عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضي أم لأرضي فيك تهويد؟
نامت نواطير مصر عن عساكرها
وحاربت بدلا منها الأناشيد
أمل دنقل
أعتقد أن عبد الناصر عندما تولى السلطة لم يكن طاغية بالمعنى المتعارف عليه وكذلك كان صدام حسين ولكن بمرور الأيام تدخل تغيرات على الشخصية لتنتهى به إلى النكسات والنهايات المأساوية مثل التى نعيش فصولها هذه الأيام .واهم ما يميز هذه الشخصيات كونها تحمل كاريزما الزعامة وتجيد كسب ثقة الآخرين والتأثير في الجموع ودغدغة المشاعر واللعب على التناقضات ، ولا تثق في أحد من المحيطين بها وتهوى أن تستأثر بكل شئ وتستخدم في البداية جميع الأوراق في اللعب ولكن بعد فترة يتم الفرز والانتقاء وتصفية المختلفين حتى تنتهى الأمور إلى جوقة من التابعين الذين يساهمون فى صناعة الطاغية ويستفيدون من نشأة الاستبداد وتجذره.
وعادة ما يحقق الطاغية في بداية حكمه بعد المكتسبات الاجتماعية ويرفع الشعارات الرنانة وربما تخدمه الظروف بمواجهة مع الاستعمار تجعل الجماهير تحمله فوق أعناقها وإذا صعد فعادة لا ينزل بعد ذلك إلا بالموت.
ولكى يصنع الطاغية يجب أن يطيح بجميع الحكماء ولا يبقى سوى على الخصيان وأنصاف الرجال وعديمى الموهبة ومنخفضى الذكاء حتى يكون هو أذكى الموجودين وأكثرهم فطنة وأقواهم عزيمة.
وتبدأ صناعة الطاغية من خلال فرض صوره لتوضع في كافة الدوائر الحكومية وتصبح أخباره هى المادة الرئيسية لنشرات الأخبار وصورته هى أول ما تشاهده وأنت تطالع جريدة الصباح وأيضا أخر ما تشاهده في التلفاز قبل أن تنام.ومع الوقت تصبح كل تصريحاته هامة وكل خطابته ذات مردود عالمى وكل أفكاره توجيهات استراتيجية تغير مصير الأمة . وتصبح المادة الرئيسية في الأعلام هى استقبل وودع ، ومع الأيام يتغير أسمه من مجرد الرئيس إلى فخامة الرئيس ثم تتعدد الألقاب.
اعتقد أن الموروث الدينى يلعب دوره في اشتقاق صفات للطاغية مع الفارق ، فإذا كان لله في علاه تسعة وتسعون أسماً ، يرى المستبد نفسه إلها متعدد الأسماء فهو الزعيم ، الخالد ، المهيب، القائد ، الملهم، المحبوب، المفدى ، المناضل ، قائد الجيوش ، راعى الأرامل ، صديق الأطفال ،صانع الإنجازات ، زعيم المنجزات ، المؤمن ، الصامد ..... الخ أسمائهم الحسنى المصنوعة.
وكما أن نسل الرسول عليه الصلاة والسلام له مكانة مقدسة لدينا نحن المسلمين بشكل عام والشيعة بشكل خاص ، يسعى المستبد لإضفاء قدسية على أسرته باعتبارهم آل البيت فتصبح زوجته السيدة الأولى وأبنائه بل وأحفاده والتابعين من الشخصيات المقدسة التى تفرض علينا أخبارهم وتحركاتهم وحضورهم مباريات الكرة إلى آخر التفاهات التى تطالعنا صباح مساء وتمتد القدسية إلى أتباع الأتباع أخوته وأبناء عمومته وأبناء بلدته ومسقط رأسه فكلهم ينتسبون للزعيم المقدس ويكفى لأى طباخ في قصر الزعيم أن يعلن ذلك لتفتح له الأبواب المغلقة ويحصل على الاستثناءات وتنهال عليه العطايا والهبات فهذا هو عصر الطغاة .
والعجيب في أمر هؤلاء الزعماء أنهم يحبون الاختيال بأنفسهم واستعراض الجيوش التى يتضح لنا في المعارك الحقيقية أنها جيوش من ورق.ويكثر المستبد من خطاباته الحماسية التى يتحدث عنها الإعلام باعتبارها خطابات تاريخية ويصف كل خطاب بأوصاف غير حقيقية من نوع : أصداء عالمية لخطاب الرئيس ، تلفزيون بوركينا فاسو يذيع فقرات كاملة من خطاب الرئيس ، صحيفة إكسليفون الأمريكية تشيد بتصريحات الريس ، وجريدة لوكسليفون الفرنسية تستشهد بمقاطع من خطاب الرئيس . ولا تعرف إذا كان هناك حقاً صحف بهذه الأسماء المجهولة أم إنها من صنع إعلام الطاغية ويكتشف كل من لديه عقل أن ما قاله الرئيس هو مجرد ترهات فارغة لا معنى ولا لزوم لها.
ولكى يحكم الطاغية سطوته يحتاج لأن يحكم بدولة بوليسية ويقتل المعارضين ويذج بالباقين في المعتقلات ويمارس جميع أنواع وأصناف التعذيب والتنكيل التى تعود للعصور الوسطى لكى يظل المهيب القائد والزعيم الخالد.وإذا لعب على بعض الحبال في بداية حكمه فهو مضطر لقطع هذه الأحبال كلما طال بقائه في السلطة ومضطر لبناء المزيد من المعتقلات وتوجيه ميزانية الدولة لأجهزة القمع وابتداع ترسانة من التشريعات المقيدة للحريات حتى يستقر فوق كرسي الحكم أو هكذا يتصور وهو يصعد فوق جماجم الشعب المحروم والمعتقل وينتشر المخبرين والعسس يحاسبون الفرد على كل شئ حتى أنفاسه وهو نائم والحوار الذى دار بينه وبين زوجته ليلة الخميس. فيخشى المرء من أخيه وأمه وأبيه ويتحول الشعب إلى غالبية صامته وبقية من الجواسيس والعملاء ويمنع عليهم الخروج للشوارع في تجمعات إلا بأمر الطاغية لكى يستقبلوه أو يودعوه وهم يهتفون هتاف واحد نسمعه من المحيط إلى الخليج بالروح بالدم نفديك يا ..... وتتنوع الأسماء !!! وتهتف الجموع الميتة بالروح للطاغية الذى سلبها الروح وتهتف له بالدم وغالبيتهم يعانى من الأنيميا وفقر الدم.
أما شكل الحكم فيفضل أن يكون حزب واحد اتحاد اشتراكى هنا اوالبعث هناك أو المؤتمر الوطنى أو المؤتمر الشعبى وتتعدد الأسماء والاستبداد واحد ومع الأيام يندمج الحزب في الدولة والدولة في الحزب فنصبح محكومين بحزب الحكومة وهو الحزب الأوحد ولا بأس أحيانا من وجود بعد الأقزام والمعارضة الكرتونية لاستكمال الديكور الاستبدادى .أما الانتخابات فهى من مخلفات الاستعمار وإذا تمت تزور وأبتدع الاستبداد صيغة الاستفتاء والذى لا يسمح فيه بإبداء الرأى فهو ( نعم ) أو ( لا) ولا شئ آخر.
وتخرج النتائج بحصول الرئيس أو حزبه أو قراره على 99.999% من أصوات الناخبين بما فيهم الموتى والمهاجرين والمعتقلين . ألم يحدث ذلك في آخر استفتاء أجراه المختفى صدام .أليست هذه بدعة استبدادية صنعها لنا الطغاة لأننا شعوب قاصرة غير قادرة على الاختيار.ومع الوقت تندمج أجهزة الحزب في الدولة ويصبح الحزب هو الحكومة والولاء للرئيس هو المعيار الوحيد للكفاءة ، وتصبح الأجهزة التنفيذية أجهزة تابعة تعمل بروح السيد الرئيس وكثيراً ما نشاهد رئيس الوزراء وهو يصرح بناء على توجيهات السيد الرئيس وتنفيذاً لتعليمات سيادته نفذت . هكذا تتحول السلطة التنفيذية إلى تابع للحزب ويصبح الحزب هو الغول المسيطر على أجهزة الدولة وهو حزب بلا برنامج واضح وبلا جماهير ولكنه حزب الموظفين والمنتفعين والذى لا يسمح لأحد بمنافسته فهو يملك أجهزة القمع من شرطة وجيش وقضاء وتتحول البلاد إلى معتقلات كبيرة ويفقد الناس القدرة على الكلام ثم شئ فشيئاً يفقدون الروح ويصبحون دمى تتحرك بلا فعالية أو تأثير.
وعادة يستخدم الطاغية فزاعة الغزو الأجنبى ليضمن ولاء شعبه المقهور وليفرض رأيه ويستنزف ثروات بلاده ، وعادة ما يجد قطاع من النخبة المثقفة يستميلهم بماله وجاهه وهو يحتاجهم ليفكروا له وينظروا ويقعروا ، وعادة يرون أن التناقض مع المستبد ثانوى وأن الأساسى هو العدو الخارجى ، ويكون هذا مبرر لشراء السلاح وتكديسه دون استخدامه والحصول على العمولات المناسبة وهذه هى الذريعة لمواجهة اى صوت يطالب بالإصلاح (فلا صوت يعلو على صوت المعركة) وفى الواقع لا صوت يعلوا على صوت الرئيس.وتكون مواجهة العدو مبرر لاعتقال الآلاف من أبناء الشعب الذين يطالبون بالإصلاح في زمن الحرب.ويخرج الإعلام يهلل للرئيس وتصريحات الرئيس وزيارات الرئيس.وقد كتب الراحل العظيم أمل دنقل يقول :
قلت لكم مراراً
أن مواكب الجنود في أعياد النصر
لا تصنع انتصارا
لأن هذه جيوش احتفالات وليست جيوش مواجهات . كما كتب نزار قبانى :
إذا خسرنا الحرب.. لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه
لأننا ندخلها
بمنطق الطبلة والربابة
هكذا كتب شعراء الأمة يصفون حال الأمة عام 1967 والآن بعد 36 سنة نجد هذه الأشعار صالحة وأنها تصف لنا ما حدث في بغداد وما يمكن أن يحدث غداً في دمشق أو القاهرة مرة أخرى أو في صنعاء أو طرابلس.
أما برلمان المستبد فهو من أعضاء حزب الرئيس وهم يوافقون على كل أفكار الرئيس وكل قرارات الرئيس ويتنازلون للرئيس عن سلطة التشريع فيصبح المشرع الأول وهو المعتمد للقوانين بحيث يضمن انه حتى لو تجاوز البرلمان وأصدر تشريع لا يوافق هوى الرئيس يمكن أن يرفضه ويعيده مرة أخرى للبرلمان . ومع الوقت يصبح الطاغية هو كل شئ :
ـ المشرع الأول ـ رئيس مجلس الوزراء ( أحياناً )
ـ القائد الأعلى للقوات المسلحة ـ رئيس المجلس الأعلى للشرطة
ـ رئيس المجلس الأعلى للقضاء ـ رئيس المجلس الأعلى للصحافة
ـ رئيس مجلس التخطيط ـ رئيس المجلس الاقتصادي
ويجمع الطاغية كل خيوط السلطة في يده ويعد شعبه بأنهار من السمن والعسل بعد اندحار العدوان الخارجى ، ويطالعنا صباح مساء بخطب رنانة يطالبنا بالصمود والتصدى من أجل بقائه جاسماً فوق قلوبنا إلى أن تقع الواقعة أو الكارثة أو النكسة لنكتشف أن هذا الطاغية مجرد مارد من ورق وان جيشه لا وجود له.
واعتقد أن صدام يعد من ضمن قافلة الطغاة الكبار عبد الناصر والأسد والقذافى ، أما الآخرين فهم تكرار للطغاة ولكن في صورة مسخرة.
لنطالع حولنا على امتداد الوطن العربى لنجد طغاة من طراز مختلف ونعرف إننا تدهورنا في كل شئ حتى الطغاة أصبحوا أكثر سوء فهم لا يملكون أى من مقومات الزعامة وليست لديهم أى كاريزما وربما جاءت بهم الصدفة لمواقعهم ولكن البطانة المحيطة بهم هى التى تعطى لهم البريق واللمعان وهم ينفذون فقط ، وإذا ارتجلوا وتركوا الأوراق المكتوبة تكون المسخرة فهم ليسوا زعماء بل طغاة ولكنهم طبعة جديدة يصنعها الإعلام ويضخمها وهى لاتختلف في جوهر الاستبداد عن الطغاة الزعماء .وهم أسود في مواجهة شعوبهم ونعامات في مواجهة العدو الحقيقى يبيعون الأوطان مقابل العمولات والفتات المتساقط من موائد العولمة الرأسمالية المتوحشة.ويحولون الأنظمة الجمهورية إلى حكم العائلة والتوريث كما حدث في سوريا وكما سيحدث في العديد من الدول العربية الأخرى.
لذلك تصبح المواجهة مع المستعمر صعبة وتعلوا القيم الفردية والأنانية ويعم الإحباط والسلبية ، وحين تنشب معارك حقيقة يحدث كما حدث في العراق ونتذكر كلمات أحمد فؤاد نجم بعد النكسة حين قال:
إيه يعني لما يموت مليون
أو كل الكون
العمر أصلا مش مضمون
والناس أعمار
إيه يعني في العقبه جرينا
ولا ف سينا
هي الهزيمة تنسينا
إننا أحرار
إيه يعني شعب في ليل ذله
ضايع كله
دا كفايه بس أما تقول له
إحنا الثوار
وإن شالله يخربها مداين عبد الجبار وعبد الجبار هو رمز لكل الطغاة الراحلين والطغاة الحاكمين ، يكفينا الشعارات عن الرخاء وأننا واحة الديمقراطية ونعيش أزهى عصور الحرية لننام في سلام ونحن مطمئنون وكفاية إننا ثوار.إن صناعة الطغاة لا تتم مواجهتها بدون حرية ، ولا يوقف الطغاة سوى الديمقراطية التى تنتزع انتزاعا ولا تأتى هبة أو منحة من القائد.وبدون الديمقراطية لن نواجه العولمة المتوحشة القادمة إلينا بطائرات بى تو 52 والقنابل العنقودية واليورانيوم المنضب. وبدون حريات لا يمكن المواجهة وسيحدث بدال النكسة ميت نكسة .فهل يمكن أن نتحرك لنوقف صناعة الطغاة حتى نتفرغ لمعركتنا الحقيقية ؟!
منذ سنوات كتب أمل دنقل :
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
إلهامى الميرغنى
17/4/2003