|
هيروشيما : الذاكرة والاستعبار
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 6569 - 2020 / 5 / 20 - 17:50
المحور:
الادب والفن
باحث ومفكر عربي
يوم زرتُ مدينة هيروشيما هتفت من أعماقي: يا الله إنها " مدينة الألم والجمال"، ففي يوم واحد ذهب ضحية تلك الشراسة الساديّة نحو 70 ألف إنسان ومثلهم فيما بعد، على الرغم من وصول الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلى نهاياتها، لكن الرئيس الأمريكي هاري ترومان قرر إلقاء قنبلة ذرية على هيروشيما ومن بعدها على ناكازاكي اليابانيتين، لتجريب ذلك السلاح الفتّاك واكتشاف تأثيراته التدميرية. شعرتُ حينها بمرارة لا حدود لها وأنا أتنقّل مذهولاً في متحف المدينة وأشاهد صوراً وأفلاماً وثائقية وأستمع إلى أصوات الرعب في تلك الفاجعة المجنونة، والتي ما تزال آثارها السلبية قائمة حتى اليوم، ولكن بقدر ما تُعتصر القلوب لمشاهدة وسماع قصص العذاب الفظيع، فإن النفوس تتفتّح حين تبعد قليلاً عن تلك الأجواء الكئيبة والمكفهرّة، لتطالعك أشجار الكرز المورقة، بأزاهيرها المضيئة في الربيع الذي صادف زيارتنا للمدينة، لترى مشاهد آخّاذة حين يتفيأ اليابانيون تحت ظلال تلك الأشجار ويتنشقون رائحتها الزكية، لتزيدهم تأمّلاً وهدوءًا نفسياً فوق ما هم عليه، وهكذا ترى الوجه الآخر لتلك المدينة الفضية الضاحكة العذبة والمتغنّجة، جامعة كل مفاتن الجمال: النور والنظارة والبحيرات والخلجان . استعدتُ ذلك بمناسبة مرور75 عاماً على انتهاء الحرب، حيث شهد العالم أهوالاً لا حدود لها راح ضحيتها أكثر من 60 مليون إنسان، وتدمير الممتلكات والمرافق الحيوية والخسائر المادية الهائلة، تلك التي ليس من السهل نسيانها، إذْ لا بدّ أن تبقى في دائرة الضوء، للاستفادة من دروسها وعِبرِها، وهو ما حدا بالجمعية العامة للأمم المتحدة، الإعلان عن أن يومي 8 و9 مايو (أيار) هو يوم للاستعبار، وذلك بالقرار رقم 5922 الذي اتخذته في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 2004، محاولة استخلاص الايجابي من هذا الحدث التاريخي الذي هيّأ لتأسيس الأمم المتحدة، والتي وضعت هدف " حماية السلم والأمن الدوليين" في صدارة أهدافها، مؤكدة في ديباجة ميثاقها إلى : إنقاذ الأجيال المقبلة من الويلات والحروب، مهيبة بالدول الأعضاء أن تأخذ بعضها البعض بالتسامح وأن تبذل الجهود لتسوية نزاعاتها وحلّ خلافاتها بالوسائل السلمية. وحين نتوقّف اليوم دولاً وشعوباً ومنظمات للسلم والتضامن وحقوق الإنسان وحتى الأفراد، للاحتفال بهذه الذكرى الأليمة ، فالأمر يتطلّب إعمال التفكير بصورة جماعية بمآلات البشرية ونتائج الحروب لصيانة السلام العالمي وتعزيز التعاون الدولي وتنمية روح المصالحة على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية، فضلاً عن تعميق القيم الإنسانية المشتركة والمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات الأساسية، لاسيّما الاعتراف بالآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف. ليس القصد من الاحتفال بذكرى الحرب استعادة المشاهد الحربية أو النجاحات التي حققها هذا الجيش أو ذاك أو تمجيد هذا النظام أو ذاك، بل لتعلّم الدرس جيداً، " فحوار سنة أفضل من حرب ساعة"، علماً بأن حروب ونزاعات ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت بالمئات وقد جرت بالوكالة وتركت هي الأخرى آثاراً مؤلمة، لاسيّما في فترة الحرب الباردة (1947-1989) والصراع الآيديولوجي والحرب الإعلامية والدعائية والنفسية بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، والتي استخدمت فيها جميع وسائل القوة الناعمة الأكثر إيلاماً وخبثاً من الحروب الفعلية، وهو ما استمر بعد انهيار الكتلة الاشتراكية مثل الحصارات الدولية واستخدام العقوبات الاقتصادية وخنق بعض المجتمعات من داخلها ، لكي تسقط مثل التفاحة الناضجة بالأحضان، والعقوبات سلاح سبق للولايات المتحدة أن استخدمته ضد البلدان الاشتراكية والعديد من البلدان العربية والعالمثالثية . لعلّ في الاستذكار فرصة للتأمّل أيضاً، في الأضرار الفادحة التي حلّت بالبشرية والكوارث اللاحقة التي أعقبتها والتي دفع أكثر من جيل ثمنها باهظاً، فانتشار فايروس كورونا اليوم لا بدّ أن يدفع العالم إلى إعادة حساباته، حيث أصبح الجميع دولاً وشعوباً، أغنياء وفقراء، مؤمنون وغير مؤمنين مستهدفاً، فقد تزهق الروح بأية لحظة، الأمر وضع البشرية كلّها في حالة حزن وذهول وعدم طمأنينة وتحدٍّ، وهو ما يحتاج إلى تعاون دولي على جميع الصُعد ، فبدلاً من الانشغال بتطوير وتصنيع الأسلحة وتخصيص الميزانيات الهائلة لها، ينبغي توجيهها للصحة والتعليم والبحث العلمي وعلوم الفضاء، فضلاً عن الاستفادة المتكافئة للبشر جميعاً من نتائج الثورة الصناعية بطورها الرابع والذكاء الاصطناعي، والعمل على إطفاء الحروب وردم بؤر النزاع، والعمل على تنمية العلاقات بروح الإخاء والتعاون والسلام والتسامح لتوفير الاستقرار والأمن وضمان المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة. إن ما يجمع البشر هو الكثير الذي علينا تعظيمه ، أما ما يفرّقهم فهو القليل الذي ينبغي تقليصه، لاسيّما لمواجهة العدو المشترك للإنسانية جمعاء وهو الأمراض والأوبئة، والفقر والجهل، هذا الثلاثي المرعب، لكي تنعم البشرية بالعدل والسلام والاستقرار وصولاً إلى إزالة أسباب اندلاع الحروب والنزاعات ووضع حدٍّ للاستغلال واحترام الحقوق والحرّيات، والتوجّه صوب التنمية، وتلكم إحدى أمنيات البشرية على مرّ التاريخ.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التطبيع والقدس - مداخلتان بجوهر واحد
-
حوار الدكتور شعبان لجريدة الوطن القطرية
-
الدهشة الأولى والرعشة الأخيرة إلى وجدان نعمان ماهر الكنعاني
-
سوريا والعودة إلى منطقة الضمير
-
في التطبيع وذيوله
-
سولجنيتسين وهلسنكي والأيديولوجيا
-
وماذا عن مؤتمر سان ريمو ؟
-
كورونا.. والحرب الناعمة
-
العراق ورواية -الأخوة الأعداء-
-
مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا*
-
ثقافة وحداثة
-
رفعت الجادرجي أثمة استعادة وتأصيل ل - الليبرالية العراقية-؟
-
«كورونا» وقلم أينشتاين
-
من دفتر الاختفاء القسري
-
-الهندوية- وروح غاندي
-
اليوم العالمي لمعرفة الحقيقة
-
ماذا بعد الاتفاق الأمريكي مع طالبان؟
-
الدرس الصيني
-
عن فكرة الحوار والتكامل والأمم الأربع
-
هل «الوطنية» من إرث الحرب الباردة؟
المزيد.....
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
-
مسيرة طبعتها المخدرات والفن... وفاة الممثلة والمغنية البريطا
...
-
مصر.. ماذا كتب بجواز سفر أم كلثوم؟ ومقتنيات قد لا تعلمها لـ-
...
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|