|
جدلية (يورغن هابرماس) الصارمة
محمد الأحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1583 - 2006 / 6 / 16 - 11:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يَعتبرُ المهتمون بالفلسفة وقضاياها بان (هابرماس) أكبر فيلسوف ألماني معاصر، وربما أكبر فيلسوف في أوروبا والغرب كله. إذ كان منتجا لكتب عدة، ولا يمكن لمشتغل في الفلسفة المعاصرة أن يعبرها، نجدها قد شكلت محاورا هامة في اغلب الدراسات الفلسفية الحديثة. حيث ولد (يورغن هابرماس) 18-6 - 1929 في ألمانيا، وكان مهتما جدا بطلبته الجدد، متفانيا معهم إلى ابعد حد، وكان غالبا ما يقرأ عليهم من مسودات إعماله قبل النشر، وقد تركهم يقولون عنه (بأنه ليس من الفلاسفة الذين يسكنون في برجهم العاجي وإنما ينخرطون في هموم عصرهم وقضاياه). كما وانه كتب كمّاً كبيرا من المقالات الصحافية في الشؤون السياسية من حين لآخر. وله أكثر من قول في عدة مواقف بارزة تناوئ ألمانيا النازية، أو من توحيد ألبانيا مؤخراً، أو من توحيد أوروبا والدستور الأوروبي، أو من العولمة الرأسمالية المتوحشة، أو من قضايا الإرهاب والأصولية، وكان يعشق طريقة تفكير (شيننغ) الألماني، إذ يعتبره أبوه الروحي؛ كتب بحثه الهام عنه، وحصل على الدكتوراه عام 1954م وكان عمره خمسة وعشرين عاماً فقط. ثم عينوه مدرساً في جامعة (هايدلبرغ) من عام 1961 إلى عام 1964م، ثم انتقل كأستاذ متمكن إلى جامعة (فرانكفورت) بين عامي 1964م ـ 1971م. وما بين عامي 1971 ـ 1983 أصبح مديراً بفضل صرامته المعهودة بمعهد (ماكس بلانك) الشهير في مدينة (ميونيخ). ولكن طلبته كانت تطالبه للعودة للتدريس من جديد في جامعة (فرانكفورت) بين عامي 1983 ـ 1994م، وبقي حيويا فاعلا فيها حتى أخذ تقاعده منها، وكان (هابرماس) مجدا في أبحاثه، وبقي حتى أيامه الأخيرة يعنى بأي طالب يقصده لنهل المعرفة. وبقي مواصلا أبحاثه التي توجها بكتابه الضخم (الخطاب الفلسفي للحداثة) والذي هاجم فيه بشدة فلاسفة ما بعد الحداثة وخاصة الفلاسفة الفرنسيين من أمثال: (جان فرانسوا ليوتار)، و(ميشيل فوكو)، و(جاك دريدا). واتهمهم بالسقوط في شباك النزعة (النيتشوية) اللاعقلانية. (إذا كانوا يعتقدون أن فكر ما بعد الحداثة سوف يكون مضاداً للحداثة أو تدميراً لها فإننا نرفضه. فما بعد الحداثة ينبغي أن يكون استمرارية للحداثة لا انقلاباً عليها وعلى منجزاتها الرائعة، التي لا تقدر بثمن )، وكان يشير إلى (حرية الوعي والضمير، وحرية الاعتقاد، حرية الصحافة والتعبير والنشر، وحرية الاجتماعات والتنقل، هذا بالإضافة إلى بقية الحريات السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبالتالي فإن معاداة الحداثة تعني العودة إلى الوراء: أي إلى ما قبل الحداثة، إلى عصور الإقطاع والأصولية الدينية والتعصب الأعمى والاستبداد السياسي، الخ. وهذا ما لا تريده المجتمعات الأوروبية بأي شكل كان)، كان ينتمي إلى الجيل الثاني من مدرسة (فرانكفورت) الفلسفية الشهيرة رغم شهرتها كجامعة تأسست في العشرينات من القرن الماضي، وكان من أشهر مفكريها (يوركهايمر) و(ادورنو) و(ماركيوز) وسواهم. ولكنه في الواقع ينتمي إلى الجيل الثاني من هذه المدرسة لا إلى الجيل الأول. بقي منتميا المعاصرة منفتحا للطلاب والشباب حيث الأفكار المهمة تنتج من تلاقح الأفكار، لأنه كان تلميذاً نجيبا و مساعداً لـ(ادورنو) في الجامعة حوالي عام 1961. وهو يعترف بمدى استفادته من تعاليم (ادورنو) وتوجيهاته السديدة، حتى أصبح أستاذا في علم الاجتماع قبل أن يصبح فيلسوفا. وبما أن ألمانيا كانت آنذاك محافظة إلى درجة الانغلاق، ومعادية لليسار، والشيوعية بتطرف، فإنه راح يستفزهم ويقدم نفسه على أساس انه مفكر بنهج مادي جدلي، ولكنه في الواقع كان أقرب إلى منهج (ماكس فيبر) من (كارل ماركس) نفسه. ثم راح (هابرماس) يدرس أسس الرأسمالية في المجتمعات المتقدمة وخاصة المجتمع الألماني وقد وصفه (بأنه مجتمع يجمع في مكوناته جميع أطياف الشعوب)، وانه توصل بأن الكثير من تحليلات (ماركس) للنظام الرأسمالي صحيحة، ولكن تنبؤاته كانت في معظمها خاطئة. فالرأسمالية لم تسقط (وهذا قوله) بسبب تفاقم أزماتها على عكس ما توهم صاحب كتاب الرأسمال. و إنما عرفت كيف تتأقلم مع الظروف المستجدة وتستمر حتى هذه اللحظة. ولكنه بقي يؤشر باجهار المعلوماتية ووسائل الأعلام والدور الذي تلعبه في المجتمعات الحديثة، والدور البارز الذي تضطلع به الحرب الباردة. ثم ربط بينها وبين السلطة السياسية المنفذة والتكنولوجيا الصاعدة كالصاروخ إلى مستوى يسبق الإحداث، ونقلها من جهة إلى جهة أخرى معاكسة دون حساب، أو قلق، أو أي شيء آخر، وقد وضح (هابرماس) نظريته الجديدة تحت اسم (العقل التواصلي أو الحواري- المتلاقح)، وقال إنه العقل الذي ينبغي أن يحكم المجتمعات الديمقراطية الحديثة، وان المنظمات التي تفرض النظام الفكري الواحد، لأجل أن تحكم سيطرتها على المجتمع، هي بالتالي ستكون بالية، وتخلف مجتمعا منغلقا لا يتواصل بالعالم الذي حوله، وسوف ينقلب عليها في حين غرة، وان الديمقراطية كشرط من شروطها التعددية الفكرية وان مجتمع ليس فيه تلك التعددية، يكون معزولا عن الحضارة، مهما بلغ به التطور التكنولوجي، وقد ربط بينه وبين آداب المناقشة والحوار. وأكد بأن المشاكل لا يمكن أن تحل عن طريق العنف في المجتمعات المتقدمة ذات التاريخ البرلماني والليبرالي العريق، وان تلك المشكلات تخلقها منظمات يتشكل رأسمالها من إثارة النعرات، والإشكالات، والفتن في المجتمع الذي توجد فيه، ومكافحتها يتطلب وعيا لحركة الزمن، وما يفرضه من متغيرات علمية وتكنولوجية، فالطريقة الوحيدة لحلها تكمن في الحوار بين الأطراف المختلفة والمتصارعة وهو حوار عقلاني وديمقراطي في آن معاً. أما المجتمعات المتخلفة التي لا تتمتع بتراث ديمقراطي عريق فإنها لن تحل مشاكلها إلا بعد مشوار شاق من الإنفجارات والعنف، لأن ثقافة الحوار ضعيفة فيها أو حتى معدومة وهناك دائماً طرف يتغلب على الأطراف الأخرى عن طريق القوة. وقد وقال (هابرماس) كل هذه الأفكار عبر كتبه المتلاحقة التي ترجمت إلى معظم لغات العالم، بضمنها العربية، أولها كتابه عن (نشأة البُرجوازية في أوروبا) في القرن الثامن عشر ثم صعودها على مسرح التاريخ بعد انتصار الثورة الفرنسية حتى أصبح المجتمع الأوروبي لأول مرة قائماً على ثقافة الحوار ومناقشة قضاياه العامة في الأماكن العامة، والمقاهي وعلى صفحات الجرائد، أي بعقلية ليست ديماغوجية، أو كوابيس وخيمة، بلغة العصر الإقطاعي. أما في كتابه المثير للجدل الذي نشره (عن النظرية والممارسة عام 1963) موضحا العلاقة الكائنة بين النظرية والتطبيق، ومن المعلوم ثمة مسافة بين كلا هذين القطبين، وأحياناً يكون التنظير شيئاً والممارسة شيئاً آخر. ويضرب أمثالا في وحدات القياس الفيزيائية وآلياتها، فثمة فرق بين كل حضارة وآلة قياسها حيث وحدة قياس المسافات الفرنسية هي الميل، والانكليزية هي الكيلومتر، وما إلى غيرها، مثبتا للعالم اجمع بأنه مفكر كبير يستشرف عصره القادم، على عكس معظم المثقفين الذين كانوا مغموسين في الإشكاليات الماركسية وطوباويتها والتي كانت تشكل دعامة عظيمة من دعامات الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، ومن أعلى رأسهم إلى أخمص قدميهم. حيث مضى مستعرضا فشل دورة التاريخ في أن تتكرر ذاتها، وقد ألف كتاباً ممتعاً تحدث فيه عن كبار فلاسفة الماضي من أمثال (ادورنو)، و(هيدغر)، و(نيتشه)، وسواهم. عنوانه (شخصيات فلسفية وسياسية أوصلتهم الحقيقة). وفي عام 1968 نشر اسماه (المعرفة والمصلحة) كاشفا (وجود علاقة بين المعرفة العلمية والتكنولوجية من جهة، وبين مصلحة الطبقة البُرجوازية أو الرأسمالية السائدة من جهة أخرى، وبالتالي فقد قضى على ذلك الوهم الكبير الذي يقول لنا إن المعرفة في جهة، والمصلحة أو السلطة في جهة أخرى. فالمعرفة السائدة في المجتمع، أية معرفة، ليست بريئة إلى الحد الذي نتوهم)، ثم (التكنولوجيا والعلم بصفتهما أيديولوجيا؛ هنا أيضاً كشف عن الطابع الأيديولوجي، أي المنفعي والمصلحي، للعلم والتكنولوجيا في المجتمعات الأوروبية المتقدمة). وبعد ذلك نشر كتاب (العقل والمشروعية: مشاكل المشروعية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، مناصر حق مشروعية تأكيد الملكية والحفاظ على الإرث الثقافي (في القرون الوسطى الإقطاعية كانت قائمة ضمن آليات الفكر المسيحي، ولكنها بعد الثورة الفرنسية ووصول البُرجوازية إلى الحكم قياسا إلى التقدم الهائل الذي حصل في مجال العلم والتكنولوجيا أصبحت قائمة على العقل الفلسفي أو العلم، وثمة فرق كبير بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات المتقدمة أو مجتمعات ما قبل الحداثة ومجتمعات الحداثة إن لم يكن ما بعد الحداثة، وبقيت الرأسمالية تسخر استخدام العقل العلمي والفلسفي لصالحها وبالتالي فهناك ملابسات سلطوية أو مصلحيه للعقل مثلما كانت هناك ملابسات سلطوية للدين)، و نشر (هابرماس) عام 1976 كتاباً بعنوان: (ما بعد ماركس) وفيه (أوضح الفرق بين ماركس الميت وماركس الحي، أو بالأحرى ما مات من فكر ماركس وما لا يزال حياً. وقدم نظريته عن المجتمع الأوروبي في عصر الرأسمالية بعد أن بلغت ذروتها، وهذا الكتاب استبق على التطورات اللاحقة: أي سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي. وفاق التصور في كتابه الذي أصدره عام 1981م (نظرية الممارسة التواصلية) وقدم فيه أرقى نظرية عقلانية وديمقراطية للمجتمعات الحديثة (إن عقل التنوير لم يمت على عكس ما توهم أستاذه ادورنو وكذلك يوركهايمر). مناوئ لشدة الانحرافات التي تعرض لها عقل التنوير في عصر الاستعمار والحربين العالميتين على يد الفاشية الأوروبية.. (هؤلاء الفلاسفة الذين يدعون أنهم تقدميون هم في الواقع من المحافظين الجدد الحاقدين على الحداثة والتنوير)، وطارحا الشعار التالي: (نريد التنوير، كل التنوير، ولا شيء غير التنوير، ولكن منقحاً ومصححاً ومراجعاً على ضوء تجربة القرنين الماضيين)، ومن دون شك اندلعت معركة فلسفية كبرى بين (هابرماس) من جهة وفلاسفة فرنسا من جهة أخرى. (ألومكم لأنكم لا تأخذون من التراث الألماني إلا الفكر اللاعقلاني على طريقة نيتشه، وقد تعلق بكل ما طرحه (كانط) و(هيغل) التي تمثل التيار العقلاني في الفكر الحديث، وبقي يحارب بكل قوة فلسفة (نيتشه) و(هيدغر) التي اتهمت بتغذية الحركات الفاشية في أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين. بقي (هابرماس) ألماني ملاحق بعقدة النازية، ولكنه بقي يحذر من خطورة أفكار (نيتشه) و(هيدغر) متهما الثاني (بأنه عدو للتنوير)، متيقنا بأنه المدافع الذي لا ينثني عن مسيرة الحضارة العقلانية وفكرة التقدم في التاريخ.
12 حزيران، 2006
#محمد_الأحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شفافيةُ السرد في قصص ضوء العشب
-
الضحك
-
ما ذنب العراقي؟
-
عبقريةُ (ماريو بارغاس يوسا) المذهلة
-
رواية تحت سماء الكلاب
-
رواية العطر لباتريك زوسكند، واقعية كضربٍ من الخيال
-
نص وقراءة
-
الحكواتي
-
الدروب التي لا تصل بطريق
-
رواية غايب لبتول الخضيري
-
الفكر العربي في محيطه الأسود
-
أجوبة الحوار المتمدن للملف
-
قراءة في رواية وردة لصنع الله ابراهيم
-
الشارعُ السياسيّ بعد غياب المثقف
-
لائحة مهرجان بغداد للسينما
-
نوبل للآداب والعرب
-
فوكوياما
-
مزقات الثقافة العربية
-
من النهضة الى الردة كتاب جورج طرابيشي
-
الأعلام الجديد
المزيد.....
-
معالجات Qualcomm القادمة تحدث نقلة نوعية في عالم الحواسب
-
ألمانيا تصنع سفن استطلاع عسكرية من جيل جديد
-
المبادئ الغذائية الأساسية للمصابين بأمراض القلب والأوعية الد
...
-
-كلنا أموات بعد 72 دقيقة-.. ضابط متقاعد ينصح بايدن بعدم التر
...
-
نتنياهو يعطل اتفاقا مع حماس إرضاء لبن غفير وسموتريتش
-
التحقيقات بمقتل الحاخام بالإمارات تستبعد تورط إيران
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|