|
الفلسفة السفسطائية وتفكيك النص المسرحي : إلماحة في تأملية الميتامسرح
حسن عبود النخيلة
الحوار المتمدن-العدد: 6570 - 2020 / 5 / 21 - 17:12
المحور:
الادب والفن
الفلسفة السفسطائية وتفكيك النص المسرحي إلماحة في تأملية الميتامسرح
د. حسن عبود النخيلة إذا كانت الجدلية القائمة بين النسخة والأصل ، والحقيقة والوهم ، والواحد والمتعدد ، والساكن والمتحرك ، والمرئي واللامرئي ، أفكار تكرس الخاصية التأملية في الممارسة الميتامسرحية ، وتؤسس لمنظومتها الفكرية ، فإن للفكر السفسطائي مكانته في هذا الجانب ، عبر تركيزه على المفارقة القائمة بين الحقيقي والوهمي بوصفهما يتولدان من منهجية (صدق الأضداد) التي يقوم عليها الفكر السفسطائي الذي (( يجعل الرأي صادقاً وكاذباً في آن واحد . ذلك انك عندما تبدي رأياً حول موضوع ما فأن رأيك هو لك الواقع الصحيح وفقاً للمنهج ، أما بالنسبة للآخرين ممن يقضون في الموضوع فهي أنهم يعارضون رأيك هذا ، فلابد أن رأيهم هم أيضاً واقع صحيح وفق المنهج ذاته ، فما هي النتيجة المترتبة ؟ المترتب على ذلك هو انك ترتأي لنفسك آراء صحيحة واقعية وترتأي للآخرين آراء وهمية فرأيك إذن صادق وخاطئ))(1) . وهكذا منحت الفلسفة السفسطائية الأحكام الفكرية مجرىً واسعاً من الحركة لا تحده حدود ، وعبر تعدد صور الحقيقة بتعدد القائلين بها يتهيأ للوهمي عوامل حضوره - بخاصة - وانه لم يعد هناك حكم ثابت تجاه المظاهر الحياتية ، وحيال الموجودات . فلم يعد هناك من منطق عقلي لتقرير الحقيقة ، وإنما المنطق الوحيد هو منطق الإحساس ، وقد أكد هذا الأمر (بروتاجوراس) ، وهو يقارن ما بين الإدراك العقلي والإدراك ألحسي فعلى حد قوله : (( العقل الخالص من حيث انه يختلف عن الإدراك الحسي أو حتى من حيث انه معيار صحيح كالإدراك الحسي خرافة ))(2) .
وهذا الانسياق خلف الإدراك الحسي هو أساس التوالد في الحقائق اللامتناهية ، المحكومة بكم من الذين يُعملون إحساسهم تجاه ذات الموضوع أو غيره . وهو من قاد بالنتيجة أيضاً إلى فن تحرري جرئ مشحون بالتأمل ، لا يحفل بالمقدس أو العقلي . ولعل المثال البارز على هذه النزعة السفسطائية التي اجترأت على تحطيم الثوابت الفكرية والدينية والدرامية ، هو (يوربيدس) ، عبر أسلوبه المسرحي الذي تجسد على الصعيدين البنائي والفكري ، وقد برزت الخاصية التأملية الميتامسرحية ، في اعتماده على جانبي الفن والواقع والحقيقة والوهم، اللذان يطرحهما في مسرحياته وقد تغذيا بشكل واضح بالمعطيات السفسطائية . فعلى صعيد المجاورة بين الفن والواقع اعتمد (يوربيدس) حيلة الإله من الآلة* التي تمثل استخداماً فنيا ادخله (يوربيدس) عبر مجريات الحبكة الدرامية ، ويتبدى عبر هذا الاستخدام لحظة الفصل بين الواقع والفن ، إذ تتقاطع الخاتمة المتأتية من خلال الإله من الآلة مع المسار الواقعي الذي يقدمه (يوربيدس) لأنه يشكل علامة اقتحام للطبيعة التسلسلية المنطقية للحدث – ويبرز ذلك بشدة في مسرحية (ميديا) . ويتبدى من زاوية ثانية التقاطع والجدل بين ثنائية الحقيقة والوهم ، عبر الأيديولوجية التي تلجأ إليها شخصياته في تعاطيها لمفاهيم تنزع إلى خدمة إيديولوجيا الشك (( فقد تأثر ببروتاجوراس وبروح التفكير الحر التي سادت عصره ، ولذا ترى معالجته للأساطير مشوبة بالشك والنقد الهادم ))(3). إن هذا الشك بصوته المتعالي الذي يجعل من الأفكار ، والقيم ، والعقائد ، محلاً للمراجعة والتأمل يساند في إبراز الخاصية التأملية الميتامسرحية ، وهو يستند بمرجعياته وأصوله إلى المعطيات الفكرية لكل من (بروتاجوراس) و (جورجياس) ، وعلى الرغم مما يجمع بين الاثنين من طابع فكري مشترك لكنهما يختلفان في مديات الإقرار بموضوع نسبية الحقيقة ، فمن ناحية (بروتاغوراس) يرى أن مقاليد البت بأمر الحقيقي واللاحقيقي تعود إلى الإنسان وحده فـ (( الإنسان مقياس الأشياء جميعاً ، سواء ما تعلق منها بحقيقة تلك التي توجد ، أو ببطلان تلك التي لا توجد))(4). وفي ضوء ذلك يكون كل إنسان مشروعاً لإقرار الحقيقة ، ومن ثم تتعدد الحقائق بتعدد أطرافها على اختلاف مستوياتهم ، وتلغى سيادة المفهوم الثابت ، أو الحقيقة الخالصة ، وتبنى على الحقيقة الواحدة حقائق لا متناهية . أما (جورجياس) فإنه يستبعد من الأساس الإمكانات المرتبطة بفكرة بلوغ الحقيقة ، إذ يذهب إلى القول بالحجج الثلاث الآتية : ((1- لا وجود لشيء ، و2- إذا وجد أي شيء ، فلا يمكن معرفته ، و3- حتى لو كانت المعرفة ممكنة ، فلا يمكن مشاركة الآخرين بها))(5). وما أفاد منه (يوربيدس) من خلال تأثره بالأفكار التي جاء بها كل من (بروتاجوراس ) و(جورجياس) هو بروز نبرة الشك في نصوصه وتعاليها أحياناً ، وقد تبدت في موقفه من الآلهة والإنسان ، بخاصة ، ونتج على أثرها تقديمه لشكل فني يمتاز بخصوصيته لكي يحقق انعكاساً يتواشج مع هذه الأفكار . في ضوء ذلك تكون البنية الدرامية المفككة – قصدياً- عند (يوربيدس) - بعدها منتجة للخاصية التأملية - ، تكون هذه ( البنية ) – كما يصفها – (احمد عتمان) – (( الوسيلة الأكثر ملاءمة لنقل أفكاره الجديدة ، التي لم تكن منسجمة تمام الانسجام مع عصر الشاعر . ))(6) . هكذا تحقق هذه البنية الدرامية المفككة صورة للأفكار المفككة بالمقابل ، وعبر جدلية الاثنين اللذين يتجاذبان قطبي الحقيقة والوهم ، والفن والواقع ، تسري الخاصية التأملية وتقوى في بعض من مسرحيات (يوربيدس) .
الهــــــوامش
)) د. محمد حسين النجم ، السوفسطائية في الفكر اليوناني اطروحتها ونقدها ، ط1 ( بغداد : بيت الحكمة ، سلسلة عالم الحكمة رقم (3) ، 2008 ) ، ص 225- 226. (2) المصدر نفسه ، ص 119 . * الاله من الالة : هو حل خارجي للعقدة المسرحية ذلك لانه يأتي في الغالب من خارج الاحداث ، وقد وصفت هذه الحيلة المسرحية بـ " إله من الآلة " لأن الاله كان يظهر فجأة في نهاية المسرحية مرفوعاً على احدى الآلات ليكون فوق مستوى البشر والاحداث الارضية الجارية . د. احمد عتمان ، مقدمة مسرحية : هرقل مجنوناً ، تأليف: يوربيدس (القاهرة : المركز القومي للترجمة ، 2009) ، ص 14. (3) برتراند رسل ، تاريخ الفلسفة الغربية : الكتاب الاول الفلسفة القديمة ، ترجمة: د. زكي نجيب محمود ، مراجعة : أحمد أمين ،( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2010) ، ص 147. (4) أ.هـ . آرمسترونغ ، مدخل الى الفلسفة القديمة ،ترجمة : سعيد الغانمي ، ط1 ( بيروت : المركز الثقافي العربي ، 2009 ) ، ص 48. (5) غنار سيكربك و نِلز غيلجي ، تاريخ الفكر الغربي من اليونان القديمة الى القرن العشرين ، ترجمة : د. حيدر حاج اسماعيل ، ط1 ، ( بيروت : المنظمة العربية للترجمة ، 2012) ص 93. (6) د. احمد عتمان ، مقدمة مسرحية : هرقل مجنونا، تأليف : يوربيدس ، ترجمة وتقديم : احمد عتمان ، ط2 ، ( القاهرة : المركز القومي للترجمة ، 2009) ، ص 24 .
#حسن_عبود_النخيلة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاضداد الجمالية في الفلسفة الاغريقية والتأملية الميتامسرحية
...
-
الرد بالجسد وخطابات اخرى
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|