|
قراءة في رواية ( أمريكا)
زهير إسماعيل عبدالواحد
الحوار المتمدن-العدد: 6563 - 2020 / 5 / 13 - 16:57
المحور:
الادب والفن
يلخص الروائي ربيع جابر في روايته ‘أمريكا’ ومن خلال 430 صفحة و126 فصلا، قصة حياة مرتا حداد الشابة الفقيرة الجميلة، التي هاجرت لأمريكا من جبل لبنان في بدايات القرن الماضي بحثا عن زوجها. ويستعرض خلال روايته الشيقة الأحداث والمغامرات التي واجهتها برباطة جأش، والتي صورت بدقة وتفصيل، المعاناة الشخصية أمام خضم تأثيرات وتداعيات الحربين العالميتين ووباء الانفلونزا والأزمة الاقتصادية العالمية في العام 1929. كما تناول بالتفصيل التسجيلي التطورات الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرات ذلك على المهاجرين خلال العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين. ما أدهشني في هذه الرواية الملحمية الطويلة طريقة السرد الشيقة، غير المملة، التي تعتمد على الجمل والفصول القصيرة التي لا تتجاوز في معظمها الثلاث او الأربع صفحات، ومن ثم تقسيم الرواية لأربعة أجزاء. الرواية ممتعة وتدخلك الى الحدث بواقعية وضمن نمط وصفي ينبض بالحياة، وتشبه لحد بعيد اسلوب هيمنغواي وطريقة وصفه المذهلة، كما أنه يعتمد اسلوب التصوير السينمائي من حيث تمكن الكاتب من اضاءة الأحداث والتفاصيل والاحاطة بالتفاصيل في سيناريو مترابط. والكاتب لا يلجأ للتنميق والفذلكة، وانما للتعابير المباشرة المؤثرة، مستخدما في أحيان كثيرة تعابير عامية واصطلاحات امريكية دارجة، بغرض ادخال القارئ داخل الأحداث وكأنه يصيغ التعابير مستخدما اسلوب التصوير الثلاثي المجسم (الدارج حاليا في الافلام)، فعندما يتحدث عن شجرة التين العائلية يقول: غطوا أغصانها ببطانيات الصوف، فلا يتمكن الجراد من أكلها! ثم يقول في أحد فصول ‘جو حداد (الثلاثة) مصورا لحظات ما بعد الموت: كانت هذه اللحظة أغرب ما عرفه في حياته: شعر بأنه يخرج من جسمه ويطفو فوق الأسرة. ينظر الى الوجوه ويتعرف اليها… مع أن معظمهم نيام! ثم يصور ببراعة مشاهد الحرب الكونية الاولى: واخرجت من تحت الأرض جثثا متعفنة…. وبينما يقطع المروج ويرى الرصاص ويحصد السنابل والرؤوس شعر بأنه لا يقهر! ثم يتساءل عن ‘الانفلونزا الاسبانية’: لماذا طرد هذا الوباء خارج الذاكرة البشرية، على الرغم من أنه حصد الملايين! ثم يصف الحياة الغريبة لجندي سوري ـ أمريكي: كلما أرسلونا الى معركة انتهت قبل أن نصل، لم يؤذ حتى يده لأن الحرب قررت أن تمر جنبه من دون أن تلمسه. ويصور بطريقة سينمائية حدثين مهمين، أولهما تداعيات الحرب الكونية الثانية: غواصات اخرى اختفت عقدين من الزمن في الدائرة القطبية، وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية ظهرت من جديد صدئة وشبه معطلة في بحر الشمال، يقودها بحارة ابيض شعرهم وتخت عظامهم في سنوات الاختباء! ومن ثم ينتقل بنفس الكاميرا الروائية واصفا تداعيات الانهيار المالي المفاجئ في ‘وول ستريت’ (في العام 1929): لم يرم أحد حجارة على المصرف. الناس داروا دائخين حول الابواب المغلقة ثم تبعثروا تحت المطر الحزين. ويتحدث عن ومضات التواصل البشري: وصل الصوت اليه آتيا من مجرة اخرى. وافقها الرأي وهو يبحث في عينيها عن أثر من شعاع قديم. وخيل اليه انه يرى شيئا. في اللحظة التالية اظلمت نظرتها وغاب عنه كل أمل! وعن الشوق والحنين للعائلة يقول ببلاغة مجازية: تراصت العائلة، تداخلت الحجارة مثل حائط الدك. نسجوا الخيوط المتينة وتعلقوا هكذا فوق النسيج المتين: كانت الهاوية تحت أقدامهم على الدوام، لن تذهب الهاوية السوداء الفاغرة الفم.. لكنهم في الأعلى، على النسيج المتين، بنوا حياة جديدة. لم يكن بيت عنكبوت. ويصف حالات الاسترخاء ما بين خضم الأحداث المتواترة: كان الهواء يداعب وجهها ورائحة الملح والطحالب البحرية تنسيها العالم الواقعي! ثم ينهي روايته بطريقة مجازية وكأنه لا يريد لبطلة الرواية أن تموت: هكذا اريد أن اتركها، في الحديقة التي زرعتها تفاحا في ‘باسدينا’، تسمع خرير المياه وتحيا الى الأبد. تكمن أحد مزايا جاذبية هذه الرواية في الاختيار الموفق والمعبر لعناوين الفصول، سواء بالعربية أو الانكليزية مثل: ‘ناس الطريق وسبرينغ فالي وجزدان الحرير واخرجوا موتاكم أو الحياة الغريبة لجندي سوري ـ أمريكي…الخ’، وفي التتابع المتسلسل للأحداث وكأنه بنى ‘خارطة طريق’ لروايته دمج فيها الأحداث الشخصية لابطال الرواية مع السياق التاريخي لأمريكا والحربين الكونيتين ووباء الانفلونزا وانهيار الوول ستريت، وقد ضمن الرواية جملة من المعلومات التاريخية القيمة التي تخص الجالية السورية تحديدا، منها الأسباب التي دعت لنمو عدد السوريين المغتربين الى خمسة آلاف، وذلك عندما رفعت مصانع فورد الاجور، واشتباك السوريين بالسكاكين في مانهاتن السفلى في العام 1945 بسبب خلافات وانقسامات دينية ومناطقية، كذلك فهو يفاجئنا في الفصل 74 بمعلومة تتعلق بكيفية نجاح السوريين بالحصول أخيرا على الجنسية الأمريكية (في العام 1915) على الرغم من قناعة الرئيس ويلسون الذي كان يعتبر السوريين عرقا أصفر صينيا. تمكن ربيع جابر خلال روايته أن يقود القراء في رحلة روائية ممتعة حافلة بالشغف والسرد التلقائي مستنطقا التاريخ، ساردا بجمل رشيقة الوقائع والتفاصيل اليومية، مثل تناوله لأحداث انتشار الانفلونزا الاسبانية وحالات التعامل مع جثث الموتى (الفصول المعنونة: اخرجوا موتاكم)، وكذلك وصفه الدقيق للحالة السائدة بعد انحسار الوباء وانتهاء الحروب. لقد استطاع بمهارة أن يسلط الأضواء على مصائر أبطاله وعبث الأقدار بهم، واعتقد أنه استند لكم كبير من الأبحاث والروايات والوثائق الصحافية والمذكرات الشخصية، مما أعطى لروايته نفسا تسجيليا شيقا، وحولها لنموذج ‘عملي’ يحتذى في كيفية كتابة الروايات الجميلة الممتعة. أخيرا تكمن المفارقة المدهشة في أنه على الرغم من براعة الوصف ودقة الالمام بالتفاصيل، الا أن الكاتب الشاب لم يزر أمريكا ولو مرة واحدة في حياته، وهذا مؤشر على ‘النبوغ الروائي’، خاصة اذا ما علمنا أن اولى رواياته صدرت في العام 1992. ‘سيد العتمة’ التي نال عليها جائزة الناقد للرواية
هامش: رواية ربيع جابر «أميركا» تبادل الأماكن وتبدلها في قصة الهجرة والاغتراب ترحل الشابة الريفية مرتا من قريتها اللبنانية إلى نيويورك، وعندما تلمح تمثال الحرية المنتصب على الأطلسي، تخاله العذراء مريم، فتمتم صلاتها الخائفة. وهكذا تصبح الدهشة والغفلة المقولة الأولى في رواية ربيع جابر الجديدة ” أميركا ” الصادرة عن المركز الثقافي العربي ودار الآداب معاً. وعلى أساس مسردوات هذه المقولة، يبدأ الراوي رحلته مبحراً في زمن الهجرة الجبلية اللبنانية إلى أميركا مطلع القرن العشرين إلى منتصفه، يوم غدت تقاليد تلك الهجرة راسخة على امتداد عقود طويلة سبقتها.
#زهير_إسماعيل_عبدالواحد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في رواية (الديوان الإسبرطي)
-
قراءة في رواية ( قصة حلم)
-
جماليات القصة
-
حساب الجمل في الروايات العربية
-
التفكيكية من الفلسفة إلى النقد الأدبي
-
قراءة في رواية الكافرة... على بدر
-
كيف تختار ما تقرأ؟
-
هل تقرأ النساء أكثر من رجال فعلا؟
-
قراءة في رواية العطر قصة قاتل
-
قراءة في رواية واحة الغروب
-
قراءة في رواية بوغيز العجيب
-
قراءة في رواية طائر القشلة
-
قراءة في سبعة روايات
-
قراءة في رواية اللجنة صنع الله إبراهيم
-
قراءة في رواية فاتنة باريس
-
قراءة في رواية الشاهدة و الزنجي
-
قراءة في كتاب دقيقتان و دقيقة
-
قراءة في كتاب... وجع الكتابة
-
قراءة في رواية ( 1900 )
-
قراءة في رواية (ابنة الرماد )
المزيد.....
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|