|
عن المعارضين اليساريين لنظام حافظ الأسد
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6532 - 2020 / 4 / 8 - 11:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يوجد فارق مهم بين سجين زمن الاستقرار وسجين زمن الثورة، للثاني سند معنوي عميق يتمثل في خروج الشعب على النظام، أي في انتمائه إلى حركة شعب راهنة، أما الأول فيكون في عزلة شبه تامة عن هذا السند، لأنه خرج يعارض النظام و"يعارض" الشعب الغافل أيضاً. ذات يوم، دخل أحد عناصر الشرطة إلى مهجعنا في سجن عدرا بينما كان التلفزيون السوري يعرض مسيرات التأييد وصراخ التمجيد في إحدى مناسبات نظام الأسد، فسأل ساخراً: إذا قلنا لهذا الشعب، الذي تقولون إنكم تناضلون من أجله، إنكم أعداء الرئيس ماذا يمكن أن يفعل بكم؟ كانت مسيرات التأييد يومها هي اللون الوحيد في الشارع ولم تكن رداً على مظاهرات واسعة تطالب بإسقاط النظام، كما صار الحال بعد آذار/مارس 2011. لاستيعاب الزمن، أو بدافع الفضول ورغبة الاستكشاف، انشغلت في السجن بالسؤال عن القاسم المشترك بيننا، نحن السجناء السياسيين المعارضين لنظام حكم حافظ الأسد في فترة استقراره الأهم بعد مجزرة حماة 1982، الاستقرار الذي جعل قضية هؤلاء السجناء غير ملحوظة، رغم طول فترات سجنهم. كان السؤال يتعلق بصورة خاصة بالسجناء اليساريين، ذلك أن اتساع جماهيرية الأحزاب اليمينية (الإسلامية خصوصاً) جعل المسجونين على اسم هذه الأحزاب خليطاً متنوعاً لا ينفع معه البحث عن قاسم "شخصي" مشترك بينهم، في حين لم تتعد الأحزاب اليسارية المعارضة دائرة النخبة، بالمعنى العددي على الأقل، الأمر الذي يبرر البحث عن مواصفات شخصية مشتركة لهذه النخبة. انتبهت مثلاً إلى أن النسبة الغالبة من هؤلاء السجناء هم المواليد البكر في عائلاتهم، وصادف أن وصلنا إلى السجن كتاب يتكلم عن شخصية المولود البكر، ويعتبر أن الطفل الأول بعد انقطاع خمس سنوات عن الولادة هو بكر أيضاً، الأمر الذي زاد من النسبة. هذا مشترك خارجي لا يركن إليه، وإن كان يثير الاهتمام. لا بد أن هناك سمة أو سمات شخصية مشتركة بين سجناء الاستقرار لا تدفع صاحبها إلى الإقدام على هذا النوع من المواجهة الخطيرة فقط، بل أيضاً إلى الإصرار على ثبات الموقف رغم أن الواقع السياسي كان يقول بكل لسان إنه موقف انتحاري، او لنقل إنه موقف ينطوي على خسارة شخصية صافية تزداد فداحة مع زيادة سنوات السجن. كان من المقبول والدارج بيننا اعتبار أنفسنا "خميرة" لمستقبل قادم، أو أصحاب موقف تاريخي شبيه بموقف يوسف العظمة في مواجهة جيش الجنرال الفرنسي هنري غورو في ميسلون. في الحالتين هناك قبول بالهزيمة المباشرة ورهان على مستقبل غير منظور قد يملاً فعلهم أو تضحيتهم بالقيمة المستحقة. غير أن إقرار هؤلاء الأفراد بالهزيمة المباشرة كان يجاوره ويتعايش معه عنفوان شخصي يستمد نسغه من تفوق أخلاقي لا يستطيع أحد أن ينكره عليهم، بمن في ذلك جلادوهم. أفراد يخرجون من التيار العام المنقاد (عن خوف أو عن قناعة أو عن استسلام)، ويغامرون بالخروج على "النظام"، يغامرون بكل شيء، يصبح كل ما يخصهم مهدداً، لا تستثنى حياتهم من ذلك. ويتجاوز أذى أجهزة النظام شخوصهم ليطال محيطهم العائلي وأصدقاءهم. هذا النمط من الأشخاص لديه مقاومة للتدجين والاندماج بالتيار العام، مع جرأة الإقدام على الفعل. يمكن أن نقول مبدئياً، إن لدى هؤلاء عقل نقدي لا يميل إلى التسليم، مع اهتمام بالشأن العام واستعداد للمخاطرة التي تمليها عليهم قناعاتهم حتى لو أدى ذلك إلى خسارات شخصية كبيرة. وغالباً ما كان لدى هؤلاء ما يخسرونه، فهم في الغالب طلاب متميزون وفي فروع جامعية مرموقة، أو أشخاص نشيطون لهم قدرة على الترقي في مجال عملهم وتحسين شروط حياتهم الشخصية لو سايروا التيار السياسي العام. من الصعب إنكار هذا الجانب "البطولي" لدى هؤلاء، لكن إذا مضينا أبعد على الخط نفسه، سنقع على مفارقة تستوجب التأمل، هي أن الخروج عن التيار العام المنقاد، أفضى، من جهة أخرى، إلى تسليم بتيار عام آخر، وإن كان أقل سطوة. العقل النقدي النشيط تجاه سلطة سياسية محددة، تحول إلى عقل تسليمي أو أقل نقدية تجاه سلطة سياسية أخرى. احتقار التمجيد حيال قيادات معينة، ترافق مع تمجيد وإيمان "بحكمة" قيادات أخرى. النتيجة أن التشكيلات المعارضة التي أنشأها هؤلاء "المختلفون" كانت تعيد إنتاج العقلية السياسية التي يثورون عليها. الثائر في علاقته بنظام الأسد، يتحول إلى "رجل سلطة" في علاقته بتنظيمه المعارض، دون وعي منه بأنه يعيد بذلك رسم حركة "الموالين" نفسها ولكن حول مركزية أخرى. في السجن، للدلالة على النزعة المحافظة التي قد تصل إلى حدود القمع عند سجين ما، كان يقال بسخرية إن فلان جدير بأن يكون "علي دوبا" الحزب. كان هناك دائماً "علي دوبا" الجلاد و"علي دوبا" المسجون. داخل كل تشكيل معارض سوف تجد "نظاماً" يحاكي استبداد النظام الذي ثار عليه، وداخل كل ثائر سوف تجد برعم لرجل سلطة محافظ. ليس في هذا الكلام انتقاص أو إدانة، إنه إقرار بواقع "طبيعي"، وتأكيد على أن الخروج من دائرة الاستبداد السياسي لا يتم على يد أنبياء لا وجود واقعياً لهم، وما التدليل على سوء المعارضة بالإشارة إلى عيوب شخصية عند هذا المعارض أو ذاك، إلا تعبير عن فهم مغلوط للتحرر بوصفه استبدال أشرار بأخيار، في حين أنه فعل جماعي تشاركي وليس فعل استبدال. تأسيس آليات فعالة للرقابة الجماعية هو السبيل الوحيد لقمع ميول السيطرة عند الأفراد أينما كانوا. لا تنبع قيمة العمل السياسي المعارض من إسقاط نظام وإحلال نظام، بل من التأسيس لآليات رقابة جماعية (دولة قانون تصونه المؤسسات الرسمية ويحرسه المجتمع المدني) يمكن أن تشل "سوء" الأشخاص الذين يتولون إدارة الشأن العام. على هذا فإن خروج معارضي النظام عن التيار العام ينطوي على دفاع مهم وضروري عن حق الجميع بالوجود السياسي. وفق هذا المنظور يكون للفعل السياسي المعارض دور "تقدمي" في تاريخ المجتمعات المحكومة بالاستبداد السياسي، قياساً على التسليم والانضواء المنساق مع التيار العام التسليمي، حتى لو انطوى العمل السياسي المعارض على تسليم وانقياد في دائرته الخاصة. في موت سجن تدمر كانت نفوسنا تقاوم بالضحك، بالتضامن، بالتأمل، بالصمت ..الخ. كنا أيضاً نقاوم بابتكار وسائل ترفع ثقل الزمن قليلاً عن نفوسنا. كان من هذه الوسائل طرح سؤال شخصي والانصات إلى إجابة كل منا: أول علاقة حب، إحراج لا تنساه، ندم، موقف تخجل منه، موقف تفخر به، الرضى عن النفس، وصف العلاقة مع الأب ..الخ. اغتنمت الفرصة مرة لإدارة الجلسة حول السؤال: هل تعتبر نفسك انساناً عادياً؟ كانت خلاصة الأجوبة واحدة، قليل من المتحدثين يعتبر نفسه عادياً. هناك شعور غالب بالتميز، هناك إذن بحث عن دور يكافئ هذا التميز. النفور من القطيعية، المبادرة وشجاعة الإقدام على الفعل، الاهتمام بالشأن العام، الشعور بالتميز الذي يدفع صاحبه إلى التكرس لتحقيق تميزه بعصامية، إضافة إلى أخلاقية "فروسية" تكابر وتخجل من الانكسار أو الانحناء، هل يكون هذا المزيج هو القاسم المشترك لهؤلاء "الأبطال" الذين وقفوا ضد واحد من أشد أنواع الأنظمة عدائية في أكثر لحظاته استقراراً. مثل أي ملاحظة، لا يشمل الكلام السابق كل الطيف المعارض الذي تتناوله، وإن كان يحيط، كما نعتقد، بالجزء الأكبر منه.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انتصار الثورة المحطمة
-
في الذكرى التاسعة للثورة السورية
-
ادلب، هل يكون الشفاءمن جنس المرض
-
اللقاء السوري الديموقراطي: ولادة جديد؟
-
حين نتأمل في -صفقة القرن-
-
حدود الاحتجاجات في مناطق سيطرة نظام الأسد
-
الراية البيضاء
-
تجاور الأزمنة في سورية
-
أسئلة بخصوص مقتل قاسم سليماني
-
شرنقة
-
مفتاح ومعصم
-
إمكانية المهمة الديموقراطية في سوريا
-
شبهات النظام وشبهات الوسط الثقافي السوري
-
دروس الموجة الثانية من الثورات العربية
-
مهزومون على ضفتي الفجوة السورية
-
في الحاجة الى معارضة سورية مختلفة
-
ظاهرة المنتديات والمجموعات الثقافية في سورية
-
عن الشاعر عدنان مقداد
-
ثورة يتيمة
-
في تشابه الحكايتين الكردية والعلوية في سورية
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|