|
البيت الذي أكلته العاصفة في ميزان (ق. ق. ج)
صبري رسول
(Sabri Rasoul)
الحوار المتمدن-العدد: 6561 - 2020 / 5 / 11 - 17:17
المحور:
الادب والفن
الصّديق رشاد شرف أبدى إعجابه بـ«الميزان النّقدي» لدي رغم افتقاده إلى مقياس الدّقة في قراءة النّصوص، ربّما كان محاولة منه في يجعل الإعجاب رشوة لي، لمعرفة المعيار النّقدي لنصّه المعنون بـ«البيت الذي أكلته العاصفة» إن صحّ التّعبير. تحيَّرت في جنسية هذه القصة، أهي قصة قصيرة، أم (ق. ق. ج)؟. لأنها تتأرجح بين الاثنتين، ففيها عناصر تشدّها إلى الأولى، وفيها أخرى تجرّها إلى الثانية. لكنّني سأقف عندها بوصفها، ق. ق. ج، فكلّ عناصرها تبدو لي من هذا الجنس عدا طولها الذي يزيد عن طول ق. ق. ج الذي لا يزيد عن مئة كلمة في حدّها الأقصى. أهم ما يميّز القصة القصيرة جداً عن الفنون الكتابية الأخرى، إضافة إلى الأحدث والشخصيات القليلة، هو لغتها القوية، المنتقاة بعناية فائقة، التي تتميّز بكثافتها، وإيحائيتها ودقة المفردات المستخدمة، لنرَ هذه السمات في هذه القصّة بعد قراءتها. انتقاء المفردات: هنا سأوضّح بعض المفردات ومدى تناسُبها الدّقيق في أداء المعنى في سياق النّص. بدأت القصّة بـ«ذات مساء خريفي، كانت الرياح غاضبة». في بلادنا، سوريا، العواصف لا تكون في الخريف، وملامح الأشخاص والقرية والبيوت تدلّ على أن الحدث في إحدى القرى الكردية، فهي غالباً تكون في الشتاء، وليس في الخريف، ويُفضَّل أن يكون الاستهلال القصصي بفعلٍ يدلّ على نشاطٍ ما، حركة، لشدّ القارئ؛ والعبارة تلك «ذات مساء خريفي» لا تشدّ المتلقّي إلى المتابعة، إنها توحي إلى إحدى حكايات الحكواتي "كان ياما كان". دلالة عبارة «كانت الرياح غاضبة» قد لا تكون ذات قيمة كبيرة، مقارنة مع «كانت الريح قوية، كانت الرّيح عاصفة». فالرّيح، كاسمٍ مفرد، تدلّ على القوة والعنجهية، فتكسّر، وتجرف، وتهدم، أما عند الجمع فتدلّ على الخير والرَّحمة. هناك لغويون ترصَّدوها في القرآن فوجدوا أنّ لفظة الريح (المفردة) حيثما وردت في القرآن، دلّت على العذاب. «وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم»، (الذاريات41) وحيثما وردت لفظة الرياح (مجموعة) في القرآن، دلَّت على الرحمة: «وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين» (الحجر22). (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (الروم46). وهناك استثناءات في الأمر طبعاً. في العبارة الثانية «والسماء ترسل زخاتٍ من المطر، فتقذفها في كل الاتجاهات وتزداد هيجاناً» نلاحظ ضعفاً في استخدام زخات، صحيحٌ أنّ الزخات أقوى وربما أخطر من المطر، في المعنى اللغوي، لكنّها تستغرق فترات قصيرة جداً، وفي مصطلحات الطقس تعني أخفّ وأضعف، فاكتسبتْ بذلك معاني أخرى لا تدلّ على الخطورة والخوف. «كلماته المبتورة» أعتقد أنّ حالة الرّجل المطرود من البيت في ليلة عاصفة ستجعل كلامه تأتأةً، وليس البتر، فالبتر هو القطع، (لستُ جازماً هنا) الاقتصاد والكثافة اللغوية: القصّة القصيرة جداً لا تحتاج إلى التكرار، بل إلى الكثافة والإيحاء، في العبارة الآتية نلاحظ تكرار (بيتنا، طردنا) وكذلك مفردة (جار) تكررت أعلاها. فيمكن اختصارها (طُرِدنا؛ زوجة ابننا الوحيد لا تريدنا في البيت) بدلاً من «يا جار، طُرِدْنا من بيتنا... ابننا الوحيد طردنا... زوجته لا تريدنا في البيت». أخطاء لغوية: هناك هفوات نحْوية، وأخطاء تؤثر على جمالية النّص، وتخدشُ عذرية المتعة فيه، كاستخدام الفعل للمثنّى المؤنّث، «الحيرة والخجل تسبقان» والصحيح للمثنّى المذكّر. نجد في سياق هذه العبارة «العاصفة كانت تشتد، وبابنا الخشبي يزداد صريراً وأنيناً، ونباح الكلاب تعلو في ليل القرية» أنَّ الكاتب استخدم فعل "يعود" للمثنى، بينما ضمير الملكية للمنزل يعود للجماعة. «وتعودان إلى منزلكم، والصحيح (منزلكما)». وفي عبارة «ونباح الكلاب تعلو» جاء الفعل لفاعل مذكّر بينما اُستُخدِم للمؤنث (تعلو). الصَّرير هو صوت الباب أثناء فتحه أو إغلاقه، أمّا الصوتُ الذي يُصدِره الباب أثناء ضربات الريح فهو الصَّفير. حقيقةً لا أعرف ما الذي يجعل الكلاب تنبح في ليلة مطيرة؟
خاتمة القصة القصيرة جداً من أهم أهداف الكاتب، إذا لم يكن الهدف الأول والوحيد، فيسخّر النّص كلّه لإيصالها إلى المتلقي، وهناك اختلافات كثيرة بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، فالأولى قد تأتي مقفولة، أو مفتوحة، أو غير ذلك، أما خاتمة القصة القصيرة جداً تُعدّ أقوى عنصرٍ في النّص. إنها العنصر المدهش. في هذه القصة جاءت الخاتمة مفاجئة، غير متوقعة، حقَّقت أهدافها في تسليم الرّسالة، وهنا متعة القصة الفنية رغم ألم النهاية « فُجِعَ الأبوان ببيتهم المهدوم الذي لم ينج منه أحد». كان بمقدور الكاتب جعلها إيحائياً لتكون أكثر قوة، لكنّه قفلها بصيغة مباشرة واضحة «... الذي لم ينج منه أحد». تمكّن الكاتب من ضخّ القوة والمفاجأة لنصّه في الخاتمة، فامتصّ الترهّل في بعض مفاصله. عبارات أخرى رغم قلّتها مَنحتْ النّصّ جماليتها وعوّضت جزءاً من الهفوات المتناثرة فيه: (تفرّسني والدي. نكست رأسي كأني أنا المذنب. باللوحة السفلية). يمكن القول في (ق. ق. ج) أنّ علامة الترقيم من أهم مكوناتها فهي تمنح الدّقة لعلاماتها، ويجعل سيمياء النّصّ أكثر عمقاً، وإهمالها أو سوء استخدامها يسيء إلى فهمه. ----------------------------- (القصّة منشورة في صفحته على الفيس بوك Rashad Sharaf، وفي جريدة كوردستان العدد 631).
#صبري_رسول (هاشتاغ)
Sabri_Rasoul#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصّة «انتظار» شمس عنتر في الميزان
-
عندما تغيب معايير النّقد... (كلستان المرعي وعصمت الدّوسكي)
-
صُوَرٌ في العتمة
-
امرأة غامضة حتى الضّجر(ج2)
-
امرأة غامضة حتى الضّجر(ج1)
-
-وزنة حامد- سردٌ متعثّر ولغة محكية
-
استنطاق المسكوت عنه ((ترمي بشرر))
-
سوريا والعيش المشترك
-
ذهنية الكردي
-
أصبحْتُ نمْلةً
-
هدية إيفا
-
«وطأة اليقين» لهوشنك أوسي والتّشكيك بالتّاريخ
-
لماذا يكتب الكرديّ باللُّغة العربيَّة؟
-
وتغفو امرأة ج2
-
وتغفو امرأة (ج1)
-
الصّورة النمطية تؤطّرها محاذير مقدّسة
-
الومضة الشعرية مع الرّيح والمطر والخراف في نارنج(1)
-
الضّوء والصّمت (E)
-
الضّوء والصّمت (D)
-
الضّوء والصَّمت (C)
المزيد.....
-
مصر.. قرار عاجل من النيابة ضد نجل فنان شهير تسبب بمقتل شخص و
...
-
إنطلاق مهرجان فجر السينمائي بنسخته الـ43 + فيديو
-
مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي
...
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|