رَمْي في الجحيم، أولئك الذين توسّلوا المسيح بأن لا يُرسلهم إليه، الذين لديهم استعدادات شرّيرة تجاه الإنسان، أي أُمَرَاء الشرّ، دون أن يُذعن لمُناشداتهم، ويَعْهد لهم بمهمّة أخرى لتحقيقها؟
إذا كان هذا الحادث واقعيا وليس مصطنعا (πλάσμα)، كما نرى نحن، فإن عمل يسوع يُبدي حقا الكثير من القُبح (κακίαν): إخراج الشياطين من رجل، ثم ادخالها في خنازير مَسلوبة العقل، ثم إرعاب الرُّعاة وجعلهم يفرّون بسرعة فائقة فريسةً للهلع، ووضع المدينة في حالة اضطراب وإرباك، هي أعمال لا تليق بالإله. إن العدل (Δίκαιον) لا يتمثل في شفاء واحد فقط أو اثنين أو ثلاثة أو ثلاثة عشر، وإنما شفاء كل الناس، خصوصا إذا أراد أن يبرهن على أنه جاء للدنيا لهذا السبب. لكن، أن يُخلّص شخصا واحدا من الأغلال اللاّمنظورة، لكي يَنقل خِلسة تلك الأغلال إلى آخرين؛ أن يحرّر في الوقت المناسب بعض الناس من مَخاوفهم، ويشحن البعض الآخر بالمخاوف، فهذا العمل يمكن بحق تسميته عملا شرّيرا وليس خيّرا. ليس هذا فقط، بل إن بقبُوله توسّلات الأعداء والسماح لهم بأن يَسكنوا ويُخرّبوا بلدا آخر، فإنه تصرّف كمَلكٍ يدمّر رعاياه: عاجزا عن اخراج الغريب من بلده، يرسله من مكان إلى مكان، مُخلّصا من الشر جزء من البلد والجزء الآخر يُسْلمه إلى نفس الشر. إذا كان، بالمثل، يسوع نفسه عاجزا عن طَرد الشيطان من بلده، وأرسله إلى قطيع من الخنازير، فهو لم يفعل شيئا معجزا حقا، يمكنه أن يلفت الانتباه، وإنما شيئا مليئا بالخسة. فعلا، هذا العمل وحشي في حد ذاته، وقادر أن يُدنّس أذُن السامع، جاعلا من هذه الحكاية خزّانا من المعاني الشرّيرة.
إن إنسانا حصيفا، يواصل بورفير، بعد أن يسمع هذه القصة وبعد أن يستقصي مغزاها، سيُدين الحكاية فورا، وقد يصل إلى رأي صائب حول الحدث، بقوله: «إذا لم يُحرّر كل العالم من الشر، وإنما اكتفى بإخراج الأرواح الشريرة من بعض الأماكن، واهتمّ ببعض الأشخاص دون أن يلتفت إلى الآخرين، فليس هناك أي أمَانٍ في الالتجاء إليه والاحتماء به". فعلا، الشخص الذي خُلّص سيُثير الألم في نفس مَن لم يُخلَّص، ومَن لم يُخَلَّص سيصبح مُتّهِما لمن خُلِّصَ. وبالتالي، من هذا أستنتجُ، أن الحكاية كلها مُختلَقة. وإذا لم تكن مختلقة وإنما شيء شبيه بالحقيقة، فهي حقا جديرة بِنَوبةِ ضَحكٍ ».
لكنها غير جديرة بنوبة ضحك، بل مؤلمة وفظيعة اتّهامه لمخاطبيه من اليهود بأنهم أبناء الشيطان، كما جاء في يوحنا (لا يمكنكم أن تفهموا كلامي، لأنكم من أب هو إبليس، وتريدون أن تعملوا شهوات أبيكم) . إن هذه العبارة لا تدخل في ذهنية الفيلسوف، سواء فُهِمتْ بمعنى حرفي أم مجازي، فهي مخالفة للعقلية الهلينستية التي يتكلم منها بورفير، ولذلك سماها: «جملة مسرحية»، وسأل: «قل لنا بوضوح، من هو الشيطان، أب اليهود؟ وكيف يكونون مُخطئين في تنفيذ إرادته إن كان الشيطان أباهم؟ فأولئك الذين يُحققون إرادة الأب يفعلون ذلك احتراما للأب وتعظيما له؛ إذا كان الأب شريرا، فإن تهمة الشرّ لا تسقط على الأبناء. قل لنا: من هو إذن هذا الأب الذي بتحقيق إرادته، لا يستمع إليه أتباع المسيح؟ فعلا حينما يقول له اليهود "نحن لنا أب واحد وهو الله"، يسوع يكذّبهم ويقول لهم: "أنتم لديكم كأب الشيطان"، يعني "أنتم من الشيطان". مَن هو هذا الشيطان وأين يوجد، سابّا من لقّبه بهذا الاسم؟».
الشيطان، يقول بورفير، ليس هو المذنب، لكن المذنب من أقام حافز الشتيمة، كما أن المسؤول الحقيقي هو من يضع في الليل عامودا في الطريق وليس من يمشي ويتعثّر فيه، هكذا فإن يسوع عوض أن يعيب عليهم كان من الأجدر به أن يغفر لهم، إن كانوا بغير إرادتهم وقعوا تحت سلطة الشيطان .

***
خلاصة القول: لا تطلبوا العقلانية والأخلاق والإنسانية مِن أيّ دين على وجه الأرض، ولا تُصدّقوا أي كتاب دُعيَ، زورا، مقدّسا، وبالتالي ـ وهذه نصيحتي ـ لا تقربوا الأديان ولا تقرؤوا كُتبها إلاّ ومِطرقة النقد والتّهديم بأيديكم.

--------
مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية والإيطالية للقرآن بالتسلسل التاريخي وكتابي الأخطاء اللغوية في القرآن وكتبي الأخرى: https://sami-aldeeb.com/livres-books



#سامي_الذيب (هاشتاغ)       Sami_Aldeeb#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأشرار الأربعة: ورابعهم محمد الطالبي
- أخطاء القرآن اللغوية: 3) إختلاف القراءات: كله عند العرب صابو ...
- الأشرار الأربعة: وثالثهم محمد عابد الجابري
- أخطاء القرآن اللغوية: 2) الأخطاء الإملائية، أو اصابة الله با ...
- الأشرار الأربعة: وثانيهم يوسف الصدّيق
- حوار مع الأستاذ الدكتور محمد المزوغي
- أخطاء القرآن االغوية: 1) الإبهام، أو عندما يتكلم الله صيني
- الأشرار الأربعة: وأولهم يوسف زيدان
- عزيزي المسلم 7: الخاتمة
- عزيزي المسلم 6: هوس التقديس
- هل القرآنيون يلجؤون للتقية أم مهووسون؟
- عزيزي المسلم 5: مجتمع المسلمين
- الأشرار الأربعة: يوسف زيدان، يوسف الصدّيق، محمد عابد الجابري ...
- عزيزي المسلم 4: ثقافة القطيع
- نزلاء العصفورية
- هل هناك أخطاء لغوية في القرآن؟
- عزيزي المسلم 2: تجربة فكرية
- تحريف القرآن
- عزيزي المسلم 2: تبادل الخرافة
- عزيزي المسلم 1: جغرافيا المسلم


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي الذيب - الأشرار الأربعة: ... واخرجْنا منهم سالمين