زاهر رفاعية
كاتب وناقد
(Zaher Refai)
الحوار المتمدن-العدد: 6570 - 2020 / 5 / 21 - 20:48
المحور:
الادب والفن
مضت بضعة أيّام على الحوار الذي دار بين "زينة" ووالديها بخصوص حادثة التحوّل الجنسي التي قامت بها الفتاة "نورا هشام سليم" لتصبح الشابّ "نور هشام سليم". استيقظت "زينة" المتنكّرة بجسد صبيّ يافع اسمه "محمّد" على ألم أسفل بطنها, وراحت تتلوّى كمن به مسٌّ من جان, فهرعت أمّها لتجد ابنها "محمّد" يمسح الأرض بثيابه من شدّة الألم.
- في أيه يا ابني مالك؟
- سكّين وبتقطّع بأمعائي يا ماما.. الحقيني يامّا.. هموت.
- طب استنّى .. لا حول الله.. البس العباية واجيلك..
غادرت "أمّ محمّد" غرفة ابنها لتعود بعد أقل من دقيقة بلباس الخروج من المنزل وعلى رأسها الغطاء, مدّت يدها لتساعد ابنها في الوقوف على قدميه, فمشى محمّداً بجانبها منحنياً نصف انحناءة واضعاً يده أسفل بطنه.
كانت السّاعة قد جاوزت العاشرة صباحاً, حين ألفيا زوجها "أبا محمّد" عند باب دكّانه العتيق الذي يجاور باب عمارتهم.
- رايحين فين يا حبايب؟
- هاخد ابننا محمّد أودّيه الدّكتور, معرفش حصلّه ايه.
- مالك يا ابني ؟ في ايه يا محمّد؟
- أمعائي بتتقطّع يا بابا. أرجوكم الحقوني مش قادر.
- طب اطلعي البيت يا ام محمّد وأنا هروّح مع محمّد عند الدّكتور, متخفيش انشالله خير... والا يا إبراهيم. خود بالك من الدكان أغيب ساعة وارجع.
صعدت "أم محمّد" المنزل بينما ركب محمّد مع أبيه في العربة المتواضعة ذات العجلات الثلاث, استغرق الطريق عشر دقائق في الحرّ المعتدل ولكن دون زحام, فالزمان زمان كورونا.
وصلا عيادة الطبيب التي كان بابها مغلقاً فضغط أبو محمّد زرّ الجرس, وما هي إلّا بضع ثوانٍ حتى أطلّ وجه الموظّفة من خلف كوّة صغيرة في الباب. ثم وبعد جدال استمرّ ليس طويلاً وافقت الموظّفة على فتح باب العيادة وسمحت لمحمّد وأبيه بالدخول بعد أن ناولتهما كمّامتين يستران بهماوجهيهما, فاللوائح صارمة (لا يدخلنّ أحدٌ حاسي الأنف أو عاري الشفاه) على الرّغم من أنّ الطبيب لم يكن سوى الدّكتور “سامح" ابن خالة "محمّد" أي ابن أخت "أمّ محمّد".
- اتفضّل عمّ أبو محمّد, لولا العيب كنت قلت الحمد لله على وجع محمّد, ده العيادة نوّرت, بس الحمد لله على كل حال. ازيك يا محمّد ازيّك يا خوي الصغير, يلا اتفضّل اتمدد فوق السرير وقول لي بيوجعك فين.
تمددّ "محمّد" فوق سرير الطبيب وكشف عن منطقة أسفل الصدر إلى ما دون السرّة, ثم ترك أصابع الطبيب الماهر تتبّع خيط الألم مسترشدة بشدّة صراخ "محمّد", ثم ما لبث الدكتور "سامح" أن تناول رأس خرطوم جهاز التصوير بالأمواج فوق الصّوتيّة وأمطره بالمواد المزلقة قبل أن يضعه أسفل بطن ابن خالته "محمّد" ويحرّكه بمهارة في جميع الاتّجاهات مثبّتاً ناظريه إلى شاشة العرض, ما لبث أن فغر فاهه من الدّهشة وطلب الإذن من "أبي محمّد" وابنه بالسماح له برؤية الأعضاء التناسليّة لمحمّد والمرور من تحتها بقبضة الجهاز الذي يحمله بيده.
- اتفضّل يا دكتور خد راحتك, ده احنا رجّالة ببعضينا لا إله إلّا الله. والا يا حودة اقلع البنطلون ده ابن خالتك عاوز يعدّ بضانك ها ها ها ها .. لا استنّى ده أنا هساعدك انت متتحركش ألف سلامة عليك يا حبيب أبوك.
ثمّ وبحركة مباغتة أمسك أبا محمّد سروال ابنه وأنزله حدّ الركبتين فندت عن محمّد صرخة حياء مكتومة أردفها أبا محمّد بضحكة صغيرة قائلاً (والا حودة استرجل, مالك بتستعرّ من بضانك ولا أيه؟ لا حول الله !!) وهنا طلب الدكتور "سامح" من زوج خالته بلهجة آمرة مؤدّبة أن يستريح على الكرسي, فجلس "أبا محمّد" وابتسامة مرحة مشوبة بالقلق تعلو شفتيه من تحت الكمّامة.
ما إن انتهى الطّبيب من إجراء الكشف اللازم حتى قام بتجهيز إبرة ثم حقنها في عضلة من جسد ابن خالته وطلب من الولد بلطف أن يلبس ثيابه وينتظر أباه في الخارج, ففعل محمّد ما طلبه منه الدّكتور سامح وأغلق الباب خلفه.
قام الدّكتور "سامح" فغسل يديه جيّداً ثم قام بتعقيمهما بمحلول كحولي مركّز قبل أن يجلس خلف طاولة المكتب في مواجهة زوج خالته "أبي محمّد" ودار بينهما من الحديث ما دار:
- اسمع يا أبو محمّد, معرفش ابتدي منين, بس صحّة ابن خالتي مش كويسة, مش كويسة خالص! هاكتبله على حقن وحبوب مسكّن بس ده ينفع لأيّام معدودة مش أكتر.
- استغفر الله العظيم في ايه يا دكتور؟ ده أنا أبيع عيينيّ عشان حودة, ده أنا مليش حيلة في الدّنيا غيره, قول يا دكتور انا ابتديت أخاف أكتر!
- حمادة ابن خالتي ربّنا يحفظه محتاج عمليّة جراحة بشكل عاجل, ده ربّنا سبحانه قدّر أنّ حمادة يجي الدّنيا واد وبنت بنفس الوقت, بس الحمد لله ما أنزل الله من داء إلّا وأحدث له دواء. وحالة حمادة ابن خالتي حالة معروفة جدّاً في الطّب ولو أنّ نسبتها قليّلة شويّة, المهم أنّ حمادة لازم نفتحله طريق عشان الدّم المتجمّع جوّا الرّحم بتاعه بسبب الدّورة الشهرية يخرج برّا , وده هيدّينا الوقت عشان نخطط للعمليّة الجراحيّة الكبيرة واللي هتخلي ابن خالتي أو بنت خالتي (منعرفش) يعيش بصحّة كويسة وراضي عن نفسه زي ما ربّنا خلقه وأراد له.
ساد صمت ووجوم على وجه "أبو محمّد" ما لبث أن انفجر بقهقهة دوت في أرجاء العمارة ثمّ مسح دموع الضّحك من عينيه واتّجه نحو الدّكتور سامح قائلاً:
- والله دمّك شربات يا ابني يا سامح, هههه , ده أنت ابن أبوك بحق وحقيق. المهم يا ابني ده أنا كده اتطمّنت منّك أن "حودة" بخير وميلزموش حاجة, ربّنا يحفظك يا سامح ربّنا يرزقك يا حبيبي. ده أنا كده عن اذنك عشان تركت إبراهيم بالدّكان ولازم ارجع. سلّم على ابوك وعلى اختي "أم سامح"...
همّ أبو محمّد بالوقوف إلّا أن صوت الدّكتور "سامح" أمره بحزم أن يجلس:
- اسمع يا عم "أبو محمّد" أنا مبهزّرش بكلمة, دي إرادة ربّنا وده العلم والطّب... لو مش عاجبك يا عمّ يبقى ده يرجعلك, بس لو بقي الدّم متجمّع جوّا رحم ابن خالتي "حمادة" ومخرجناهوش بعملية فوراً فأنت هتكون بتغامر بحياة ابنك لا سمح الله بعد مدّة مش هتطول.
- آه فهمتك يا دكتور, متقول من الأوّل ده حودة محتاج عمليّة زايدة وللا حاجة من دول الأورام اللي تتشال بجراحة وبيرجع الواد زي ما كان وأحسن. عمّالك بتقلّي رحم مبايض ودورة شهرية ومش عارف ايه, انت مشفتش "بضان" ابن خالتك ولا ايه؟ لو عاوز ده انا .. اسمع اسمع ... ولا يا حودة ...حوووودة ... تعال ده ابن خالتك عاوز يعدّ بضانك مرّة تانية هاهاهاها..
فتح محمّد باب غرفة المعاينة وقد تحسّن لون وجهه قليلاً, فابتسم له الدّكتور سامح برفق قائلاً "مفيش يا حودة, أنا كنت عاوز اسألك لو اتحسّنت بعد الحقنة" فأجاب محمّد "آه شكراً يا دكتور أحسن من الأوّل" فأردف الدّكتور سامح "طب اتفضّل استريّح برّا عشان البابا مش هيتأخّر" . استدار الدّكتور "سامح" ناحية زوج خالته قائلاً بنبرة تحمل شيئاً من العتب القاسي:
أنتم أهل واحنا عيلة واحدة, بس أنا دكتور وشغلانتي أن أنا اقولّك, حمادة ابن خالتي عنده رحم ومبايض و"كس" لا حول الله, آسف عالفجاجة دي يا عمّي, بس لازم نلحق الواد قبل ما يجرالو حاجة ويتسمم بالدّم الفاسد جواه, وبعد كده نبقى نتكلّم في موضوع جنس "حمادة" ونشوف هوّ هيبقى بنت خالتي وللا هيفضل ابن خالتي. اتفضّل ده رقم الدكتور "عبد العظيم" أستاذ الجراحة لازم تزوره وتحجز معاه موعد بأسرع وقت, ولو احتجت حاجة اتّصل بيّا أنا تحت أمرك عشان منتأخّرش على حمادة في العملية. ومن الآخر كدة: الأسبوع ده لازم محمّد يخضع للعمليّة أو لا سمح الله مش هيكون بخير.
اختنق "أبو محمّد" بكلماته وهو يقول للدكتور سامح: (أنت مش بتهزّر ! لا ده تقصد يعني , لا حول الله... ازاي.. كس؟!! استغفر الله اللهمّ إنّي صائم.. جراحة ودورة لأ.. ده رحم انت قلت.. لا حول الله .. لأ ده انت بتقول ايه يا دكتور؟)
قاطعه الدّكتور سامح بلهجة تحمل الكثير من التّعاطف:
- فاهمك كويّس يا عمّ , بس دي إرادة الخالق سبحانه, بسم الله الرّحمن الرّحيم ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ-------- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ-------- ۖ-------- وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) صدق الله العظيم..... مش يمكن ربّنا أراد يختبر صبرك وشكرك النّعمة؟ مش يمكن لا إله إلّا هو عاوز يشوف حنانك ورعايتك لـ"حودة" ابن خالتي. مش يمكن سبحانه عاوز يأجرك الصّبر على الضرّاء ويشوف ان كنت حضرتك هتعالج ابنك أو تتركه لا سمح الله يعيش نص نص لا هو عارف يعيش راجل ولا هو عارف يخلّف ويصير ستّ وأمّ؟
أخذت العبرات طريقها من عينيّ أبو محمّد تنهمر بخشوع, أسند الشائب الذي جاوز السّتين من العمر راحتيه إلى طرف طاولة المكتب, وساقاه بالكاد تقويان على حمل جسده. تناول الورقة التي تحمل اسم الدّواء وعنوان الطبيب الجرّاح , دسّها في جيب دشداشته بصمت تعلوه نظرات تشبه نظرات المحكوم بالإعدام قبل تنفيذ الحكم بثانية.
استدار ببطئ.. فتح الباب.. أمر ابنه بنظرة صامتة أن يتبعه فقام محمّد ولحق بأبيه ثمّ ركب الاثنان عربة الأب ذات العجلات الثلاث, ولكنّ "أبا محمّد" لم يأخذ الطريق إلى المنزل, بل أخذ الطريق المؤدّي إلى خارج المدينة, وما إن وصلا ساحة بناء كبيرة على حدود المدينة بعيداً عن الأعين حتى أطفأ "أبو محمّد" محرّك العربة وترجّل منها والصمت يلازمه, أومأ لابنه بالنّزول, فترجّل محمّداً هو الآخر, ثم التقيا عند مقدّمة العربة.
أمسك "أبو محمّد" كتفي ابنه بقوّة بينما كان هذا الأخير مطرقاً برأسه, ثمّ مسح "أبو محمّد" رأس ابنه بحنان وضمّه ضمّة قويّة وراح يقبّل رأس الابن ويمسح دموعه المنهمرة بشعر "محمّد" الكثيف والغزير. وراحت تجوب ذاكرة الأب صور ابنه ذا العينين الكحيلتين برمشيهما السوداوين فاحشي الطول والغزارة, ونظرات عينيه التين يشوبهما شيء من الأنوثة كان "أبو محمّد" يعزوا تلك النظرات بجانب صوت ابنه النّاعم ووجهه الأجرد من أي شعرة إلى عمر الولد الصغير, ولكن الآن لم يعد هناك من مجال لإخفاء الشمس برأس الإصبع.
ترك "أبو محمّد" ابنه وأخذ يهرول بشكل دائري في المكان رافعاً يديه للسماء, ثم أخفى بهما وجهه الباكي وهو يصيح وينوح (يا الله.. يا رب... حسبنا الله ونعم الوكيل ... ارحمنا بجاه سيدنا النّبي .. يا رب) ثم خارت قواه فركع على ركبتيه وهو يندب وينوح, فتقدّم الولد ودموعه تسابق دموع أبيه فاحتضن أباه محاولاً أن يهدّأ من روعه وهو يقول (لا إله إلّا الله ..يا بابا.. لا إله إلا الله) فاجابه الأب بصوت مختنق (محمّد رسول الله .. محمّد رسول الله يا حبيبي.. يا الله.. أنا ببكي بس مش بعترض يا الله.. اللهمّ أجرني في مصيبتي .. حسبنا الله ونعم الوكيل) ..
أخذ الولد بيد أبيه وقاده كما المشدوه ثمّ أجلسه أرضاً في ظلّ العربة وقام فأحضر زجاجة الماء وأخذ يغسل وجه أبيه بيديه ثم جلس بجانبه وأسندا رأسيهما إلى العربة وساد صمت عميق.
هبّت نسائم لطيفة على وجهيهما حاملة معها رسالة إلهيّة, راح كلّ واحد منهما يفهمها كما شاءت له حاله أن يفهمها.
#زاهر_رفاعية (هاشتاغ)
Zaher_Refai#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟