|
مَقَاهِي المِلْحِ
زكرياء مزواري
الحوار المتمدن-العدد: 6528 - 2020 / 4 / 3 - 10:42
المحور:
الادب والفن
” ليس لبوزريويطة أصدقاء دائمون.. وليس له أعداء دائمون.. إن لبوزريويطة مصالح دائمة“
كانت هذه الحكمة الخالدة، نتيجة عُصارةٍ وتجربةَ حياةٍ خاضها الباحث البحّاثة والمنجمن الألمعي بوزريويطة. ما كان لصاحبنا أن يدرك منطق اللّعبة وطبيعة الحفلات التّنكرية لولا الدُربة والمراس. كان بوزريويطة من أشدّ النّاس حرصاً على الصّور والتّراص في الصفوف الأمامية، بل كان مولعا بالأضواء أيضا. يعرف بوزريويطة جيداً درس فوكو في إنتاج الخطاب بكل مجتمع، بما هو إنتاج مراقب ومنتقى ومنظم ومعاد توزيعه، من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته ومخاطره، بما هو خطاب يبدو في ظاهره من الوهلة الأولى بسيطا، لكنه في العمق مبطّن بكل أشكال الإخفاء والمنع والاستبعاد. بوزريويطة شخصٌ ثعلبيٌّ، كلّ خُطوةٍ من خطواته مدروسة بحنكةٍ دقيقةٍ، وهندسةٍ عاليةٍ، وعملية إنتاج خطابه لا تخرج للعلن حتى تمرّ من كل أشكال الضبط وألوان المراقبة. لذلك؛ فكّر في ضرورة إيجاد قنوات تمكّنه من تمرير خطابه، وآليات تساعده على وصول كلامه إلى أكبر قدر من النّاس. وقال في قرارة نفسه يوما: " ليس لي من حيلة غير هذه، فأنا أعرف أنّ جميع من وصلوا في بلادي إلى مُبتغاهم، راموا طُرقاً غير مشروعة، فهل أنا الوحيد الذي سأكون نشازاً في المنظومة الفاسدة؟. وماذا عن تأنيب الضمير؟، آهٍ، وبم سيفيدني هذا الضمير؟ ألا تتذكّر أيّها الضمير أشكال القهر التي أذاقتني إيّاها سنواتي العجاف؟. لا بّد لي أن أستفيد من الدرس، لم يعد هناك من حل، فحتى تكويني المعرفي هشٌّ جداً، و لا يمكنني أبداً الثّقة في مهاراتي أو التعويل عليها. ها هم كثير من أبناء قبيلتي، نالوا مُناهم باللّحس والتزحلق على البطن. هكذا صار الزمن، إنه زمن الوصول السريع". أمام هذا المونولوغ، خطرت لبوزريويطة عديدُ مشاريعٍ، كالانخراط في الأحزاب والنقابات والجمعيات واتحادات الكتاب... المسالك يسيرة، لكن كيف السبيل لأخذ الشعلة من بروميتيوس؟. يدرك جيّدا بوزريويطة أن هذه المؤسسات يجري عليها الكثير من القتال بين الناس، و على مستوى ترأس مكاتبها خاصة، فهي فعلا تمنح الفاعل النشيط السلطة، وتنجمنه بتسليط الأضواء عليه، ألا ترى كيف تكون معرفة المثقف مسموعة من لدن الناس، ومنتشرة بين الجميع حين توجد أيادٍ خفية تدعمه من وراء حجاب؟ ذات مساءٍ، وبينما كان جالساً في مقهاه المفضلة، رفقة زملائه في المادة والعمل، يشرب الشاي ويأكل الحرشة، بادر رفاقه: ما رأيكم يا أحفاد سقراط في تأسيس نادٍ ثقافي يجمع شتاتنا نحن محبي الحكمة؟ ألا ترون المقاهي الثقافية بين ظهرانينا تتناسل كالجراد في هذه المدينة المنكوبة؟ ألا يحق لنا نحن سادة الفكر و رجال الأنوار أن نؤسس "أغورا" تليق بمقامنا؟. و دون أن يتم أسئلته، قفز الجميع لتقبيل رأسه، نِعْمَ الرأي رأيك يا بوزريويطة. نحن أولى من أصحاب الصالونات الأدبية، ولنا في تاريخ الحكمة والحكماء الزاد المعين في تنوير النشء وإحداث التغيير. نظر إليهم بوزريويطة وعيناه تفيض بالفرح الممزوج بلذة انتصار خطته. كان يدرك أن أصدقاءه مغفلون، يعيشون في قرون ما قبل ميلاد المسيح، ألا ليت شعري، وهل هناك حكمة عملية بعد موت الإغريق؟ عاد إلى المنزل، وكل علامات النصر بادية على وجهه، وقال في حديث لنفسه: "وأخيراً سأشق طريقي إلى هناك، إلى حيث توجد المدرجات، فقد ضقت ذرعا بالقسم، وحصصي باتت أشبه بحلقات تعذيبٍ روحيٍّ. ها أنا أسير بخطى حثيثة نحو هدفي الذي رسمته، فشخصٌ مثلي ينبغي أن يصير أستاذاً جامعياً أو أكثر، وهل أنا أقل شأناً من أبناء قبيلتي وهم الجوف المسطّحون، والمدجّجون بكل أنواع الفاقة، والخواء المعرفي الرهيب؟. فأنا على علم بمخططات الدولة السريالية، فهي منذ زمن نجحت في تحويل رسالة المعلم من مربي إلى باحث عن خبز، فصار التعليم رسالة خُبزٍ لمن لا خبز له، وفي المستويات العليا، خلقت جيلا من الدكاترة -الخدج المالكين لكل وسائل إنتاج الجهل والمكر، القمينة بإعادة إنتاج الهيستريا الجماعية وخربطة متخيل الجموع". إنه عصر الدكاترة يا بوزريويطة، وواصل يخاطب ذاته: "اليوم لا مجال للراحة، فإذا علم الواحد من أين تؤكل الكتف، عليه أن يلزم السبيل. البارحة، نجحت في اغتصاب الشهادة، التي خولت لي المرور إلى التسجيل في مسلك الدكتوراه، كما تفوقت في اختيار المشرف على الرسالة، والمعروف بنومه، وكثرة تحرشه ببنات آوى. اليوم، علي أن أرسم المشهد لِما سأكون عليه مستقبلاً". في الغد، سارع بوزريويطة إلى مقهاه المعلومة، ليبشّر مدرسي المادة بقبول صاحب المقهى بمنحه الفضاء كلما كان هناك نشاط ثقافي. فرح الرفاق بالخبر، وبدأت بعد ذلك هندسة المشهد. يعلم بوزريويطة جيدا أنه والخواء سيان، إذ عوض ما يستفرغ وقته في تمشيط رفوف المكتبات، باحثاً عن ما استجد من الكتب والمؤلفات بغية هضمها وتجاوزها كما هو متعارف عليه في الأطاريح الجامعية، سخر صاحبنا كل مهاراته الحربائية من نقلٍ وسلخٍ من البحوث المنشورة هنا وهناك، مع إجادة إخفاء سرقاته و"كولاجاته". فالبحث العلمي عنده غير مُهِمٍ، بقدر ما تهمّه الشهادة التي ستخول له العبور إلى الفردوس الأرضي. أمام "مقاهي الملح" الثقافية، المنتشرة في المدينة كانتشار النار في الهشيم، استطاعت مقهى بوزريويطة أن تلفت الانتباه؛ إذ بعد فترة وجيزة، ذاعت أصداؤها الثقافية، وانهرقت أنوارها بكثرة على المدينة، فبات الكل يقصد شطرها. كم كان سعيداً صاحبنا بالأثر، وكم انتشى فرحاً بنجاح لعبته، يبدو في قرارة نفسه واعياً أن الحكمة تكمن في الحنكة، حنكة تسويق نموذج يتماشى وخطاب السلطة، فالمعرفة والسلطة بينهما علاقة جدلية، ولم يعد المثقف هو من يضع الحقيقة نصب عينيه حتى تتطابق الذات مع الموضوع، بل صار نظام الحقيقة مرتبطاً بأنساق السلطة التي تنتجها، وبالآثار التي تولدها. هكذا كان بوزريويطة نموذجاً لمثقف "الواجهة" الذي تعاهد سراً مع ذاته على إشاعة التهادن و التساكن بل والتصامم. وما نقده إلا عبارة عن تزلف لذوي النّعمة، حيث يسبل عليهم شآبيب أحكامٍ مِلؤها التنويهُ والتبريكُ والإعجابُ من جهة، أو غضّ الطّرف والسّكوتِ، حفاظاً على طيب العلاقات إما مخافة تضييع أستاذ، أو خشية فقدان مرودِ تكسبٍ من جهة أخرى. لذا، كانت مقهاه أشبه بقبيلة ثقافية، بكل ما تحمله كلمة قبيلة من معنى أنثروبولوجي عميق؛ قبيلة تحركها نعرة العصبية وأولوية المصلحة. فقبيلة بوزريويطة الثقافية، قبيلة في ظاهرها يطبعها الهدوء والسكينة، وفي باطنها نار تؤججها رغبات الفاعلين في الظّفر بالنّجمنة ومسرحة المحتوى. لذلك، لا يمكن فك شفرة تحركات صاحبنا في المشهد، إلا إذا تم تفكيك سيناريو لعبته المقيتة، وقبلاً تحليل سيكولوجيته؛ فتجده أولاً حريصاً على تشبيك العلاقات، وثانياً مُكثراً من التحالفات، وثالثاً خدوماً للنّاس، ورابعاً دؤوباً على إحياء الأنشطة الثقافية، وخامساً نابغةً في فن الخطابة، وسادساً حارساً لمعبد الثقافة، وسابعاً كثير المكر والدّس، وثامناً بارعاً في الزطاطة وقطع الطرق، وتاسعاً فارساً في الندوات واللقاءات، وعاشراً خبيراً في فن الرياء والمداهنة والتملق. بهذه الخصال الحميدة التي تمتع بها صاحبنا، أعلن بوزويطة افتتاح موسم مقهاه الثقافي، وأعدّ له برنامجاً سنوياً يتضمن مختلف الأنشطة التي ستنعقد فيه، فما كانت إلا الدهشة والفضول يعتريان الحضور من حجم الموضوعات الفكرية الثقيلة. وبعد عرضه لهذا البرنامج، اختار بوزريويطة أن تكون بداية هذا الافتتاح عبارة عن محاضرة في أهمية المثقف وأدواره الطلائعية، يلقي مداخلتها استاذه المشرف على الرسالة. هذا الأخير، وبعد نومٍ طويلٍ في الجامعة، اخترق الحشود الحاضرة، واعتلى المنصة وسط حفاوةٍ من التصفيقات. بدأ الدكتور-الجائحة يهرّج كما هي عادته في المدرّج، ويعوّم المفاهيم، ويضرب الأخماس في الأسداس، ظاناً أنه يحسن صنعا. وما كادت المحاضرة (التعذيب النفسي) أن تنتهي، حتى قام بوزريويطة من كرسيه ليصفق بحرارة لمداخلة أستاذه، ثم تبعه في ذلك الجميع. لم يكن يعلم الجمع الموقر أن المسماة ظلماً وبهتاناً محاضرة، كانت مجرد حفلة تنكرية، هندس لها صاحبنا ببراعة فائقة، فهو بتكريمه الآن، وبهذا الإطناب اللامحدود الذي أسبله عليه، كان في قرارة نفسه يعي حجم الورطة التي ورط بها أستاذه، حتى يغضّ الطرف عنه يوم المناقشة. بل لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد انتقى بوزريويطة بعض الأساتذة الذين خالهم حاضرين في ذلك اليوم المعلوم، ووضع لهم لقاءات بمقهاه الثقافية، تكون عبارة عن ندوات أو قراءات في كتبهم/تمائمهم الفكرية أو حتى تكريماً لهم، وعرفاناً بالمجهودات التي قاموا بها في سبيل خدمة العلم والمعرفة. في مقهى الملح التي تنتعش فيها النّميمة وتستفحل فيها الوشاية، تعاد هندسة المشهد الثقافي، كمشهدٍ يعيد إنتاج السرطان الذي نخر الجامعة وأجهز على خلاياها النّظيفة، وأغرقها من ثمة في الورم والفساد. في مقهى الملح يجتمع حفنة من الكتبة حول نصٍّ إنشائيٍّ -لأحد أصدقائهم أو ولي نعمتهم غالبا- مصاب بالزكام والإسهال، ويبدؤون في فك طلاسمه، دون أن يقرؤوه طبعا. في مقهى الملح، يجتمع سماسرة كلمات في تكتلات عشائرية للنهيق الجماعي في المنصات. في مقهى الملح ينجلي الجهل المركب مُبنْيَناً بأركانه كاملة، حين يقرر الجهلة السفلة، التّطفل على موضوعات معقّدة جداً، وتحليلها بأدوات معرفية بائدة. في مقهى الملح تجد رويبضات ودجالين جدداً ضاربين في الجهل، يصرخون ملء أفواههم على المنابر بكلمات رنّانة، وشعارات عريضة تسحر القوم، وتتركهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. (يتبع)
#زكرياء_مزواري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيروس كورونا في مواجهة الإنسان السائل
-
سِيرةُ دُكتورٍ خَدِيجٍ
-
حُبٌ فِي زَمنِ التّفاهَةِ
المزيد.....
-
تصوير 4 أفلام عن أعضاء فرقة The Beatles البريطانية الشهيرة
...
-
ياسمين صبري توقف مقاضاة محمد رمضان وتقبل اعتذاره
-
ثبت تردد قناة MBC دراما مصر الان.. أحلى أفلام ومسلسلات عيد ا
...
-
لمحبي الأفلام المصرية..ثبت تردد قناة روتانا سينما على النايل
...
-
ظهور بيت أبيض جديد في الولايات المتحدة (صور)
-
رحيل الممثل الأمريكي فال كيلمر المعروف بأدواره في -توب غن- و
...
-
فيديو سقوط نوال الزغبي على المسرح وفستانها وإطلالتها يثير تف
...
-
رحيل أسطورة هوليوود فال كيلمر
-
فيديو سقوط نوال الزغبي على المسرح وفستانها وإطلالتها يثير تف
...
-
- كذبة أبريل-.. تركي آل الشيخ يثير تفاعلا واسعا بمنشور وفيدي
...
المزيد.....
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
المزيد.....
|