|
بضعة أعوام ريما: مستهل الفصل الرابع
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6562 - 2020 / 5 / 12 - 20:57
المحور:
الادب والفن
1 كان آكو أول الأخوة الثلاثة، الذين ظهروا تباعاً في الشام بعدما كادت العشيرة هناك تسلو وجودهم في هذا العالم. جاء إذاً كي يقص على أقاربه الخبرَ المحزن، المفيد بأن معظم أفراد أسرته قد قضوا في وباء الريح الأصفر؛ الأب عليكي آغا الصغير، وامرأته ليلو، وضرتها ثريا، وأولادهم. الأخوة الثلاثة، الناجون، كانوا أثناء جائحة الوباء يقيمون خارج الإقليم. جاء آكو بملابس الجيش العثماني، المندحر على جبهة بلاد الشام، فلم تثر هيئته سوى سخرية من صادفه على الطريق. إلا في حالة وحيدة، لما مر يومئذٍ من أمام فتاة سمراء، كانت مطلة برأسها خِلَل باب حجرة مشرفة على الجادة الرئيسة: هذه كانت " خاني "، التي أثارت في بداية الحرب فضيحةً كبرى في هذا الحي الكرديّ الدمشقيّ حينَ تقاسمت رجلاً مع شقيقةٍ لها، تكبرها قليلاً في السنّ. الرجل، كان يُدعى " حسّو "، ما لبث صيته بدَوره أن طار في الآفاق بعدما تم اعتقاله ومن ثم شنقه بصفته " حمو جمّو " ـ زعيم عصابة قطاع طريق، وأيضاً كخصم لقوات الاحتلال الفرنسية. ذلك المنزل، أينَ انبثقت المرأة السمراء الشابة من إحدى حجراته، مثلما تفعل القطة، سيستقبل فيما بعد آكو بصفة الصديق والقريب في آنٍ معاً. كان منزل أسرة الشاب " خلّو "، الشقيق الأصغر لقاطع الطريق، وكان متزوجاً من " عيشو "، قريبة آكو. لقد عُدّ آنذاك من صفوة أولاد الحي، لجهة الوعي والاهتمام بالأمور العامة. إنه بنفسه قاد في سنوات الحرب عصابةً، كانت مهمتها الأساسية تقديم المساعدة للشباب الهاربين من التجنيد والسوق إلى الجبهات البعيدة. عقبَ اندحار العثمانيين، انفرط عقدُ العصابة؛ لكن بعض أفرادها بقوا على اتصال مع بعضهم البعض. خلّو، انفتحَ أيضاً على عدد من الشبان في الحارة، وكان آكو بينهم. هذا الأخير، غبَّ استقراره في منزل يقع بأعلى زقاق أقاربه من آل حج حسين، افتتح دكان سمانة ليرتزق منه. بعد وقت قصير، لحقت امرأته به إلى الشام وكانت في أثناء الفترة السابقة مقيمة لدى أهلها في نواحي ماردين. بضعة أعوام أخرى، ثم رزقا بصبيّ، دُعيَ " شيخموس "؛ وكان أملهما ألا يلحق بأشقاءٍ له، سبقَ أن ماتوا بأمراض الطفولة.
*** وصول حدّو إلى دمشق، في ربيع 1926، اتفقَ مع أوج اشتعال الثورة ضد الفرنسيين. أشهر قليلة على الأثر، ثم سقط خلّو صريعاً مع جميع أفراد عصابة كان يقودها، وذلك في كمين على أطراف قرية معربا، الكائنة إلى الشمال الشرقيّ من الحي، يفصل بينهما جبل قاسيون. في مقابل انحسار أعمال الثورة، فإن حركة جديدة بدأت تنشط في الحي، وكانت تدعو إلى إحياء الشعور القومي الكرديّ. مَن تعهّد أمر الحركة في الحارة، كان موسي؛ شقيق عيشو والابن البكر لزعيم الحي السابق. آكو، كان صديقاً مقرباً لموسي وبعض الناشطين معه. في العام التالي، لما اشتدّ أوارُ الدعوة، تنادى البعض إلى عقد مؤتمر قوميّ جامع في دمشق. لكن بسبب أحداث الثورة ضد الفرنسيين، المترافقة بإعلان حالة الطوارئ، تم التفكير ببيروت كمكان بديل. هنا، طُلبَ من موسي الاتصال بقريبه، حدّو، كي يحاول تأمينَ مكانٍ مناسب للمؤتمر. في ذلك الوقت، كان حدّو يعاشر امرأة أرمنية دونَ عقد زواج. علمنا أن اسمها بربارا، وأنها تغار على رجلها بشدة وتشعر بالوحشة حينَ تُترك لوحدها. استأجر لها منزلاً في بلدة بحمدون، أينَ يقع مقر القيادة العسكرية الفرنسية. وكان المنزل في حي راقٍ، يغلب النصارى على ساكنيه. لكن امرأته كانت بلا أهل. لما سألها أول مرة عما لو كان لديها أقارب في لبنان، أجهشت ببكاء مرير؛ فلم يُكرر السؤالَ بعدئذٍ أبداً. فإنه كان شاهداً على ما أسميَ ب " أعوام الفرمان " المشئومة، الممتدة من السنة الثانية للحرب وإلى سنتها الثالثة، وكان ضحيتها مئات ألوف الأرمن المدنيين. برغم مرور نحو ثلاثة أعوام على علاقتهما، لم يرزقا بأطفال: كان ذلك نتيجة احتياطاتٍ، اتخذتها بربارا، المحاذرة أن تُغضب الله. فيما يتعلق بعدم مرافقتها حدّو إلى الشام، قد يكون بسبب عُمرها المتقدم على عُمره؛ إذ كان في العشرين وهيَ على عتبة الأربعين.
*** لم يترك حدّو رقمَ هاتف، ما تعذّر أمر الاتصال به كي يصار إلى حثه أخذ إجازة والقدوم للشام. على ذلك، اقترحَ موسي على آكو أن يسافر إلى أخيه لهذا الغرض. كون صهره صالح يملك سيارة، رجاه آكو أن يقوده إلى لبنان. قضاء الأغراض باستعمال سيارة القريب الشهم، أضحى روتيناً في العشيرة. هكذا انطلقا ذات صباح باتجاه الأراضي اللبنانية، وكانت هذه آنذاك ما تفتأ تعد جزءاً من سورية، الواقعة تحت سلطة الانتداب الفرنسيّ. وكان من المنتظر أيضاً أن تُعلَن سورية دولةً موحدة ذات نظامها الجمهوريّ، وذلك على أثر انتهاء أعمال الثورة. على طول الطريق إلى الحدود المفترضة، كان في الوسع رؤية آثار الثورة وكانت قد استمرت لما يزيد عن العامين. " الآن، ابتعدنا عن فضول النساء. فهلا تفضلتَ، فأخبرتني عن سبب سفرك إلى أخيك؟ "، طرحَ صالح هذا السؤال ما أن لاحت عن بُعد الذرى البيضاء لجبال لبنان. كان من حُسن اللياقة ألا يحشر أنفه في الأمر، لكن ما دعاه هوَ، " فضول النساء "، تغلبَ عليه أخيراً!
2 منظر الثلج، المغطي ذرى الجبال، أضحى أوضح عن قرب لراكبي السيارة في ذلك النهار الربيعيّ وكأنهما بوسعهما لمسه وتحسس لسعته. لكن الجو كان بارداً، بالفعل، عندما وصلا إلى محطة بلدة بحمدون. لقد شاهدا منازلها من فوق، وكانت العربة ما تفتأ تسير على الطريق الجبلية الوعرة. أكثر البيوت كانت أسقفها من القرميد، تتبدى بهيّةً تحت أشعة الشمس وكأنها أكواخ صغيرة يلهو بها الأطفال. سأل صالحُ سائقَ سيارة متوقفة عن مقر قيادة الجيش الفرنسي. ولأن لهجته سورية، فإن الرجلَ نظر إليه في ريبة وحذر. أجابه بغموض: " حيث تجد مبنىً عليه علمٌ مثلث الألوان! ". " الأفضل أن نجد المقر بأنفسنا، وفي الوقت نفسه نتمتع بالمشي في ربوع هذا المصيف الجميل "، خاطبَ صالحُ قريبه. هكذا تركا السيارة على رصيف المحطة، لينطلقا في جولة على الأقدام. كانت البلدة تقع في سفح واد نضر، تحت أقدام سلسلة جبلية يزفرُ الضبابُ أنفاسه في وجهها مثلما يفعل الخوريّ عند تعميد الأطفال. كذلك كان يُمكن تمييز كروم العنب، المكسو بها قسم كبير من الوادي، تحميها من الرياح صفوفٌ من الأشجار الصنوبرية. صالح كان يعرف هذه الأماكن، بفضل زبائن دمشقيين أغنياء طلبوا منه إيصالهم إلى أماكن معينة في جبل لبنان. فيما آكو استسلمَ إلى ذكريات محزنة، أوصلته إلى جبل مازي، الشبيه بهذه الجنة الأرضية.
*** ساعة على الأثر، وكان المسافران يُحتفل بقدومهما في مقصفٍ يطل على منظر الوادي، الساحر. حدّو، هوَ من اقترحَ تناول الغداء في هذا المكان، مضيفاً فيما يرمق امرأته: " بربارا طباخة ماهرة، بيد أن الوقتَ لم يسعفها لتحضير الطعام " " حقيقة أنا أفضّل هذا المقصف، لأنه يقدم مازوات رائعة "، عقّبت بربارا بعربيّة عسرة. ثم تابعت، وهيَ تنقل بصرها الباسم بين الضيفين: " فيما بعد، على العشاء، ستتذوقون الطعامَ الأرمني وأتمنى أن ينال إعجابكم " " مجرد لمسك للأشياء، تصبح طيبة وشهية "، تولى صالح الرد عندئذٍ. كان معرَّفاً بندرة تحفّظه مع النساء؛ ومن هذه الناحية، كان يتفق مع خلق رجل الأرمنية. بدَورها، كانت ردة فعل بربارا أن أطلقت ضحكة رنانة. لكن وجهها احمر قليلاً. شأن المرأة المقتربة من أعوام العُمر الخطر، كان واضحاً مدى اهتمامها بمنظرها وزينتها: إنها تكاد تكون في سنّ والدة حدّو، لو أن هذه بقيت على قيد الحياة. الحديث، كان قد جرى تارةً بالعربية وأخرى بالتركية. أما في خلال وليمة المقصف، فإن الرجال الثلاثة استخدموا غالباً لغتهم الكردية فيما بينهم. بغتة، خاطبتهم بربارا وكانت قد ألمت بمجرى الحديث: " لِمَ لا يتم الاتصال بحزب الطاشناق لأجل تأمين عقد مؤتمركم، طالما أنه موجه ضد خصمنا المشترك؟ " " فكرة جيدة، وأنا لدي أصدقاء عديدين من ذلك الحزب "، علّقَ حدّو على اقتراح امرأته. *** عقبَ عودة القريبين إلى دمشق، حضرَ منها هذه المرة رجلٌ عالي المقام كي يتباحث مع قيادة الحزب الأرمنيّ في تنسيق الجهود بمواجهة الخصم المشترك. " كاميران " هذا، كانَ من أحفاد الأمير الكرديّ، بدرخان، الذي قضى سنواته الأخيرة في الشام وفيها توفي بنهاية ستينات القرن التاسع عشر. حل ضيفاً على حدّو وبربارا، وما لبثَ أن شعر نفسه في منزله نتيجة إجادته للغة الزوجين، الفرنسية. في ثاني يوم من إقامته في البلدة، اجتمع مع أقطاب حزب الطاشناق في مقرهم الرئيس، فعاد هؤلاء وأكدوا رغبتهم في التعاون مع خصوم الأتراك. رحبوا أيضاً بفكرة إنشاء حزب قوميّ كرديّ، بالأخص حينَ علموا أن أصحاب الفكرة هم من كبار الأعيان المنفيين ممن سبقَ وتعاونوا مع الروس أو رفضوا التورط بمخططات العثمانيين في خلال الحرب العظمى. غبَّ انتهاء اللقاء الوديّ، أولمَ أقطابُ الحزب لضيفهم في مقصف البلدة واستقدموا لهذا الغرض مطرباً، أدى الأغاني الأرمنية والكردية. كان حدّو مدعواً مع امرأته، وقد أدهشَ الضيفَ الكرديّ بتبادله حديث المجاملة مع المضيفين بلغتهم. لكن كاميران اعتذرَ عن البقاء يوماً آخر، كونه يود الإسراع في وضع رفاقه في صورة ما جرى الاتفاق عليه مع الأصدقاء الأرمن. قبيل سفره إلى دمشق اتجه إلى المكتبة العامة في البلدة، أينَ يُمكن العثور على مراجع عديدة باللغة الفرنسية.
* مستهل الفصل الرابع/ الكتاب الخامس، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث/ 5
-
بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث/ 4
-
بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث/ 3
-
بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث/ 2
-
بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث/ 1
-
بضعة أعوام ريما: بقية الفصل الثاني
-
بضعة أعوام ريما: الفصل الثاني/ 2
-
بضعة أعوام ريما: الفصل الثاني/ 1
-
بضعة أعوام ريما: بقيةالفصل الأول
-
بضعة أعوام ريما: الفصل الأول/ 2
-
بضعةُ أعوام ريما: الفصل الأول/ 1
-
حديث عن عائشة: الخاتمة
-
حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ بقية
-
حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ 3
-
حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ 2
-
حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ 1
-
حديث عن عائشة: بقية الفصل التاسع عشر
-
حديث عن عائشة: الفصل التاسع عشر/ 3
-
حديث عن عائشة: الفصل التاسع عشر/ 2
-
حديث عن عائشة: الفصل التاسع عشر/ 1
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|