|
صديقي الفأر
ملهم جديد
الحوار المتمدن-العدد: 6580 - 2020 / 6 / 1 - 10:31
المحور:
الادب والفن
بعد أن أغلقت المطاعم التي تنتشر في الشارع الذي أعيش فيه في نيويورك أبوابها بسبب الحجر الذي فرضه وباء الكورونا ، تكاثر عدد الفئران التي تغزوا البيوت بحثا عن الطعام ، و كان نصيبي منها فأر لمحته مرتين يركض تحت البراد ليختفي تحت الفرن ، و في الليل ، كنت أحس بوجوده من خلال الخشخشة التي كنت أسمعها قادمة من جهة المطبخ ، و مثل أي إنسان معاصر يعيش في مدينة كبيرة و مكتظة ، فقد كنت أحتفظ بمصيدة فئران في مكان ما ، لكن نسيت أين وضعهتا ! بحثت عن المصيدة و وجدتها ، ثم نصبتها له مع قطعة جبنة مغرية و ثمينة في هذا الوقت من أوقات الحجر . و كإنسان مغرور يظن بأنه أذكى من غيره من المخلوقات ، اعتقدت بأني أعرف كيف يفكر الفأر ، لأكتشف من دون أن أتخلى عن غروري ، بأنني لست فقط لا أعرف كيف يفكر الفأر ، بل الفأر هو الذي يعرف كي أفكر ! ، فكان يتجنب المصيدة ، و يشيح بوجهه عن الإغراء الذي تمثله قطعة الجبن ، ليكتفي ببقايا الطعام المتناثر على الأرض . و حدث أكثر من مرة ، في منتصف الليل ، وبينما أنا مسترخ على الصوفا ، كنت أراه يتسلل بهدوء من غرفة التدفئة ، ثم يقترب من المصيدة ، يتأملها لبعض الوقت ، و أحيانا يدور حولها ، ثم يعود و يتأملها من زوايا مختلفة ، فأتأكد بأنه سوف يرتكب الحماقة التي ستودي به ، و يخالجني ذلك الشعور باقتراب النصر ، ثم لا يلبث الفأر أن يخيب أملي ، و يختار القليل المضمون بدل الشهي الذي قد يكلفه حياته . إلى الآن لم تكن المواجهة بيني و بينه قد أخذت الطابع الشخصي ، و احتفظت بالطابع التقليدي ، هو يريد ( و هذا حقه ) أن يأكل ، و أنا أقدِّر كفاحه ، بينما أريد أنا ( و هذا حقي ) ، أن لا يعتدي أي كان على حرمة منزلي ، و أشك في أنه كان يقدِّر حقي هذا !، لكن ، و كما يقولون في العلم العسكري ، لا توجد معركة تسير كما هو مخطط لها ، و بسرعة دراماتيكية حدث تحول مهم لتصبح المعركة شخصية و شخصية جدا ، فقد استيقظت في صباح كوروني كئيب ، وقبل أن أتجه إلى الحمام ، ألقيت نظرة على المصيدة لأكتشف بأن قطعة الجبن قد اختفت ، و لا أثر للفأر ، و لن أقول اللعين ( فمن تقاليد الفروسية احترام الأعداء لبعضهم البعض ) ، و للحقيقة ، ما خفف من طعم الهزيمة هو أنها كانت بلا شهود ، فعللت النفس بالأمل بالقبض عليه في المحاولة الثانية ، عدت و نصبت له الفخ ، وقد لاحظت بأنه طيلة مدة الحجر التي مضى عليها أسبوعان ، لم أشعر بمعنى لحياتي كما أشعر الآن ، فقد صرت أنام على أمل القبض على الفأر و أستيقظ نشطا للإحتفال بانتصاري على الفأر ، لأكتشف أن الفأر يراكم انتصاراته بينما أراكم أنا هزائمي . فجأة لا حظت اختفاء أي أثر للفأر ، المصيدة ما زالت منصوبة و قطعة الجبنة الشهية في مكانها ، لكن لا أثر للفأر . مرّ يومان و شعرت بالكآبة ، لقد نسيت ثأري معه ، كل ما أريده الآن أن يعود ، و ها أنا في اليوم الثالث أشعر بالقلق عليه ! ماذا يمكن أن يكون قد حدث له ! أنا متأكد بأنه لم يغادر المبنى ، و أخذت أفكر بالإحتمالات ، بعضها كان كئيبا و بعضها كان يحمل بعض الأمل بأنه ما زال على قيد الحياة . فكرت بجاري الهندي الذي يسكن في الشقة المقابلة لشقتي ، رجل خمسيني مهيب و مسالم ، عنده كشك لبيع الجرائد ، و كان قد أخبرني في أحاديث متفرقة بأنه من أتباع مذهب يؤمن بأن للحيوانات أرواح مقدسة مثل أرواح البشر ومن الحرام قتلها حتى لو لجأت إلى الإيذاء ، فاستبعدت أن يكون الفأر قد لقي حتفه على يديه ، و في الطابق السفلي كان يسكن جاري الصيني ، و هو الآخر رجل مسالم لا أعرف كيف أنجب أربعة أولاد ، فهو إما يعمل ، أو نائم من أجل أن يستيقظ نشيطا في اليوم التالي لمعاودة عمله ، في الحقيقة ، و مع أني كثيرا ما أحرص على عدم التفكير على أساس الأفكار المسبقة و الإتهامات التي تتقاذفها الأعراق البشرية بين بعضها البعض ، إلا أن فكرة أن يكون هذا الجار المسالم قد قبض عليه و أكله خالجت ذهني ، و تذكرت بأنه في أحدالأيام قال لي ممازحا ( مع أنه لم يكن مزوحا ) بأننا نحن الصينيين نأكل كل شي له أربعة أرجل ما عدا الطاولة ! . أما جاري العربي الذي يسكن مقابل الصيني ، فكان شخصا أميا عنده محل سمانة في الشارع الذي أعيش فيه ، و حتى بعد ثلاثين عاما من وجوده في أميركا فإنه ما زال يطلق على الأفارقة الأميركيين إسم العبيد ! ، لم تكن علاقتي به جيدة ، فمن حوالي السنة أوقفني عند مدخل البناية و بيده ورقة ، قال لي بعد أن ألقى السلام بأنه بعد أن كثر المسلمون في الحي ، فقد قرر هو و بعض الأخوة أن يجمعوا تبرعات لبناء مسجد صغير ، أتذكر بأني نظرت إليه و كنت نصف سكران و قلت : بأني لم أدخل المسجد في حياتي سوى ثلاث مرات و كان ذلك من أجل استخدام الحمام . امتعض الرجل و انقطعت علاقتي به كليا ، لكني التقيت به حديثا ، و بمحض الصدفة ، في صيدلية الحي منذ يومين ، كان برفقة عربي آخر ، تحاشينا أن تلتقي نظراتنا ببعضها البعض، لكن بدافع من الحشرية ، فقد أنصت لحديثه ، و سمعته يقول لصديقه بأن في شقته فأر لعين رَآه أكثر من مرة يخرج من سجادة الصلاة الملفوفة و المركونة في الزاوية و يخشى أن تبطل صلاته بسببه ! و في الطابق الثالث ، كانت هناك شقتان ، واحدة معروضة للإيجار، بينما كان يسكن في الشقة المقابلة لها رجل بولندي طويل و قوي البنية ، مرح و بشوش غير أنه في حالة سكر دائم ، ومع أني سكنت في البناية قبله ، فما زال إلى الآن و بعد سنة من انتقاله إليها ، مازال يعرِّفني على نفسه و كأنها المرة الأولى التي نلتقي فيها ، و يتمنى لي إقامة سعيدة في شقتي الجديدة ! و فكرت بأنه من المستبعد أن يكون الفأر قد لقي مصيره في شقته ، فإذا كان قد استطاع النجاة مني ، فإنه لم يكن من الصعب أن ينجو منه ، هذا إذا كان البولندي قد لاحظ وجوده أصلا ! . الآن أجلس وحيدا ، لا أعرف ماذا حدث لفأري العزيز ، و ما يخفف من وحدتي هو صورة كنت قد التقطتها له بموبايلي بينما كان واقفا يتأمل قطعة الجبن في الفخ ، و إذا كنت في السابق أذهب إلى النوم آملا أن يكون قد علق في المصيدة ، فإنني الآن أذهب إلى النوم آملا أن أستيقظ و ألمحه حيّا يرزق ، بينما لا أكف طيلة يقظتي عن تفقد قطعة الجبن التي و ضعتها له قرب الفرن ، قطعة جبنة في صحن من الصحون التي كنت فيما مضى أقدم فيها الطعام لضيوفي الأعزاء .
#ملهم_جديد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفك
-
رجل حر ، و لكن ! / قصة قصيرة
-
هل يستحق المجد الأدبي عناء السعي إليه / ترجمة ملهم جديد عن م
...
-
صديقي الأميريكي
-
دور النخب الثقافية و السياسية في الأزمة السورية وفي صياغة أس
...
-
دور النظام السياسي الحاكم في الأزمة السورية
-
الصغيرة و الحرب
-
وداعاً يا قرطاج/ قصة قصيرة
-
في مكتب السيد الرئيس / قصة قصيرة
-
قصة قصيرة
-
حكاية ليست للروي / قصة قصيرة
-
على الجبهه الشمالية
-
على باب السيد الرئيس / قصة قصيرة جدا
-
الحبل
-
الرأس المقطوع
-
الشرق
-
العاشق / قصة قصيرة
-
القنَّاص
-
حدث في الأسبوع الماضي /قصة قصيرة جداً
-
تلك الرائحة
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|