أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - بلقيس الربيعي - لك تنحني الجبال شذرات من حياته















المزيد.....



لك تنحني الجبال شذرات من حياته


بلقيس الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 6543 - 2020 / 4 / 21 - 17:56
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


2
شذرات من حياته

ولد الدكتور محمد بشيشي الظوالم في الثالث عشر من نيسان (ابريل ) عام 1946 في مدينة السماوة في اسرة متوسطة الحال . ترعرع في حارة شعبية تفوح منها رائحة بارود ثورة العشرين وتزدهر فيها الطيبة . و في” عجد دبعن “ ببيوته الضيقة المتلاحمة الجدران ، شهد مراتع طفولته وصباه .
كان ابوه رجلاً مستقيماً ويعمل كرئيس مراقبين ، و كلما التقيه يروي لي كيف ساهم بشجاعة مع سبعين مقاتلاً في نسف سكة الحديد على مشارف مدينة السماوة في منطقة " جسر بربوتي “ ليعيقوا نقل الجنود الإنكليز من والى البصرة ، وكيف أقدمت قوات الإحتلال البريطاني على إعتقال شعلان ابو الجون ،المعروف بعدائه للإستعمار البريطاني، في سجن الرميثة وكيف أرسل شعلان الى الظوالم طلباً لتزويده بعشرة روبيات أصلية والمقصود بها عشرة رجال شجعان من أفراد عشيرته . وفعلا وصل الرجال الى سجن الرميثة وإشتبكوا مع حراس السجن وإستطاعوا تحرير الشيخ شعلان الذي بادر الى تحريض العشائر فكانت دعوته الشرارة التي أوقدت نار ثورة العشرين لتنتشر نارها من الرميثة لتعم العراق ضد الإحتلال البريطاني . .وقد ذكر ذلك عبد صبري ابو ربيع في قصيدته " ثورة العشرين" قائلاً :
( …. وشعلان ابو الجون ….. من خلف القضبان

رسالة للظوالم فيه كل مطلب

اريدن عشر ليرات ….. وغيث يفهم

المخفر ناح وتهدم

ركض واهلة يهوسون …. )

أما امه فقد كانت إمرأة غير متعلمة ، لكنها تتمتع بذكاء فطري وشخصية قوية وكان لها دوراً بارزاً في ثورة العشرين ،فقد كانت تقطع المسافة بين الرميثة والسماوة مشياً على الأقدام لتنقل السلاح والعتاد الى الثوار .ومن والدته الصلبة ووالده الشجاع ، تعلم محمد الجد والجرأة والشجاعة .
عاش ابو ظفر طفولته وسط عائلة متوسطة الحال تتألف من سبعة أبناء وبنات ، وترتيبه السادس بينهم .كان الأقرب الى والدته و الأحب الى قلبها ، وكان حدسها ينبئها انه يختلف ، بطريقة يتعذر تحديدها ، عن إخوته . فهو الوحيد بينهم إستطاع أن يكمل دراسته ويصبح طبيباً . شقيقه الأكبر توفي بالسكتة القلبية بعد أن إستدعته السلطة الدكتاتورية الى بغداد ، ثم عاد حزينا وتوفي بعد فترة قصيرة دون أن يذكر لعائلته سبب إستدعائه و يُقال ان اسم ابو ظفر كانت كلماته الأخيرة قبل وفاته أما شقيقه الثاني فقد اصيب بالقصف الأمريكي على السماوة عام 1991 ونقلته قوات التحالف الى إحدى مستشفياتها في السعودية واختفى اثره منذ ذلك الحين .
ينتسب ابو ظفر الى عشيرة الظوالم والى شعلان ابو الجون وقد عُرفت هذه العشيرة بالبطولة والجرأة والشهامة ، وقد إكتسب ابوظفر سمات هذه العشيرة ، فكان جريئاً ومقداماً ليس في خوض المعارك فحسب ، بل وفي طرح الرأي والدفاع عنه . اذكر حين كان ابو ظفر في إجازته في عدن عام 1984 ، كان الشاعر سعدي يوسف مُحاربا من قبل منظمة الحزب في عدن لتعاطفه مع المطرودين من الحزب ، ويتعرض لحملة تشهير من قبل حفنة من اعضاء الحزب ، مما حدا بأبي ظفر أن يلتقي بمسؤول منظمة الحزب الفقيد رحيم عجينة ويطرح عليه ضرورة الإهتمام بسعدي يوسف وإيقاف حملات التشهير ضده قائلاً : " إنكم تستطيعون صنع مائة عضو لجنة محلية في العام الواحد ، لكنكم لن تستطيعوا صنع سعدي يوسف واحد في مائة عام !"
وفي فترة إجازته القصيرة في عدن ، لم يتردد ابو ظفرفي مناقشة القضايا التي تخص مصلحة الحزب مع أصحاب الشأن في منظمة اليمن فقدّم للمنظمة تقريره التالي :

الرفاق في منظمة الحزب الشيوعي العراقي
اليمن الديمقراطية

تحية …

يهمني أن تطًلعوا على الملاحظات التالية :
أولاً :
حول الإحتفال الخطابي والفني الذي أقامته المنظمة بمناسبة الذكرى اليوبيلية لميلاد الحزب مساء 31 آذار . فقد تميز الإحتفال بإعداد جيد من ناحية المراسيم ومن ناحية الحضور السياسي الكبير ،إلا أنه تميز بسلبيات واضحة جعلت من هذا الإعداد الجيد مجرد إطار جميل لصورة غير موجودة . وقبل أن ادخل في مناقشة هذا التشخيص للإحتفال ، اعيد التذكير ببعض التفاصيل التي غطًت الإحتفال لعلاقتها :

1 ) كانت مدة الإحتفال حوالي 3 ساعات ، إستمرت من الساعة
السادسة وعشر دقائق الى الساعة التاسعة والربع مساءً . وقد توزعت هذه الفترة الزمنية على الشكل التالي :
أ ـ الحفل الخطابي الذي إستمر لمدة ساعة ، إستغرقت منه كلمة الحزب حوالي 40 دقيقة .
ب ـ الحفل الفني الذي إستغرق ساعتين بضمنها الفواصل الزمنية بين كل وصلة فنية ، واخرى والتي غطًت بمجموعها (اي الفواصل ) حوالي 20 دقيقة .
ج ـ بمعنى آخر ان الوقت الذي إستغرقه الحفل الخطابي زائدا الفواصل الزمنية يعادل الوقت الذي إستغرقه الحفل الفني تقريباً .

2 ) تضمن الحفل الفني الوصلات الفنية التالية :
أ ــ مقطوعة موسيقية للفنان حميد البصري وفرقة وزارة الثقافة اليمنية ، إستغرقت من الوقت حوالي 18 دقيقة .
ب ـ فعاليتيين فنيتين للطلائع .
ج ـ أغاني عربية ، عددها خمس ، ثلاثة منها جماعية ، واثنتان منفردة .
د ـ ست وصلات فنية كردية ، ووصلتين فنيتين يمنيتين .

إذن أين هو مركز الإختلال بين الإطار والصورة في هذا الإحتفال المكرس لهذه الذكرى العظيمة بعد هذا الإستعراض الموجز لتفاصيل الإحتفال ؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال ، عليً أن أجيب على سؤال آخر ، وهو ما المطلوب من إحتفال كهذا ؟ المطلوب هو أن يعبًر هذا الإحتفال فنياً عن خمسين عام من نضال حزب عريق ، من اجل تعبئة سياسية لجمهور الحزبيين على اساس فني وشدًهم الى نضال الحزب ورفع درجة حماستهم لهذا النضال ، مع تعريف الأصدقاء بالحزب وبإنجازاته .
فهل أنجز الحفل تأدية هذه المهمة ؟ كلا طبعاً . وقبل أن اكمل إجابتي الإيضاحية على هذا السؤال ، أورد لكم تأييداً لجواب النفي الذي ذكرته ،نموذجاً لإحتفال أُقيم إحياء لذكرى ميلاد الحزب في سنوات سابقة للمقارنة والإستنتاج مع أخذ الظروف المحيطة بكلا الإحتفالين والتي سأذكرها لاحقاً .لنأخذ مثلاً الإحتفال الذي أقامته المنظمة في ذكرى ميلاد الحزب 45 في عدن عام 1979 . ماذا قدًم ذلك الإحتفال ؟ لقد إستطاع الحفل الفني في ذلك الوقت أن يعبًر فنياً بصدق عن الحالة النفسية والسياسية التي عاشها الشيوعيون العراقيون بعد إنفراط التحالف مع البعثيين وإشتداد حملة الإرهاب والقمع ضدهم من قبل السلطات الفاشية . لقد تمثلت تلك الحالة بحنين جارف للمنفيين الشيوعيين لوطنهم ، ودعوة للصمود امام المصاعب وثقة بالمستقبل . فكان أن أُنتجت الأشعار والأغاني التي عبًرت عن تلك الحالة بالضبط . ويمكن قياس مدى تعبير ذلك الإحتفال عن تلك المرحلة من الطابع الشعبي الواسع الذي حازت عليه أغاني مثل “ محصنة يا دارنا “ و “ ويه يهلنا “ وغيرها ، بعد الإحتفال وحتى وقتنا الحاضر والتي إنطبعت بذاكرة الشيوعيين كفنِ صادق ومعبًر .
نعود الى جواب النفي الذي اوردناه على تساؤلنا حول إحتفال الذكرى اليوبيلية بعدم إستطاعة الإحتفال في التعبير عن المرحلة فنياً ، لنوضح وعلى اساس المثال الذي اوردناه مع فارق الظروف ، بأنه كان على الإحتفال أن يعبًر عن الحالة النفسية والسياسية والفكرية للشيوعيين في المرحلة الحالية والتي يحاول الأعداء تصويرها على انها حالة إنهزام للحزب الشيوعي العراقي على ضوء الإنتكاسات والصعوبات التي أصابته مؤخراً طامسين جوانب الفعل الشيوعي والصمود، في محاولة لتضليل ضعاف النفوس والقلقين فكرياً والإيحاء لهم بأن لا ثقة بالمستقبل كان على الحفل أن يُظهر الفن المقاتل المعبًر عن الروح المقاتلة للشيوعيين العراقيين وأن يوجز تأريخهم المجيد وكيف تغلبوا على مصاعب كثيرة خلال ذلك التاريخ الطويل ، لكي يعبأهم سياسياً وفكرياً على اساس فني ويزيد من حماسهم وإلتصاقهم بحزبهم ، إلا أننا لم نلحظ ذلك في هذا الإحتفال ،ويمكن قياس حقيقة هذا الإستنتاج من إنعدام الأثر الفني في نفوس الرفاق ولعدم حيازة اية وصلة فنية على الشعبية بين جمهور الحزبيين أو أصدقائهم وهذا من دلائل ضعف الصدق في هذا الإنتاج "الفني" ..
لننتقل الى سؤال آخر إستكمالاً لهذه المناقشة . ما هي دلالة ذلك كله ؟
الجواب هو أن ذلك يدل دلالة واضحة على الخواء الفني لفناني الحزب بشكل عام وخاصة الموسيقيين والشعراء منهم في منظمة الحزب في اليمن الديمقراطية وهذا يعود الى العوامل التالية :
1 ـ هروب عدد من الرفاق والأصدقاء من الموسيقيين والشعراء من الذين تواجدوا في اليمن الديمقراطية منذ أواخر 1978 ، من امثال الفنانين فؤاد سالم ، كمال السيد ، سامي كمال وشعراء من امثال مهدي محمد علي ، عبد الكريم كاصد ، ويعود السبب في أغلب حالات الهروب تلك ، الى حالة التعامل غير السليم من قبل منظمة الحزب في اليمن الديمقراطية مع هؤلاء الفنانين على اساس خصوصية أوضاعهم
2 ـ هبوط حالة مزاج الإغتراب المؤلم الذي رافق السنوات الأولى من النفي عن الوطن وحلول حالة الإنفراج النفسي لدى فنانينا في السنوات الأخيرة مع ما يصاحبها من بحث دائب للعيش الرغيد خارج الوطن .
3 ـ ظهور عدد من " المتفننات والمتفننين" من فاقدي المواهب الفنية أصلاً وإحتسابهم كفنانين وللتزكية بإكتمال العدد المطلوب لإستمرار الفرقة الفنية هنا بحمل اسم فرقة الطريق .
4- ضعف دور رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين في عدن وضعف تنسيق الحزب مع هذه الرابطة في هذا المجال .
5 ـ إنعكاس حالة الجزر التي يمر بها الحزب منذ حوالي السنتين على الفنانين والشعراء بشكل سلبي ، مما اضعف من إنتاجهم الفني أو إنتاجهم لصور غير صادقة فنياً عن الواقع الذي نعيشه والذي تتعزز في داخله عوامل الصمود والتصدي والثقة بالمستقبل .
على اساس ما طرحناه نورد ما يلي :
1 ـ إن فرقة الطريق قد اصبحت إسماً بلا مسمى وانها تعيش على بقايا ماضٍ جميل ، وانها لا تستطيع بوضعها الحالي أن تنتج فناً شيوعياً وبإختصار أصبحت الفرقة بلا طريق .
2 ـ على الحزب أن يأخذ مسألة ضعف الإنتاج الفني للموسيقيين والشعراء الشيوعيين وعدم تعبيره بصدق عن المرحلة التي نمر بها ، مأخذ الجد بان تتم مناقشة ذلك مع أصحاب العلاقة بمسؤولية وموضوعية .


ملاحظات صغيرة اخيرة

1 ـ كان من الأفضل وتداركاً للنقص الذي ذكرته ، تطعيم الإحتفال بعدد من الأغاني التي تعبر عن فترات من نضال الحزب والتي تمً إنتاجها سابقاً .
2 ـ طبع نشرة مناسبة تختصر تأريخ الحزب وإنجازاته معززة بالصور وبأعداد مناسبة لتوزيعها على الضيوف عند مدخل قاعة الإحتفال .
3 ـ كان من الضروري تقليص الفواصل بين الوصلات الفنية الى الحد الأدنى وذلك بالتدريب المناسب قبل الإحتفال على عملية الإنتقال من وصلة الى اخرى ، اي بإجراء بروفات قبل الإحتفال .
4 ـ كان من الأنسب تقليص كلمة الحزب الى أقل مما إستغرقته خاصة إذا كان قد تمً الأخذ بالملاحظة ( 2 )
5 ـ من الملاحظ كبر عدد الوصلات الفنية الكردية . في رأيي ان ذلك لم يستند اساساً الى نظرة مشاركة الأكراد في هذا الإحتفال ، بقدر ما كان يستند الى ضرورة ملء فراغ الوقت الذي لم يستطع الإنتاج الفني الضروري أن يملأه لضعف وجوده ، وكان من الأفضل تقليص عدد تلك الوصلات آخذين بنظر الإعتبار ايضاً نوعية المدعوين .
6 ـ كان من الضروري الإنتباه الى تلافي الإرتباك الذي حصل لدى الإنتقال من الحفل الخطابي حيث ترك عدد كبير من الضيوف قاعة الإحتفال ، الى الحفل الفني .
7 ـ كانت مساهمة الرفاق اليمنيين في إبراز الإحتفال على مستوى الإعلام ضعيفة جداً ، ومع فهمنا لظروف العلاقة الجديدة بين اليمن الديمقراطية والعراق ، إلا أن ذلك يثير اكثر من تساؤل مشروع .
8 ـ هناك تساؤل مشروع آخر حول سبب خلو الحفل من فعالية فنية تخص انصارنا البواسل في كردستان ، ماعدا فعالية الطلائع عن الشهداء . لقد كان من الأجدر عرض اغنية اخرى مثل " شباب انصار" تقديراً لهولاء الذين يدافعون عن شرف الحزب بحياتهم ، وعدم التعكز على حجة عدم وجود نصوص شعرية خاصة بذلك .
9 ـ إشراك إحدى الرفيقات كعريفة للحفل مع الرفيق عريف الحفل ، كما هو جارٍ في الإحتفالات السابقة ولأجل تلوين ضروري للحفل ايضاً .
ثانياً :
وحول المنظمات الديمقراطية التي تقودها المنظمة في اليمن الديمقراطية ، أود تسجيل الملاحظات التالية :

يقول لينين أن شكل مؤسسة معينة يحدد طابع عمل تلك المؤسسة . ولا يشذ عن هذا المفهوم المنظمة الديمقراطية أياً كانت تلك المنظمة . فجوهر هذه المنظمات يتجلى من خلال دفاعها عن المصالح المعيشية والحياتية لعناصرها من الذين يتم تصنيفهم على اساس العمر أو الجنس أو المهنة ، وكذلك من خلال رفع الوعي السياسي لإعضاءها الى مستوى القضايا العامة للوطن والشعب والربط الديالكتيكي للنضال في هاتين الجبهتين ( المطلبات المعيشية والسياسية ) وإكتشاف العناصر النشيطة وتقديمها الى صفوف الحزب . إن الوسط العام لعمل هذه المنظمات هو جمهور اللاحزبيين ، وإن الكادرات القائدة لهذه المنظمات بحاجة الى هذا الوسط لإكتساب الخبرة في هذا المجال من النشاط وتطوير تلك الخبرة ، وإن العمل في هذا الوسط اللاحزبي هو عمل حي طبيعي ، وخلافه هو عمل مفتعل يؤدي في المدى البعيد الى عكس المطلوب منه .
من الملاحظ أن هناك مسألتان أساسيتان تتحكمان في عمل المنظمات الديمقراطية للحزب في اليمن الديمقرطية :
أولاً :
أن الوسط الجماهيري الذي تعمل فيه هذه المنظمات هو وسط حزبي ، تقل فيه نسبة الجمهور اللاحزبي نظراً للظروف التي تعيشها هذه المنظمات على ارض اليمن الديمقراطية . وقد أثًر ذلك على طابع عمل هذه المنظمات تأثيراً سلبياً تمثل بمحاولة إضفاء طابع العمل الحزبي ، بما فيه من صرامة ، على العمل الديمقراطي بما يتطلبه من مرونة عالية .
ثانياً :
وجود مجموعة " المخربين " خارج الحزب وحركتهم في إتجاه التأثير على الرفاق المنتظمين ، دفع ( في إعتقادي ) المنظمة ، وفي محاولة منها لإبعاد الرفاق عن تأثير هؤلاء المخربين ، الى تأطير علاقة جمهور الحزبيين وأصدقاءهم بالمنظمة ، بأكثر من إطار حزبي ، فكان الإصرار على توسيع قاعدة المنظمات الديمقراطية وتنشيط عملها لهذا الغرض . لذلك كُلفت ومن قبل الحزب عناصر تقود هذه المنظمات واعية لهذا الغرض ، اي ضرورة جذب جمهور هذه المنظمات الى سياسة المنظمة ، ولكنها ( اي هذه القيادات ) تفتقد الفهم الصحيح لمرونة عمل هذه المنظمات ودورها النضالي ، فكان إسلوب العمل بإطار العام حزبياً وليس ديمقراطياً .

يُضاف الى ذلك ، أن هذه المنظمات قد ولدت ومنذ عام 1979 في خضم صراع كبير بين العناصر الكفوءة ذات الخبرة الممتازة في مجال العمل الديمقراطي وبين العناصر الخاملة الضعيفة الخبرة في هذا المجال ولكن المعتمدة من قبل قيادة المنظمة لميكانيكيتها في نقل القرارات من دون تعامل مبدع ومرن يأخذ بالإعتبار طابع عمل هذه المنظمات . وفي رايي ان هذا الأسلوب من العمل في هذه المنظمات لايزال ساري المفعول في جزء كبير منه حتى الآن .
وإستناداً لما ذكرته آنفاً ، أورد الملاحظات التالية :
( 1 ) تنعدم لدى هذه المنظمات الخطط والبرامج والمبادرات الضرورية لتطوير الأوضاع الاجتماعية لمنتسبيها ، وسيادة الشكلية في العمل .
( 2 ) تسود حالة من السلبية واللاأبالية المتزايدة لدى أغلب المنتظمين في هذه المنظمات إتجاه هذا النشاط الديمقراطي .
( 3 ) وجود عدد من الرفاق الذين يقودون هذه المنظمات من الذين لا يحوزون على ثقة وإحترام عدد كبير من المنتظمين في هذه المنظمات .

وإستنتاجاً مما تقدم اقترح ما يلي :
1 ـ تقليص قاعدة ونشاط عمل هذه المنظمات ، وضرورة إقتصارها على هيئات تمارس عملها في مجال العلاقات الخارجية مع المنظمات الشبابية الأخرى ، بالإضافة الى العمل مع بعض النشاطات والمبادرات الإجتماعية النوعية وهذا يتطلب إلغاء فكرة مكاتب القواطع ودمجها في لجنة تنفيذية قيادية واحدة لكل منظمة ديمقراطية .
2 ـ الإبتعاد عن الشكلية في تقييم عمل هذه المنظمات وعدم الإعتماد فقط على الناحية الكمية لنشاطها ، كعدد الإجتماعات أو عدد المبادرات المقامة ، الخ … بل وايضاً الإعتماد على نوعية ومضمون هذا النشاط ومردوده الفعلي على المنتسبين في حالة التقييم .
3 ـ إختيار وترشيح العناصر الكفوءة التي تحظى بثقة واحترام جمهور الرفاق والأصدقاء ، لقيادة هذه المنظمات .

مع الشكر
رفيقكم ابو ظفر

عدن 22 ـ 4 ـ 1984

في سن السادسة دخل محمد المدرسة وكان من تلاميذها الأوائل . كان شديد المثابرة في دروسه وفي الوقت نفسه يساهم بدور نشيط في اللهو اليومي مع أ طفال الحي . وما ان بلغ الصف السادس الإبتدائي ، أصبح شغوفأ بمطالعة الكتب وشديد الولع بها وكان يجمع مصروفه اليومي الذي يحصل عليه من والده ليشتري كتباً .ولاحظ صاحب المكتبة الوحيدة في السماوة ، مطشر جبر ، شغف الصبي للقراءة وتحمسه لإقتناء الكتب ، فصار يمده بالكتب التي يرغب في قراءتها على أن يدفع له اثمانها في نهاية الشهر واحيانا يعيره الكتب ليقرأها ويعيدها اليه.
وفي المدرسة المتوسطة ، اصبح محمد الشخصية الأولى في الصف . فقد كان ذكياً، نشيطاً ، ذو مواهب عالية وإستعداد كبير للدراسة والتفوق .كان مؤدبا في الصف ويتميز بدقة التفكير رحيمأ وطيبأ ودمث الأخلاق إزاء الذين هم بحاجة الى مساعدته كما كان من رياضيي منتخب المدرسة فحظي بإحترام زملائه وجميع مدرسيه .
وفي ثانوية السماوة ، كان محمد طالبا هادئا ، مجتهداً جدا وملماً بجميع المواد الدراسية .. وفي هذه المرحلة الدراسية عُرف بموهبة التمثيل فأسند اليه مدرس اللغة الأنكليزية الأستاذ عبد الباقي الصافي احد الأدوار المهمة ( دور بورشيا ) في مسرحية " تاجر البندقية " لشكسبير باللغة الأنكليزية و برع في اداء الدور وقد بلغ شغفه بالقراءة والتحصيل حد انه كان يستغل عطلته الصيفية ليقرأ مواد السنة الدراسية القادمة .. كان طالباً متميزاً بذكائه , و يحب التعاون مع زملائه مما جعله موضع إهتمام مدرسيه وزملائه الذين كانوا يستعينون به خاصة في مادة الفيزياء لعدم توفر مدرس في ذلك الوقت ، لذا كلفته إدارة المدرسة بالقيام بتدريس مادة الفيزياء لشعبته ـ فكان بمثابة مدرسا وهو لما يزل طالبا بعد ـ وقد برع في أداء هذه المهمة ، لما يتمتع به من ذكاء وشخصية قوية أكسبته إحترام زملائه ومدرسيه .

وفي الثانوية كنتُ الفتاة الوحيدة في الصف ( القسم العلمي ) بين ثلاثين طالباً ، ومنذ اول حديث بيني وبينه ، شعرتُ بشيء غامض يشدًني اليه وبنوع من الإلفة العجيبة ، لكأنني أعرفه منذ زمن بعيد وشعرت ببهجة الحياة تجذبني نحوه بقوة واحببت المدرسة من اجله . وخطا هو خطوته الجريئة وصارحني بصدق مشاعره اتجاهي و إرتبطنا بعلاقة حب صادقة إستمرت عشر سنوات وتوُجت بزواج سعيد في الأول من تموز عام 1973 .

حصل محمد على شهادة الثانوية بمعدلات عالية تؤهله لمواصلة دراسته في الخارج في مجال " محاسبة قانونية "، لكنه رفضها و فضل دراسة الطب في بغداد وتخرج بتفوق عام 1970 . ولم يكن الدافع الأساسي ، مثلما لدى أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة للدخول الى كلية الطب دافعا ماديا لدى ابي ظفر ، بل كان طموحه يتعلق بالتفوق العلمي وخدمة الفقراء . كان يواظب على حضور المحاضرات والحصص العملية . وقد كتب عنه زميله في الكلية الدكتور محمد علي البياتي قائلاً : " كان محمد مجتهداً ومثابراً في دراسته ، وقد إجتاز دراسته في الطب بتفوق وكان يفوقني في نيل الدرجات احياناً . كنا لا نرغب المغامرات أو التطرف في تصرفاتنا كما كان يفعل بعض الشباب من جيلنا ، ولا اذكر إننا تغيبنا عن محاضرة أو مختبر حتى وإن كان مملاً، وكنا نحرص على المشاركة في فعاليات الكلية التي تخص الدراسة."
في عام 1967 ابان حرب حزيران مع اسرائيل ، كان يخامر محمد ، في تلك اللحظات القاتمة ، مشاعر وعواطف ، كالتي تخامر معظم الشباب العراقيين ، الا وهي خليط من الحقد والغضب والسخط على الغزاة الصهاينة ، فسارع الى تسجيل اسمه في قائمة المتطوعين للذهاب الى جبهة الحرب .و كادت محاولته للذهاب الى الجبهة أن يحالفها النجاح ولم يبق سوى أيام معدودة ، لكن القرار اُلغي ولم يذهب اي من المتطوعين .

بعد تخرجه من كلية الطب ، عمل طبيبا في مستشفيات بغداد لمدة عام ، بعدها أستدعي للخدمة في الجيش. وفي بلد يطفوعلى بحيرة من النفط ، كان ابو ظفر يتقاضى راتب أربعة دنانير إلا ربعاً . فبدلا من أن يكون مكانه في مستشفى ليرعى المرضى ، صار هو والعديد من الأطباء في دفعته ، تلاميذاً لنائب عريف لا يفهم شيئاً . ففي صباح كل يوم كان يلقي عليهم محاضرة حول كيفية تنظيف البندقية ، أو أداء التحية العسكرية ، أو .. أو و في إحدى المرات ، كان نائب العريف يتحدث عن الذرّة قائلاً: " عندما يكون الإنسان في غرفة مظلمة وفيها فتحة صغيرة تنفذ منها اشعة الشمس يستطيع المرء ان يرى الذرّة ، وعندما تصطدم ذرًتان يحصل إنفجار " . لذا كان ابو ظفر يقضي معظم الوقت يلعب الشطرنج ( وهو البارع في لعب الشطرنج ) مع احد زملاءه في الدورة دون أن يلفت إنتباه نائب العريف .
.
وبعد أن انهى الخدمة العسكرية ، تمّ تعيينه طبيباً في معمل سمنت السماوة . وفي المعمل وجد ضالته . فقد اخذ يسهم بنشاط وحيوية في إشاعة الأفكار الماركسية في صفوف العمال . وكانت لديه قدرة عجيبة في التحدث مع العمال وكسب ودّهم ، فكان يطالب إدارة المعمل بتحسين ظروف العمل وخاصة في مجال الأمن الصناعي ، و كانت فترة عمله في معمل سمنت السماوة فترة سعيدة في حياته واصبح المعمل مدرسة حياته .

كان يرعى مرضاه بضمير ويعاملهم برقة منقطعة النظير ، وكان متواضعا ، بسيطاً في كل شيء وخالٍ من روح العنف والعدوان ، وكانت له القدرة على المرح ، نادرة فيمن يمارسون مهنة الطب . وقال عنه النصير خالد صبيح :
"الصدق الإنساني ، وصفة الأداء الصادق والدافيء هي اهم وابرز صفة في شخصية الرفيق الشهيد ابو ظفر . كان الشهيد طبيباً يقدًم خدماته للرفاق ببساطة وروح رفاقية عالية ويذهب بإهتمامه بحالات المرضى الى خلفياتها النفسية والمعنوية، فكانت شخصية الرفيق والإنسان والطبيب حاضرة في مزاولته لمهنته ."
في عام 1973 عقدنا العزم أن نقترن كزوجين وشيدنا صرح عائلتنا السعيدة بعد قصة حب دامت عشر سنوات ، وكانت حياتنا وحبنا سمفونية رائعة تجسد فيها الخير والوفاء والإخلاص وكنا أسعد زوجين في كل المنعطفات وجاءت طفلتنا ظفر وكانت إمتداداً لقصة حب لاتنتهي ، وثمرة طيبة وإرثاً يحمل معه الماضي المقدس بكل ما تحمله هذه العبارة ، لإنسان لم ولن تمحي ذكراه العطرة تقلبات الزمن وإحباطاته … إنه ابو ظفر الإنسان الرمز والزوج والحبيب .

ابو ظفر لا يعرف الإسراف ولا يحب الثرثرة ولا يعرف المشروبات الكحولية مهما كان نوعها ، وإن عزوفه عنها شيء نادر نسبياً في مجتمع الأطباء ، وكان إحساسه بالإشمئزاز حين يرى كيف يمكن ان يجرد الشراب المرء من وقاره وصوابه ، هو الذي طوّر عنده هذا العزوف . لا يدخن ولا يحتسي غير الشاي .
كان يخجل من فتح عيادة خاصة ويتقاضى اجوراً لقاء خدماته الطبية . ففي الأيام الأولى من زواجنا كنتُ الحّ عليه أن يفتح عيادة لتحسين وضعنا الإقتصادي . وتحت إلحاحي وافق على مضض على فتح العيادة و لم يستمر فيها أكثر من شهر لأنه يكره أن تكون مهنة الطب الإنسانية وسيلة للتجارة . فقد كان لا يأخذ اجور الفحص من الفقراء والأصدقاء ، بل وكان يعطيهم ما لديد من ادوية يحصل عليها من الصيدليات . وقد كتب عنه فارس عدنان قائلاً : " تعالوا نراجع تاريخ ممارسة مهنة الطب في العراق كي نجد الرقم القليل جداً من الأطباء الذين ينتمون لقبيلة ابو ظفر الطاعنة في إنسانيتها الى درجة الإستغناء عن الترف المقترن بممارسة هكذا مهنة والقبول بشظف العيش."
في السادس من اكتوبر عام 1973 اُعلن في مصر بيان عسكري بقيام حرب التحرير . واستنفر الجيش العراقي للمشاركة في المعركة ، فتمّ إستدعاء مواليد 1946 للخدمة و كان ابو ظفر ضمن هذه الدفعة ، وتمّ تثبيته في المستشفى العسكري التابع للفرقة الأولى في الديوانية ، وهناك كسب ود وإحترام كل من عمل معهم ومنهم العقيد ابو سامرة وظافرة ( للأسف لم اتذكر اسمه ) وحتى كلفه بالعمل في عيادته الخاصة في المساء..
في منتصف فترة خدمته قرى وأرياف ، فوجيء بقرار نقله الى قضاء السلمان ( نقرة السلمان سابقاً ) بدلاً عن طبيب بعثي لا يرغب بالعمل هناك . ورغم الظلم والإجحاف الذي رافق هذا القرار ، إلتحق ابو ظفر بالعمل لمدة شهر . و استطاع في تلك الفترة أن يتعرف على السجن الرهيب الذي شيده كلوب حيث كان يُسجن مناضلي الحزب الشيوعي العراقي في تلك الصحراء النائية . فكان يقضي معظم الأوقات يتجول في قاعات السجن التي تحولت فيما بعد الى مخزن للأعلاف، وكان يقرأ كتابات ورسومات الرفاق الذين أتى بهم النظام الدكتاتوري في قطار الموت وزجّهم في هذا السجن الصحراوي الرهيب .

و تصادف أثناء وجود ه في قضاء السلمان ، إنهمرت امطار غزيرة أدت الى قطع الطريق الترابية بين السماوة ونقرة السلمان .ووقتها سمعتُ بأن قائمقام السلمان ظلّ الطريق وهو في طريقه الى السماوة ووجد نفسه مع سائقه امام مجموعة من البدو الرحل فإستضافوه في خيامهم مع الأغنام . وما ان سمعت بالخبر وكنتُ وقتها حاملاً بطفلتي ظفر والعيد على الأبواب وهو اول عيد يجمعني مع حبيبي كزوجة ، إتصلتُ برئيس صحة المثنى الدكتور هلال الرفاعي قائلة: " دكتور هلال ،عيد الأضحى على الأبواب ود. محمد لايزال في نقرة السلمان وبسبب الأمطار الغزيرة أظنه لا يستطيع المجيء . إن لم يأت ليكون معي في العيد ، سأفضحكم وافضح أساليبكم الظالمة !" وفعلا وبعد ان توقفت الأمطار ، أرسلت صحة المثنى سيارة لاندروفر لتجلبه الى السماوة ووصلها قبل العيد بيوم . وبعد ذلك واصل عمله في معمل سمنت السماوة .
بعد أن انهى خدمته قرى وأرياف ، غادر الى بغداد ليتخصص في طب الأطفال . وفي مستشفى الطفل العربي كان ابو ظفر متواضعا ويشرق سعادة على الدوام ، مهذب في تعامله مع الآخرين ، فأحبه كل من كان يعمل معه وخاصة مرضاه ومرافقيهم . .ومرة روى لي ابو ظفر عن طبيب كان يعمل في مستشفى الطفل العربي أراد البعثيون إسقاطه سياسيا ، فدبروا له مكيدة . ففي إحدى المرات كان الطبيب ينزل في المصعد لوحده ، وفي احد الأدوار دخلت المصعد إحدى الممرضات ونفشت شعرها ومزقت قميصها وراحت تصرخ بأن الطبيب قد إعتدى عليها .إستدعى مدير المستشفى ذلك الطبيب وأبلغه قائلاً : " دكتور القضية مسألة شرف وستواجه العقوبة والطرد من الوظيفة ، لذا يمكننا غلق القضية في حالة إنتمائك الى حزب البعث! " وإستجاب الطبيب لهذا الطلب وسقط سياسياً ،و لم يستطع الإستمرار في عمله في المستشفى ، فإنتقل الى مستشفى آخر .و بسبب هذه الحادثة عزف ابو ظفرعن إستخدام المصعد لوحده حتى ولو كان منهكاً من التعب . وحتى اثناء فترة عمله في معمل سمنت السماوة ، كان ابو ظفر ايضا حذراً من أن يدبّر له البعثيون مكيدة يهدفون من وراءها إسقاطه سياسياً . فحين تأتيه زوجة احد العمال للعلاج كان يستدعي الممرضة لتكون معه اثناء الفحص و يترك باب الغرفة مفتوحا . ورغم كل هذه الضغوط النفسية التي كان يواجهها في عمله في العراق ، ظلّ أمينا لمبادئه وشرفه كمناضل من اجل الغد السعيد لشعبه ..
و في مستشفى الطفل العربي وفي يوم تأسيس الحزب الشيوعي لم يفت ابو ظفر ان يحتفل بهذه المناسبة بطريقته الخاصة ، وهي ان يملأ جيوبه بالحلوى ( جكليت ) ويقوم بتوزيعها على الأطفال وامهاتهم في الردهة التي يعمل فيها دون ان يذكر المناسبة . وبطبيعة الحال تهرع إستخبارات المستشفى لتخبر مدير المستشفى بان الدكتور محمد يوزع حلوى في يوم تأسيس الحزب الشيوعي العراقي ، ويبدأ التحقيق مع الأمهات في ردهته . ويفشل مدير المستشفى في الحصول على إعتراف من الأمهات بانهنّ إستلمنّ اي شيء من الدكتور .وبعد أن أنهى تخصصه في باطنية طب الأطفال في مستشفى الطفل العربي في بغداد ، صدر أمر تعيينه للعمل في قضاء الخضر في محافظة المثنى وانتقلنا الى هناك .
من المفارقات الغريبة في حكومة البعث ، إن ابو ظفر أنهى خدمته قرى وأرياف في مركز محافظة المثنى ، وبعد أن حصل على التخصص في باطنية الأطفال ، تمّ تعيينه في قضاء الخضر ثم ناحية الدغارة ! و لم يشكل ذلك أهمية الى ابو ظفر لأن همه الأول هو خدمة الفقراء أينما كانوا ، لكن هذا ظلماً بحد ذاته. وفي الثاني والعشرين من مايو1976 ، باشر وظيفته كطبيب في باطنية الأطفال في المركز الصحي في قضاء الخضر في محافظة المثنى وحصلنا على سكن في إحدى دور التأمين الصحي . وخلال اقل من شهر كشّرت الدكتاتورية عن أنيابها ثانية وأصدرت في الثلاثين من مايو أمراً بنقله الى ناحية الدغارة في محافظة القادسية .
في الثامن من حزيران عام 1976، أجلًنا الإحتفال بعيد ميلاد ظفر لسفره الى بغداد لمقابلة وزير الصحة حول أمر نقله الى ناحية الدغارة في اقل من شهر . وصباح التاسع منه قابل الوزير الدكتور رياض إبراهيم وشرح له بإختصارأمر نقله الى الدغارة والإجحاف الذي سيصيبه بعد مباشرته في الخضر في حالة تنفيذ الأمر . وأحال الوزير القضية الى عدنان عبد الكريم مدير الأمور الإدارية العام ، والذي وعده بأنه سيطلعه على النتيجة بعد مقابلته للوزير .
في صباح العاشر من حزيران ، قابل ابو ظفر كل من عدنان عبد الكريم والدكتور خلدون حول الأمر الوزاري بنقله من قضاء الخضر الى ناحية الدغارة في أقل من شهر ، ومع إصرار ابو ظفر لمعرفة سبب النقل ، دفع بالدكتور خلدون الى التصريح بأن السبب خارج نطاق الوزارة وبأنه من جهة خارج جهاز الصحة وبأنه مرتبط بالعامين اللذين قضاهما في معمل سمنت السماوة ، فخمّن ابو ظفر بأن السبب سياسي .وفي الوقت الذي فرح لمعرفة السبب ، حزن لهذه الممارسات في تلك المرحلة . وباشر عمله في ناحية الدغارة .
عام 1977أفتتحت في بغداد دورة خاصة بطب الأطفال و وقدم للإتحاق بها وغادر الى بغداد ، لكنه فوجيء برفضه لعدم حصوله على تزكية من حزب البعث ، وعاد ليمارس عمله ثانية في الدغارة ، وتصادفت عودته يوم 29 نوفمبر 1977، يوم وقف السادات يلقي خطاباً داخل الكنيست الإسرائيلي .
اواخر شهر نوفمبر عام 1978 ، كان يومها الخميس من أيام الإسبوع وحين كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر، وبينما كان ابو ظفر يتهيأ للذهاب الى العيادة الشعبية ، رنّ جرس الباب ولم تمض فترة قصيرة كان هناك طرقا على الباب . فزعتُ لأن طرق الأبواب في تلك الفترة لا يعني سوى رجالات الأمن . نظرتُ من فتحة صغيرة من خلف الستارة ، فلمحتُ سيارة فولكس فاكن بلون ازرق سمائي متوقفة أمام المنزل ورجل قصير القامة ممتليء الجسم يسير جيئة وذهابا يحملق في الباب . عرفتُ على الفور انها سيارة الأمن .شعرتُ بالخوف يجتاح روحي وانا أنظر لذلك الوجه المملوء بالحقد ،لكني اخذتُ نفساً عميقاً وحاولت أن ابدو غير مبالية وفتحتُ الباب . طلب الرجل التحدث الى ابو ظفر ، فأخبرته بأنه غير موجود في البيت وبأنه سيعود بعد ساعتين أو ثلاث .غادر واغلقتُ الباب . إقتربتُ من ابو ظفر ولم يكن وجهي يوحي بشيء سوى الخوف عليه ، وطلبتُ منه مغادرة المنطقة فوراً . وفي أقل من نصف ساعة إرتدى ابو ظفر ملابسه وتناول بعض الأوراق وجواز سفره ودون أن يلمحه أحد ، غادر ابو ظفر الدغارة متوجها الى الديوانية ومنها الى السماوة . تعاظمت المخاوف في داخلي ، فقررتُ اللحاق به . و لم يخطر ببالي بأني سألحق الباص الذي إستقله ابو ظفر.و حين صعدتُ الى الباص لم تقع عيني عليه، فقد كان يجلس في إحدى المقاعد الخلفية . ووقتها لكزتني إبنتي ظفر التي لم تتجاوز الرابعة من العمر وقالت بصوت خفيض : "انظري ماما .. بابا معنا في الباص ، إنه يجلس في الخلف" . دنوتُ من اذنها وهمستُ : " حبيبتي لا تتكلمي ولا تنطقي كلمة بابا ولا تنظري بإتجاهه ! " جلستُ وطفليّ في مكان ستراتيجي في الباص يسمح لي برؤية ابو ظفر دون أن أثير إنتباه الآخرين وكان هو يوجه نظراته لي طيلة الرحلة وكأنه يريد أن يشبع نظره مني . الحب الصادق الذي جمع بيننا منذ إن كنا طالبين في الثانوية والحياة الزوجية السعيدة .. و .. و وها هو الفراق ينتظرنا. وفي السماوة ترجلنا من الباص وسار كل منا بإتجاه وكأننا لا نعرف بعضنا . ذهبتُ الى بيت اهله أنتظر عودته .عاد حوالي العاشرة ليلاً وأبلغني بالقرار الذي توصل اليه وهو مغادرة العراق . لم أنم في تلك الليلة ولم يغمض لي جفن . وفي الصباح الباكر ودعني قائلاً : " سنضطر الى الفراق لفترة قصيرة ، لكننا سنلتقي وستبقين وحدك في قلبي الى أن تحين منيتي ." وبنفس اليوم تركتُ طفليّ بعهدة جدتهم وغادرتُ الى الدغارة . إستدنتُ من الأصدقاء مبلغا من المال ووعدتُ بتسديده عند حصولي على قرض البناء طلبت إجازة من عملي . وفجر اليوم التالي، احضرت بعض من ملابس ابو ظفر ،و وضعتها في كيس وليس في حقيبة ، كي لا أجذب الإنتباه عند سفري من الدغارة فجراً ، وغادرتُ الى بغداد . التقيته في بيت أخي على عجل ، سلمته المبلغ وغادرنا المنزل قبل عودة أخي من عمله لأني قررتُ أن لا اخبر احدا عن سفر ابو ظفر لكي لا ينكشف امره .ومن إحدى محلات بيع الحقائب قرب جسر الشهداء ، إشتريتُ حقيبة سفر صغيرة ووضعتُ فيها ملابسه . وبعدها تركنا بعضنا دون أن نتفوه بكلمة ، وعبرتُ الشارع دون أن ألتفت اليه . وقفتُ في موقف الباص المتجه الى كراج علاوي الحلة لأعود الى السماوة لإصطحب طفليً . ظلّ هو واقفاً في مكانه ينظر الي بعيون شاردة . لم أستطع رفع ذراعي لأودعه ، لربما يوجد من يراقبنا و تحركت شفتاي وانا أنظر اليه دون ان يصدر عنهما صوت . آه يا إلهي... يشعر الإنسان المطارد والراضخ تحت جبروت الخوف بأن أعين الناس جميعها متجهة اليه . لم أظهر جزعا للوداع ولا حزناً للفراق ولم تصعد من صدري زفرة ، ولا إنحدرت من عيني دمعة ، وإنما كان وجهي منبسط الأسارير ،فقد كنتُ أشدّ من عزيمته، لكني كنتُ اكن حزناُ عميقاً ، و تكلفتُ الصبر الذي لابد منه لكي لا يكون للجزع على نفسي سلطان ولا للضعف الى قلبي سبيل .
قضى ابو ظفر ليلةً في فندق في الحيدرخانة ، بعدها غادر برا الى دمشق ومنها غادر جواً الى بلغاريا ووصل صوفيا مساء 7 ـ 12 ـ 1978 . ( في ذلك الوقت كانت العلاقات بين سوريا والعراق جيدة وبإمكان العراقي ان يسافر الى سوريا بالبطاقة الشخصية ) و صدفة إلتقى على متن الطائرة بالرفيق عودة ناجي الحمداني، وهو الآخر إستطاع أن يفلت من قبضة النظام . وحالما وصل صوفيا ،أراد ابو ظفر أن يتصل بي ليطمأنني على سلامة وصوله ، لكنه عندما رفع سماعة التلفون ، أيقن بخطورة خطوته هذه ، فقد يكون تلفوني مراقباً وهنا الطامة الكبرى . سيهددوني ويعتقلوني للإدلاء بمكان وجوده ، فغير رأيه وإتصل بأختي وطلب منها أن تخبرني بسلامة وصوله و بأنه بخير .
في صوفيا قام بترتيب اوضاع الرفاق الذين إستطاعوا الإفلات من جلادي النظام والتعرف على إحتياجاتهم ، ولم يبخل في تقديم المساعدة لهم ومن جيبه الخاص .
ولم يفت ابو ظفر ان يحتفل مع مجموعة من الرفاق في 13 ـ 1 ـ 1979 بمناسبة مرور خمسة عشر عاما على اليوم الذي تصارحنا به بحبنا وجهاً لوجه . ومن هناك كتب لي يقول :" قبلاً قرأت كثيراً عن الغربة وما تفعله بالإنسان ، ولكن الشيء الذي تأكدت منه الآن هو عمق حبي لكِ كحبيبة ولكم كعائلة . الغربة اصبحت لي الآن كالمجهر ارى منه حياتي السابقة معكم، تصوري بدأت اتذكر ادق تفاصيل حياتي معكم، ولكم اسفتُ لأني لم استغل فرصاً كثيرة للأستمتاع معكم … اشياء كثيرة تبرز في مخيلتي تكشف لي بأن كم كانت حياتي جميلة جداً معكم وبينكم . لقد أصبحتِ يا بلقيس انتِ والعراق وجهان لميدالية واحدة هي حبي للإنسان والحياة والحرية. هذا الحب الذي من اجله ضحيت واضحي دوماً . إن إغترابي هذا الذي لم ارده ابداً ولم اسع اليه بل فرضته الظروف والشر، أضاء لي اشياء كثيرة كانت خافية عليّ بفعل رتابة الحياة هناك ، كانت اجزاء من صورة لم الحظها وقتذاك. إن هذا الأغتراب اكمل لي هذه الصورة ، فكانت ايما صورة للحب ، اروع حب وانقى حب .. حبي لكِ ايتها البطلة . لكم تمنيتُ أن اراكِ وطفليّ الحبيبين الى جنبي وانا انظر الآباء والأمهات يخرجون اطفالهم حينما يكون الجو مشمساً.ويجرفني شوق عظيم لظفر ويسار ولأمهم الغالية وانا ارى الأطفال يتقاذفون كتل الثلج ، يتمازحون ، يحاولون التزحلق على الجليد بأقدامهم الصغيرة … واحس بحرقة في صدري من حنين كينبوع دافق وانا اسمع ضحكاتهم وارى إبتساماتهم البريئة … فأتذكر واتذكر … كأن شلالاً من ذكرياتي عنكم قد إنهمر امام ناظري … فأشعر كأن قلبي قد قفز من عيني دموعاً حرى ، واترك المكان لا الوي على شيء ، ترن في رأسي اغنيتهم " عيون اثنين وانتو اثنين … بابا وماما وكل واحد يستاهل عين ..." . يقولون لي هذه نساء صوفيا الجميلات امامك ، فما بالك لا تتخذ منهن واحدة صديقة أو عشيقة . ضحكتُ منهم … ولا اشعر بأني صرختُ بهم كأن شيئاً ينتفض في داخلي .. كيف؟ … كيف .. ؟
إنكم لا تعرفون بأني تركتُ إمرأة في بلدي لايمكن لنساء الأرض قاطبة وإن إجتمعن ، أن يملأن فراغاً تركته أو يستملن قلباً عشقها وما عرف غيرها. قالوا عجباً … هل هي جميلة الى هذا الحد ؟ … قلتُ جمالها كجمال الله لا يُرى ولكنه سر فيه . وهل هي رقيقة لهذا الحد ؟ … قلتُ رقتها كنسائم نيسان الطرية وهي تداعب الخدود . قالوا … وقالوا .."
وكما روى لي النصير ابو ذكرى قائلا : " … ابو ظفر يتمتع بالجهادية العالية ونكران الذات ، وكان عصامي يحسب للأيام الصعبة ، ويكتفي بوجبات غذائية محددة ورخيصة وصحية لكي يوفر للرفاق المحتاجين من جيبه الخاص ، ويحثهم على الإقتصاد في مصروفهم ، رغم انه كان بحوزته مبلغاً كبيراً يكفيه ان يعيش بيسر ." وحين عرف ابو ظفر بأن اليمن الديمقراطية بحاجة الى أطباء تطوع للذهاب هناك .ومن المبلغ الذي معه إشترى تذكرة سفره الى عدن كما وتبرع بتذكرتين لرفيق وزوجته كانا يرغبان بالتوجه الى عدن .

صباح السابع والعشرين من يناير 1979 ، غادر ابو ظفر مع مجموعة من الرفاق صوفيا متوجهين الى اليمن الديمقراطية ووصلوا مطار عدن بعد منتصف الليل و تمً توزيعهم على فنادق عدن .
في عدن رفض ابو ظفر ان يكون لاجئاً سياسيا ، يأكل ويشرب دون عمل ، وكان هذا رأي منظمة الحزب في اليمن الديمقراطية ايضا ، طالما أن معظم الرفاق يحملون شهادات جامعية ومؤهلات علمية ، لذا تمً تعيينهم كل حسب إختصاصه .
في أواخر شهر يناير عام 1979 ، إلتقى ابو ظفر وزير الصحة العامة الدكتور عبد الله بكير في ديوان الوزارة وقدّم طلبا للعمل كطبيب . إستقبله الوزير بحرارة ودارت بينهما أحاديث حول الوضع في العراق والهجمة الشرسة التي تعرض لها الحزب الشيوعي العراقي …. ثم تطرق الوزير الى الأوضاع الصحية في اليمن الديمقراطية ، وخاصة في مدينة عتق مركز محافظة شبوة التي تفتقر الى وجود طبيب منذ فترة طويلة وعزوف الأطباء اليمنيين عن العمل هناك لصعوبة ظروف المنطقة ( المحافظة متاخمة للربع الخالي ) . وبسرعة وبدون تردد طلب ابو ظفر من الوزير ان يعينه طبيبا في مستشفى عتق المركزي قائلاً : " دكتور لو اذهب هناك ،هل ستوفرون لي سكناً وتطعموني؟ " ورد عليه الوزير قائلأ : " ان ظروف المحافظة جدا قاسية وحتى ابناء البلد يرفضون العمل هناك ، وانت أخصائي باطنية أطفال ويمكنك العمل في مستشفى الأطفال في عدن .. ،، لكن ابو ظفر كان متحمساً للذهاب لتقديم خدماته للمحرومين من الرعاية الصحية في عتق .
وكلما يلتقي بي الدكتور بكير يدور الحديث عن ابو ظفر وتضحياته من أجل الآخرين ويقول : " حين طلب مني الدكتور ابو ظفر تعينه طبيبا في مستشفى عتق ، لم يسألني كم سيكون راتبه الشهري حين يذهب لتلك المنطقة النائية بعكس الكثيرين من العراقيين الذين يسألون عن الراتب التي سيتقاضونه عند التعيين . فالطب عند ابو ظفر رسالة ومبدأ قبل ان يكون مهنة لكسب العيش .إن إستشهاده خسارة ليس للحزب الشيوعي العراقي فقط بل خسارة لجميع العاملين في المجال الصحي . إنه نموذج لن يتكرر ابداً ، وسيظل المواطن اليمني يتذكر الخدمات الجليلة التي قدمها له اثناء حياته في جمهورية اليمن الديمقراطية."

وإستطاع ابو ظفر بعزيمته التي لا تُقهر أن يتجاوز صعوبة الحياة ومحنة التخلف في عتق . فقد كان يعمل ليل نهار وبنكران ذات لخدمة المواطنين وبذلك نال تقدير منظمة الحزب الشيوعي في اليمن واصدرت تثميناً لجهوده في 16 ـ 6 ـ 1979 .

وفي مدينة نصاب التي لا تبعد كثيرا عن عتق والتي هي الأخرى تفتقر الى وجود طبيب ، تبرع ابو ظفر للعمل هناك يوما واحداً من كل إسبوع ، وإستثار جهده البارز هذا تقدير كوادر الحزب الإشتراكي اليمني والناس البسطاء في المحافظة . وكان الأشقاء في الحزب الإشتراكي اليمني يمتلكون الحماس والرغبة العارمة في التغيير ، وكانوا من التواضع الى حد كبير ، بحيث يصغون لكل مقترح يطرحه عليهم ابو ظفر لغرض التطوير ويبذلون جهدهم لتنفيذه مهما كان بسيطا . وفي خطاباته كان الرئيس اليمني السابق علي ناصر محمد يذكر ابو ظفر والصورة الجميلة التي جسدها في موقفة الإنساني وتضحيته براحته ومصالحه الشخصية من اجل الآخرين . وفي محافظة شبوة تمّ تكليفه بالإشراف على عمل مديرية الصحة في المحافظة ( رئاسة الصحة ) ، فقام بوضع البرامج المختلفة لتطوير العمل الصحي في عموم محافظة شبوة .
وخلال عمله في عتق لم يقتصر تميزه على الجانب المهني وحده ، وإنما كان بارعاً أيضاً في نسج افضل العلاقات السياسية والإجتماعية مع الأخوة اليمنيين ، وشكًلت ثقتهم العالية به سابقة غير معهودة في كل اليمن الديمقراطية، عندما كانوا يطلبون منه حضور إجتماعات اللجنة المحلية للحزب الإشتراكي اليمني في المحافظة للإستفادة من آراءه ومقترحاته ، وطلب منه المسؤولون في المحافظة وضع مقترحاته في تقارير لتعميمها على الجمهورية . كما أصدر مجلة حائطية دورية أطلق عليه" مجلة الصحة والحياة " قام برئاسة تحريرها وكتب معظم مواضيعها وسمى العدد الأول العدد صفر تيمناً بالصفر ومارس العمل الصحفي. وفي حقل لقاء ،قام بإجراء حوار مع المحافظ علي شايع حول مشاكل المحافظة ، بالإضافة الى إفتتاحه لمشروع رعاية الأمومة والطفولة لأول مرة في المحافظة ، بشكل أثار إعجاب الطبيب السويدي الموجود في عدن والمكلف من قبل منظمة الصحة العالمية بصدد تطوير عمل رعاية الأمومة والطفولة في اليمن الديمقراطية .
وفي اواسط شهر تموز ( يوليو )إستطعتُ الهرب مع طفليّ من قبضة النظام و السفر الى الكويت ومن هناك غادرتُ الى اليمن الديمقراطية . وقبل ان أغادر الكويت ، ارسلتُ برقية الى ابي ظفر أخبره فيها بموعد وصولي الى عدن ، لكن البرقية لم تصله ( بعد وصولي الى عتق بيومين إستلمتُ البرقية ) وصلتُ عتق ولم أجد ابو ظفر . فقد كان يقود حملة طبية للقضاء على وباء إنتشرفي مدينة بيحان المتاخمة للربع الخالي أواسط عام 1979 . إتصل مدير الصحة لاسلكيا بالأخ مأمور المنطقة المرافق لإبي ظفر في الحملة الطبية يخبره بضرورة تبليغ الدكتور بوصول عائلته من العراق . رتًب ابو ظفر امور الحملة الطبية وعاد لفترة قصيرة للإطمئنان علينا .لم يبقَ معنا سوى يومين وعاد لمواصلة الحملة قائلاً : ” … لقد كنتِ ذكية حين غادرتي العراق وتفلتي من قبضة الجزارين. .أنتِ والأطفال الآن في مكان امين . لم يصلني منكِ شيء تخبريني انكم قادمون الى اليمن ، لذا رتبت هذه الحملة الطبية للقضاء على الوباء الذي إنتشر في بيحان ، ارجو أن تعذريني لأني سأترككم غدا وأعود لمواصلة الحملة واكيد انتِ تفهميني وتقدرين وضعي ، فلا استطيع ترك الحملة في منتصف الطريق وانا الذي تطوعتُ بالمبادرة ولم يجبرني أحد على ذلك ..‘‘

كانت الإبتسامة لا تفارق ثغره تحت كل الظروف ، وكان يسعى لتوفير الراحة والإنسجام للرفاق الذين تواجدوا في المحافظة وكان يقتسم معهم ما يُخصص له من طعام وحتى رواتبه ، التي إستلمها دفعة واحدة بعد سبعة أشهر من تعيينه ، وزًعها على الرفاق الذين تأخر صرف رواتبهم في ذلك الوقت ورفض إستردادها منهم بعد أن إستلموا رواتبهم لولا إصرار رشاد الشلاه على جمعها و إعادتها اليه .
كان يحرص على تعزيز العلاقات الرفاقية و يبتكر اساليب عديدة لإشاعة المرح والسرور في نفوس رفاقه وخاصة في عطلة نهاية الإسبوع ، فبعد الغداء واثناء فترة تناول الشاي يتلو علينا الفقيد محسن شنيشل ( ابو رياض ) ماأعده لنا من أخبار إستمع لها من إذاعات عديدة ،ثم يبدأ كل رفيق بطرح اسئلته على ابو ظفر بمختلف القضايا الصحية والسياسية والثقافية وغيرها وكان يجيب عنها بكل جرأة وشجاعة ويطرح كل ما يدور بذهنه من آراء ، سواء ما يتعلق منها بالأوضاع السياسية أو العمل الحزبي دون خشية من احد . واليوميات التي كتبها في الفترة التي سبقت وصولي الى عتق تبين كيف كان يقضي اوقاته في تلك البقعة النائية .


بقيت فترة عمله في اليمن محفورة في ضميره . وكثيرا ما كان يكتب لي بإعتزاز عن اليمن العزيز وشعبها الطيب وحزبها قائلأ : " اليمن الديمقراطية بلد الطيبة والعطاء ، ارض الخير والوفاء الى حد ترسخت صورة هذا البلد وشعبه الكريم في ذاكرتنا . ولم أكن اغالي وقتها عندما كنتُ اقول " إنها مضيف الأممية " ، ففيها ينسى الأنسان أنه غريب عن وطنه وهذا احسسناه بعد مغادرتنا لها . فلا تبخلي عليهم بالعطاء وامنحي هذا الشعب عصارة فكركِ وجهدكِ وانقلي منا للذين أحبونا وإحتضنونا في محنتنا التحية والحب وأخصهم اهل الرابعة . ... تصوري هنا شعبية علي ناصر محمد ، فصوره موزعة على أماكن مختلفة من البيت الذي اسكنه ، وحتى الرفاق الذين لم يتسن لهم رؤية اليمن الديمقراطية معجبون بشخصيته ، وكانوا متلهفين لرؤيته في التلفزيون لدى زيارته الأخيرة الى دمشق … ويسرح فكري مستنتجا ، يا لروعة الصدق في العلاقات الإنسانية . فما هو أكيد بالنسبة لي ، ان هذا الأنسان اي الرفيق علي ناصر محمد لم يحرز هذا الرصيد من الحب والإعجاب في قلوب الشيوعيين والشرفاء جميعا ، لا لأنه رئيس دولة أو قائد حزب ولا لأنه مناضل رائع ، بل وايضا لصدقه الذي تطفح به كل قسمات وجهه وهو يلتقي بالناس وهو يصغي لمشاكلهم ويتحدث معهم . إنه نموذج عظيم لأصالة اليمنيين الشرفاء في هذه الجمهورية العربية الفريدة …. "



#بلقيس_الربيعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لك تنحني الجبال
- ابا ظفر .. في ذكرى ميلادك
- الذكرى الخامسة والثلاثون لاستشهاد الدكتور ابو ظفر
- أبا ظفر .. أنت قصيدة الحياة
- حكاية حب
- أبا ظفر .. تركت بصمتك في سجل المجد والخلود
- مدينة الثقافة الثقافة في قلب المدينة
- الهدف واحد
- عالم جين اوستن
- نموذج رائع
- سجينة الماضي
- أقوال أعجبتني
- ثلاثة وثلاثون عاما على اغتيال انديرا غاندي
- أهالي قضاء عفك.. مبادرة رائعة
- الذكرى الثالثة والثلاثون لاستشهاد الدكتور ابو ظفر
- من روائع الامام علي بن أبي طالب
- قراءة في رواية - مريوم - للدكتور عمر عبد العزيز
- استراليا بلد الأحلام
- اللؤلؤ المسحور .. قصة للأطفال
- كنت في مالطا


المزيد.....




- الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - بلقيس الربيعي - لك تنحني الجبال شذرات من حياته