|
ليلة بكاء الكلب / قصة قصيرة
ابراهيم سبتي
الحوار المتمدن-العدد: 1577 - 2006 / 6 / 10 - 07:56
المحور:
الادب والفن
(تساقطت الدموع ، كانها شظايا نجوم تشتعل ثم تلاشت) ارسكين كالدويل ـ الازهار البرية
المطر ، يتوقف تماما ، الشوارع المظامة غرقت في بحيرات متناثرة .. الضوء الشاحب القادم من بعيد ، يسقط كمغشي عليه فوق البيوت الصامتة ..البيوت التي بدت مهجورة موحشة حين ضربها المطر منذ ساعات ..ضربها بعنف ،ظل يهطل بغزارة حتى اخر قطرة ساقطة .. سكن الليل .. لاشئ يبعثره ، حتى الكلاب لااثر لها .. لانباح البتة .. حتى بات البعض يتندر بانه راى كلبا فيصيح الاخرون : يا للهول ! البلدة تسبح ببقايا المياه العالقة ، وانين مكتوم يتسرب خلسة من نافذة نصف مهشمة مستسلمة للريح .. الانين يخرج من جوف بيت خرب يئن هو من اثار سنين ضربته بمطرقة غير رؤومة . انين حبيس لانفاس تبدو مفجوعة واهنة لاشئ يجعلها تبدو غير ذلك نهض مفزوعا .. خل نفسه في كابوس .. تنفس بعمق ، زادت ريح الليل من فزعه .. ردد في نفسه : الليل ..الليل .. احار في أي اتجاه اذهب ؟ الريح تعول وانا ارتجف .. اطل من النافذة ، الخارج غارق في الظلمة .. سار ملتفعا بعباءةتاركا الدار حاملا مجرفة..واجهته لسعة الريح الصفرة وحطت عليه نسمة باردة . صدره الخافق يلفظ سعالا خفيفا كلما غاص في ظلمة الشوارع الباردة .. لااثر لاي ضوء ، فومضة الضوء الشاحب اختفت ..التقطت اذناه صوتا بعيدا .. سار وسط بلدته النائمة .. يسيير نحو البر المدد امامه كجثة خامدة .. الان : البراري والفيافي والقفار غارقة في لجة الرعب والليل ، يضربها على امتدادها الشاسع .. يضربها برهبته المروعة . سمع نتفا من كلمات متناثرة بعيدة ـ الليل مقبرة الاحياء ـ اجتاز البلدة النائمة .. واجهه البر البهيم الصامت .. لالثر لاي نباح كلب ، اذ لا كلب البتة .. توقف متسائلا : لاكلاب .. غريب ؟ حينها سبحت مخيلته الى يوم جاء فيه الملثمون الى البلدة ومزقوا كلانها بمجزرة استمرت من الغروب حتى طتوع الفجر .. لم ينج كلبا واحدا .. حتى كلبه، فصارت البلدة خالية مخلية .. سار نحو البر وهو يبحث عن جواب .. ولم يسمع ابدا .. البر في الليل البارد مخيف والصوت الاتي من بعيد يظهر ويختفي ، خطواته متثاقلة في وحل البر بعد ساعات المطر .. السماء ملبدة بغيوم كثيفة .. كلبه لم ينج من المجزرة .. كان يجلس امام داره ، ينبح في الليل لمراة شئ ما .. كانت مناكبه عريضة .. نحيف وهزيل واضلاعه ظاهرة واذانه مسترخية .. وانيابه كانها ملتصقة ببعضها .. ظل الصغار يقذفونه بنعوت غريبة .. فيضحكون هازئين .. لكن صاحبه كان يفاخر به كثيرا ، فيصحبه احيانا الى مراهنات شم الاشياء مع كلاب اخرى .. كانوا يخفون شيئا في مكان قصي ويطلقون كلابهم تبحث عنه .. مزقوه اربا بطلقة بطشت به .. خطواته تجره الى حيث جره كلبه من قبل .. قبل عشرة سنوات تحديدا ..في ليلة ممطرة ، عندما سار امامه وكأنه اراد ان يخبره بشئ .. وحين وصلا الى مكان ما ، توقف الكلب ونبح بعنف وسط الظلمة المريعة وهو يزيل الوحل بمخالبه حتى ظهرت ساق صغيرة بدت كانها مدفونة توا ..صمت الكلب وظل يحدق بالساق الادمية .. عندها ارتجف الرجل كورقة في ريح فاعاد الوحل على الساق وعادا مسرعين.. ليلتها لم ينم حتى الشروق .ولم يغب المشهد عن عينيه ، فظل ماثلا امامه كل لحظة .. لم يخبر احدا حتى زوجته في بيته الخرب الصغير..وعندما حضر الملثمون لقتل الكلاب ، لم يسالهم احد عن السبب ، فتواروا خلف الابواب ينظرون بهلع ..وظل السؤال دون اجابة .. الريح مازالت تعول ، ساوره القلق .. قال في سره : ثمة خطر داهم ! لكن الصوت البعيد راح يقترب .. ونثار الكلمات حام فوق راسه ، نلقف منها .. الليل مقبرة الاحياء ـ تلبسه القلق اكثر ..خطواته تتثاقل .. ثمة حشرجات .. اصوات مخنوقة ، تناهت الى سمعه وصارت تقيده وتخيفه .. الليل مقبر……ة.. تمنى لو كان قلبه المقتول معه .. القى بمجرفته ووقف يتامل المكان الغارق بالظلمة والوحل .. لم يستطع الوصول الى هدفه ، لم يعثر على مكان الساق ، فالسنوات قد وارته بعيدا في الارض فضاع اثره .. لكنه تلقف انينا مكتوما فراح يحوم حول دائرة وهمية .. يحوم والانين يتواصل ، وفجاة اختفى وظل الليل كغراب جاثم على انفاسه .. رجع كالملدوغ يرتعش كسعفة واهنة .. في الصباح البلدة تمور بالحركة .. لاشئ يقطع همهمة السائرين غير وحل مطرة البارحة . طالع من نافذته مع امراته القاطبة الحاجبين المتوثبة كنمرة جريحة ..قال لها بهمس : ـ الليلة سينتهي قلقي .. سيتلاشى تماما .. سابحث في نفس المكان حتى اجد ماعثر عليه كلبي ! ردت باستغراب مشوب بحذر : ـ أي قلق ؟ انك تهذي ! ـ ليس مهما .. الليلة سينتهي كل شئ وكفى .. لن اغفر لهم ، اولئك الذين وزعوا الموت وقتلوا الكلاب وغيبوا نباحها .. ـ قل غيبونا ! ـ لم تغب عن عيني حملة تقتيل الكلاب المروعة .. لقد رعبت وانا انظر الى كلبي الذي اطرق راسه نحو الارض وكانه يعلم بدنو نهايته .. قلت حينها ، ثمة خطر داهم .. فساورني قلق غريب .. همست بهدوء مفتعل .. ـ قالوا انها مريضة ! رد محتدا ـ أي مرض هذا .. كانت خطة قذرة لطمس الدليل .. بان الوجوم على وجه المراة التي ولجت الى الداخل وتلاشت .. نزل الى ساحة البلدة المقابلة .. يجوبها الناس ببلاهة مطلقة ، يصطدمون ببعضهم دون مبالاة ولااحد ينظر الى الاخر .. يسيرون كاجساد محنطة .. فصارت الساحة صامتة لاحراك فيها سوى بعض همهمات تصدر فتختفي .. صاح بالسائرين ولااحد يلتفت .. يكاد لا أحد يسمع ، خمن بأنه يصرخ في صحراء قاحلة مترامية .. امسك بأحد المارة فانفلت منه كسمكة لابطة ..امسك بالآخر ، لا أحد يسمعه .. صاح ثانية .. هناك سيقان آدمية في جوف البر ! قتلوا الكلاب كي لاتنبش الحفر .. ولكنه كمن ينفخ في خواء ..الناس كافاع تتلوى منذ اول الصبح ..فجاة توقف كل شئ .. تقدم رجل ضخم تغطي وجهه نظارة عريضة قاتمة ولحية كثة .. يرتدي بدلة سوداء غرابية وبدا كانه كتلة حجرية تتحرك الى امام .. امسك بياقة الرجل الهائج ولطمه بقوة ، سقط .. تلاحقت الركلات على الجسد الهزيل المسجى .. لم يتدخل احد ، فعقدت السنتهم الدهشة الممزوجة بالبلاهة .. الرجل الضخم انهال بركلاته وقبضاته على الرجل المتوجع ، تكالب عليه مثل وحش مسعور .. لم يتدل احد .. عدل الضخم من وقفته واسترد انفاسه وصاح بالواقفين : ـ في المرة القادمة سارسله الى اقرب مقبرة ! دوى صوت الرجل الضخم مجلجلا بين الواقفين واردف : ـ لاتصدقوا كلامه .. انه يهذي .. لااوصال في البر .. لاسيقان .. الكلاب لم تمت في مجزرة ، لقد اصيبت بمرض فتاك .. فكانت الوقاية احسن من العلاج .. حاولوا ان تبسوا تلك الليلة ، لاملثمين .. لاقتل .. انها اوهام .. احد الواقفين من كبار السن اخترق حيرة الحشد وتقدم خطوتين وكانه اقتحم طوقا امنيا وقال بصوت متهدج مرتعش: ـ لم تكن كلابنا مريضة ! رايتهم يطلقون عليها النار ، لم يبقوا لها اثرا .. رد الضخم متعكرا - انت تخرف يااخرق .. هراء .. كله هراء .. نهض الرجل المتوجع .. كان الدم يسيح من راسه ، وجه متقلص ونظراته زائغة وبدت جموع الناس كانها غارقة في ضباب .. نظروا اليه بريبة ، بحث عن الضخم رغم الغشاوة المسفوحة امامه .. اطاح بمخاوفه وصرخ متهالكا يتسرب التعب من وجهه .. انت احدهم ! انت احد الملثمين الذين ابادوا الكلاب ! وكمن حقن برشقة من القوة صاح احد الواقفين ..
ليست الكلاب وحدها ! هناك من ضاعت اخباره وتلاشت منذ سنين ! كان الضخم يقف على مرمى يصقة من الرجل المتهالك الذي قذفه بواحدة جفل لها الضخم ورفع قبضته محاولا إنزالها على راس الرجل أقذع له بكلمات تراشقت كالرصاص.. الواقفون رموه بعيون تنفح زجرا وغضبا .. تنحى الضخم من مكانه وغادر كحية تتقلب شاردة على التراب .. الرجل المتهالك تندت عيناه بالدمع وسط هدير صيحات الحشد التي لاحقت الضخم الذي توارى تماما .. فيما كانت صرخاتهم تمر من فوق راس الرجل المتوجع كغبار تذروه الريح .. لم يسمع أي شئ منها .. اغمض عينيه متألما ولهجت شفتاه المعورتين : واحسرتاه .. واردف متنهدا نابشا في جرح غائر .. الليل مقبرة الاحياء .. اشاح بوجهه عن الواقفين ونظر الى افق البر البعيد .. قال بهمس هازا راسه الذي ساح الدم منه مخددا وجهه .. لم يبارح راسي ذلك المشهد المقرف .. قتلوا الكلب لانهم لم يخفوا السيقان جيدا .. هاج الحشد المذهول متجها صوب البر وصيحات الاسى تتصاعد فوق الرؤوس المتوقدة..
#ابراهيم_سبتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
امنية موتي / قصة قصيرة
-
الاحتفاء بعذابات القصة
-
عوني كرومي : مسافر ليل يرحل مبكرا ايضا
-
رجل متضفدع / قصة قصيرة
-
آخر الغروب / قصة قصيرة
-
ملحمة جلجامش .. النص من فكرة الخلود الى محنة الموت
-
موت المؤلف وخلود الاثر
-
محنة القصة القصيرة جدا
-
قصص قصيرة جدا
-
قصتان قصيرتان جدا
-
عين الذاكرة
-
الشاعر شهيدا : وهل كان الشاعر سوى موت على وشك الانبعاث ؟
-
قريبا .. كمال سبتي .. المراثي
-
كمال شاعر المدن
المزيد.....
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|