أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال انمار احمد - (( في ذلك الضباب الحزين...قصة قصيرة ))















المزيد.....


(( في ذلك الضباب الحزين...قصة قصيرة ))


كمال انمار احمد
كاتب على سبيل النجاة

(Kamal Anmar Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 6525 - 2020 / 3 / 28 - 02:03
المحور: الادب والفن
    


لم تكن مجرد أَزمة مرَّ بها جورج،فلقد عانى من حزنٍ شديدٍ،و كآبة مُمرِضة ما عاناه.فأَصبحت تلك الهواجس التي تسبب العلل تُخيف داخله،و تُعَرِّض مكامنه الهادئة و المعتدلة إِلى خريفٍ من العواصفِ،و شتاء من الأَمطار.أَثَّر هذا كله في مجرى حياته الدفينة باطنياً،فلم يستسغ كل ذلك التجديد المرعب في حياته الجديدة.التجديد الذي كان أَشبه بالأَمواج العاتية،و كان هو أَشبه بالسفينة البدائية المصنوعة من الأخشاب البسيطة.لم تحتمل السفينة كل هذا المد العاتي من أَمواج الإدراك،أَمواج الأَحلام الواهمة.جورج لم يستسلم في حينها،فخطرت في فكره خاطرة حبيبته العزيزة التي أَفنى أَعظم وقت حياته معها،حيث كانا في إِخضرارِ تلك الطبيعة يتجولان معا،و بين أَزقة الأَحياء القديمة ينقبون عن أَحاديث الأَجداد و الآباء،باحثين عن خطاهم و حياتهم.لم يكن الرعب المدمر ليخفيه،و لم تكن للعواصف و الرعد ان تهز عزيمته في التغلب على هذه المحنة الوطيدة.تَذَكَّر أَنَّ الحبيبة هي المفتاح الذي سيفتح باب الأَمل لهذا الترياق القاتل،لهذا الشبح الغامض في أُفول الأَزمة.إِنَّه و حبيبته سيكونان روح واحدة في مكمنٍ واحد،يسير فيه النور متى ما تراءى الظلام.و ما الظلام في رواق الأَحبة،سوى نور ساطع في رواق الحياة المنتهية.هكذا كان جل تفكير جورج،جل ما عنده في أَثناء كل خواطره.
بعد رسالة قصيرة أَرسلها جورج إِلى حبيبته المنشودة،بكلمات معطرة بشذى الحب و العشرة،و مضمونه معنون بأَذىً قريب،و غبرة تعتري السطور،و إِندفاعٍ مبهر بين المعاني.لم يأت أَي جواب،و لم تَدُق الباب أَيَّ رسالةٍ من عهد الحبيب.إِنتظر جورج حتى شق أَنهر خياله بِغَيض الأَلم،و شدة الحزن.و قَسَّم قارات الأَرض إِلى أَلف قطعة،قضى على المعنى و إِنهال بالضرب على النصوص،صارع الحرف فلكمه. و جمع كفه ليصفع المجهول،ثم إِنهال على الموت ليقصم ظهره،ليلتذ بالتدمير المريع،و يبتسم بجو الحقد وكبت المشاعر الرحيمة.

لم يسعه إِلَّا الإنتظار،ذلك الإِغراء السعيد بانَّ كُل شيء على ما يرام.لم يستطيع سوى أَنْ ينتظر متى سترسل تلك الحبيبة الرسالة،متى ستأَتي لؤلؤة البحر،بأَيد الغواص المُتعَب،متى سيكون للصياد نصره،و هاهو بين خفق النسيان،و أصوات المستحيل،بين عناوين الشك و الصبر،بين مشاعل الحرب و السلام.ما لنا سوى الانتظار،و مالنا سوى أَن نُهَدَّأ أنفسنا لفعل ذلك،هكذا بدا جورج يهمهم مع نفسه في بيته المظلم،و مكانه المليء بدخان السكائر التي أَصبحت مثل غيمة لا تستطيع أَنْ ترى ما يشوبها،و على أريكةٍ أتعبها الزمن،و نال منها الحزن ما نال،جلس جورج و هو منهك الحال،مُزَعزَع الأَركان،مُتخوف من المستقبل,يمسك سيكارته المليئة بالرماد،ليغوص في أَعماق الموت،و خلف قبور الموتى،و عند أَشلاء القتلى.يغوص بعيدا عن دخان سيكارته،قريبا من ظلام أفكاره،و ضلال همومه المزدهرة.لم يكن ليدرك ماهية دخانه،لم يكن ليعلم ما سيجلبه وقت انتظاره الرهيب.

هكذا،و بعد أَيام من تلك الرسالة المخيفة،دق ناقوس الجحيم،و عَمَّ ربيع العتمة الهائجة،و انفلق صبح القتال،و بانت منه أزهار الرهبة المهينة،ها هو الباب يُطرَق صباحا،و جورج لا زالت عيناه ميتة مما رَآه في خيالاته،لا زالت عيناه،مسحورة بذلك الكون العجيب مما فيه من مآسي الحياة الوديعة، لم يسمع طرق الباب،و لا هدهدة النغم في أَرجاء منزله،أَدرك شيئا واحدا،إِنِّ الحياة تبدو في أَجمل لحظاتها مجرد هباء نُثَر منذ أَمدٍ طويل،و إِنِّ الكون في عظمته ليس سوى انشغال في المجهول،فلا يسع المرء أَنْ يعرف العجب،و لا يسعه أَنْ يقول إِنِّ الحياة بهيجة.و لا زال الصوت القادم من الباب مستمرا،و لا زال جورج الغائب بجوٍ من الانحدار نحو الحافة مستمرا أَيضا،لكن فجأة جاء صوت عال جدا من الباب،جعلت جورج يهرع نحوها بسرعة،و بحالة يرثى لها،و بانغماس لا يمكن وصفه حتى بسوء درجات الظلامية القاتلة.
حرك جورج يده ليفتح الباب،فحس في داخله بان هناك ما يصعب عليه فعله،وخزه شيء في داخله مرة بعد مرة ليُطوِّق عذابات حركة يده كأمرِّ عذاب،و ما هي لحظات حتى وَجَد أَنَّ من يطرق رأسه و يحدث ضجيج حركته،هو ساعي البريد.ماذا يريد هذا الأحمق يا ترى،ما يوده من رجلٍ عافَه الدهر منذ أَزمنة الرسائل من الأصدقاء في المراهقة،ما يريده،إِنني لم افعل شيء،لم أَكن أُريد فعل أَيِّ شيء،لأَي شخص،إِنني أَعيش في وهمي و في نزاعاتي المتجذرة في كل شيء فيَّ،هل كنتُ قائدا لفرق الجيش،أَم كنتُ وزيرا في حكومات الخرائب سابقا،كلا لم أَكن،فعلى الأَقل إِنني لا أَتذكر هذا.
هذا ما دار في خاطر جورج،قبل أَنْ يقول له ساعي البريد: هذه الرسالة يا سيدي من السيدة....قال جورج مقاطعا: نعم شكرا.

ما هذا يا الهي, رسالة الحنين التي كنت فقط قبل أَيام أُريدها بشدة،أَمَّا الآن فأَنا لا أُريد حتى إلقاء نظرة عليها،فبؤسي و شجوني و ما أعانيه قد جعلا من كل شيء يبدو غاية السوء،غاية الرداءة.فيا أَيتها الرسائل المتأخرة أَنتِ مجرد بصيص أَمل زائف من اجل الوصول إِلى اللاشيء الأَشد زيفا صحيح انني أَردتك منذ زمن طويل،اردت أَنْ تكوني بالقرب مني قبل ايام عديدة،يا ليتك جئت فقط،قبل ان أهيم في صحاري الهوان في واحات الانهمار و الشفقة المُرذِلة. اناديك مرة اخرى يا ايتها الرسالة قبل قراءتك،قبل اي شيء،انني يائس مما فيك،و لست مهتم بما ستعطيه لي،لا أُريد من أَيِّ كائن ان يكون لي أَيِّ شيء على الإِطلاق.هكذا خاطب جورج رسالته المنتظرة،لكن رغم كل شيء،بدت السماء حينها ملبدة بالغيوم السوداء،،و بالوحدة و السأم ايضا.فجورج بعد ان اخذ رسالته و خاطبها،لم يعد ليهتم بالوجود،و مساعي إنقاذ نفسه،فأزمته قد بدأت،و هاهو يصارعها وحيدا بلا ظله،وحيدا بلا جمال روحه،ينازعها البقاء بلا سلاح حبه،و لا انفاس عشقه،بدون خرائط صوته الشجي،و لا افكار ذكية من باطنه الغامض،كل شيء كل شيء كان بلا معنى،و يكاد يطغى على اي شيء, شكل الموت و النهايات المهزومة.فما فائدة كل الرسائل المتأخرة التي علَّقْنا عليها آمالنا،حين تأتي في أوقات دخلنا فيها الى الصراع و المنازعة،ستصبح حينئذ مثيرة للسخرية و لا تبعد ان تكون في انكماش مشاعري غير قابل للرجوع الى ما كان،انكماش بارد يُعيث فيه صدى البرودة و اللامبالاة.

زال جورج بكل نغمات النهاية المُفجعة،يهمهم قبل ان يقرأَ الرسالة،قبل ان يكون فريستها القادمة و يقول:يا ايها الحبيب،اعرف إَّن الرسالة منك قبل انْ اقرا من المرسِل،قبل ان اشد اليك رحال عقلي،اريد إفهام اجزائي بما أشعره اتجاه الامل الذي كنت أُنهِك نفسي و أُوهِمُها فيه.

يا اجزائي،استمعي الي:إن الحبيب الذي انجذبت اليه كل أوصالي،و تعلقت فيه كل افكاري،اصبح الآن شبحا لا يساوي اي شيء.فلن أعاتبه عتاب الاحبة،و لن ابكيه بكاء الأُخوّة،لا و لن أكلمه كلام الأصدقاء المحبين.فيا ايها حبيب لقد اصبحت عندي ضياع قديم،ساضعك الان في رفوف النسيان،و لِأحير بما انا فيه، فقد انتهى ما إبتدأناه منذ ايام الصراع،منذ دخولي الى دوامة الكارثة.

هكذا و بعد فترة من النقاش الداخلي،بدأ جورج متضايقا من كونه يفكر في الحبيب،متوانيا في قراءة رسالته،لماذا يقرأها من الأساس،فلا امل في امل زائف،و لا وهم اكثر إيهام للنفس من ان يعتقد المرء انه قادر على اصلاح الماضي بتفكيره فيه.لكن و بمنظره هذا،منظر الفقر المدقع،و الفضاعة المهينة،يحتقر جورج نفسه لانه يريد قراءة الرسالة.تلك الرسالة التي اهتز اليها قلبه قبل ايام فقط،و اكتظت بأملها عواطف النجاح في تعدي المصاعب.لكن جورج و في لوحة من الدخان المريع،و بين السكائر و الفودكا و كتب الأدب الشكسبيري القديم،و الألماني العتيق،اشتدت فيه الرغبة لقراءة هذا السحر البشع لرسالة الحبيب رغم اليأس مما فيها،و بعد دندنة مفاجأة لاحدى سمفونيات باخ،اخذ الرسالة على حين غرة و عرف كما كان متوقعا ان المُرسِل هو الحبيب،فتح الظرف،و يداه ترتعشان و الوجه بدأَ في الاصفرار،و القلب ينبض بشدة بشدة،و عقله متلهف لقراءة ماذا يكمن في الرسالة من سطور الحبيب الناعمة.فتح الرسالة بهدوء،و كان فيها:


"اعتذر ايــها الحبيب انني امر بظروف صعبة ايضا،و أأسف على جعلك وحيدا"


جورج حين قرأَ الرسالة أُصيب بنوبة من الغضب الشديد،فمزق الرسالة و حرقها في المدفأة.و عرف ان قَدْرُه قد أُهين،و انه كما قال له صوته المجنون: عليه ان يقاسي الحياة بكل ما فيها وحيدا فريدا،بلا النجوم المضيئة،و الشمس الجميلة،و لا القمر اللطيف،عليه ان يوقد شمعته،فهي وحدها من ستساعده،و ان يشق طريقه بلا مساعدة من احد،و بلا رأفة او رحمة،و بلا ذلك الامتهان و الذل.فضوء الشمعة يساعدك في ايجاد دربك،حتى لو لم يكن الشمس و القمر يساعداك في ذلك.


بعد هذا قاسى جورج مرارة الألم مرة اخرى،و ظل يعاني من تلك الأشواك التي وخزت جسمه وخزا أليماََ جدا.هذا الوخز ظل ينتابه أطراف الليل و اثناء النهار،و بقي في سلاسل من الصراع الدامي مع نفسه،دون ان يستسلم.و ظل على هذا الامر شهورا متواصلة،ينازع و يحارب،بكل شجاعة مضنية و جلادة حزينة،بيأس رهيب،و بانفجار نفسي لا يُطاق.كل هذه الأشهر،لم يخرج جورج من منزله الا لمهام رتيبة و تافهة.و بقي البيت هو الدفئ الذي لا يطيق غيره،و لا يجد سواه مهجرا كونيا من قسوة الوضع،و صعوبة الحال.


و بقي يقول في نفسه:إن القوة التي انهكت كل قواي،لهي جديرة بأَنْ اجعلها قوة تُضاف الي.و لهي جديرة بان اجعلها منبع حياتي الجديدة،و صيرورة عالمي النفسي المغلق.فالرهبة التي كنت أعانيها و الحزن الذي انتابني،كان اشبه بحرب عالمية مع نفسي،و كل شيء اخر غيرها.و ليكن فما علي سوى ان اكون ما تريده نفسي ضد العالم،و ضد كل شيء،لارى ما نهاية ما تريده هذه النفس،هل ستنجح في الانقضاض على الحياة،أَم إِن الحياة بشراستها الغامضة ستعيد مجرى اللعب لها،لأعود مرة اخرى كما كنت في ريع الشباب.و في كل الاحوال لن اكون ما اريده،بل ما يريده كل شيء سوى أناي يا لخيبة الحظ،و يا لتعاسة كل الاشياء.


مرت الشهور بعد الشهور،و تَعَّود جورج على كل ما يعانيه كل يوم.فنوبات البكاء و تذكر الماضي و ندم الوجود،و الخضوع للسلطة و الحزن الكئيب و الوحدة المملة،و الكتب المبعثرة في ارجاء المنزل الكوني و الأوراق المحطمة بالسواد.و ادمان السكائر و الفودكا،و حروب الإرادة المستمرة،و الزعزعة النفسية في حقيقة الاشياء،كل هذا اصبح بالنسبة لجورج اعتياديا جدا،و رغم كل هذه الفضائع الحقيرة و السافلة،فانه لم يكسر قلبه و لم يجرح عواطفه سوى ذلك الامل القوي الذي اعتقده يوما في احدهم.و كلما تذكر جورج هذا الحدث اصابه شيء من الشعور الغريب المُدرَك شاعرياََ او نمط من المشاعر المكبوتة في قبر من الضياع و اللامعرفة.انه من القاتل ان نشعر بالمآسي و نحن في اكثر أوقاتنا حزنا،و ان نشعر باللامبالاة و نحن في اشد حالات اللاإهتمام.حقا ان ما نواجهه في الحياة يُحتِّم علينا الشعور بأيِّ شيء لم نتوقع يوماََ أَن نشعر فيه،خصوصا الوحدة و البرود.لكن لا بأس،فالوحدة تجعلك اذكى و اكثر صلابة و البرود يجعلك اقسى و اكثر جلدا في مواجهة ظروف البقاء.

و في يوم ممطر و ضبابي.قرر جورج و بلهفة شديدة أن يخرج للمشي.هذا شعور غريب،لكنه رغم كل هذا اعتيادي.و لعل مرد هذا القرار،الى نفس جورج الضبابية و الممطرة.فالضباب وقت المطر،يصبح العالم اكثر أُلفة و جمالا،و يصير الحي الذي يسكنه جورج بلا مارة،بلا اية ضوضاء مزعجة.هكذا لبس جورج ملابسه الشتوية العتيقة،و مضى الى حذاءه المرمي في احد جوانب المنزل،و لبس قفازاته القوقازية القديمة،و لفافه الغريب،ليخرج من كَونه الابدي،لأول مرة منذ شهور،ليخرج معلنا روح جديدة نحو عالم جديد،بفكر جديد و عواطف غريبة.اكمل جورج تجهيز نفسه،و تقدم نحو الباب ببطئ و حذر،تقدم تقدم،و هاهو يلمس مقبض الباب،وكآنه يريد ان يقبض على احدهم،يُدوِّر المقبض و يُدوِّره،و هاهو الباب بدأ ينفتح ،و بدأت رياح العالم الخارجي،عالم اللاشيء،عالم الضوضاء و الضجة المقرفة،عالم الكذب و القذارة،بدات رياح هذا العالم تلامس وجه جورج و تلفحه من نسماتها الوديعة الخادعة ،لكنه قرر و بلحظة متلهفة االعودة بسرعة الى دفئه الأخَّاذ و روحه المقدسة،الا أَنَّ رغبته في الخروج الى هذا العالم بهذه الروح الجديدة دفعته الى مواصلة مغادرته منزله الرائع و المقدس.


هاهو جورج يكاد يخرج من منزله،و هاهو يسمع صوت المطر الذي يحبه،و يشم رائحة التراب البهيجة،هذا يشعره بانه يجب ان يواصل و يواصل السير الى الخارج،و بالفعل اغلق بابه،و تلقف فكره من الضياع،و بدأ يتمشى و يفكر ،يتمشى و يهمهم،يتمشى و يتخيل،و يقول:


روعة العالم دنستها روح البداية الساذجة للبشر،و تأثيرها الجديد.العالم اكثر رونقا لولا وجود البشر,فهاهي جزيئات التراب و هاهي حبات المطر،تصدر رائحة لا توصف،رائحة من العظمة الكونية للطبيعة،هي كذلك لانها بعيدة عن دناءة البشر و حقارة افكارهم و فراغ عقولهم،و ستبقى كذلك الى الأبد،لانها جاءت و ستبقى كذلك من مصنع الطبيعة الذي لم يُدنَّس و لن يدنَّس.و يا ليتني اعيش مع هذه الحبات،مع هذه الجزيئات،مع هذه الرائحة،ليتني ما كنت بشرا،ما كنت اي شيء له علاقة بالبشر.


و اثناء تفكير جورج هذا،يقاطعه صوت اخر،و يقول:


دعنا من كل هذا،لا تفسد اي شيء بعقلك البشري،فقط انظر و تعلم،لا تفسد ارجوك،انك تجعل الامور فاسدة بما تمتلكه من عقل.كن مثل الطبيعة،و تماهى معها،فثقل الحياة اصعب من ان تواجهه كبشر،لكن ان تواجهه كطبيعة هذا يجعلك محملا بأعباء اقل.الآن انظر الى هذا الضباب و المطر،و اترك كل ما يخص البشر،اترك الموت فان له موعد،و اترك المشاعر فهي خليط من المزيج المجهول المعتم،دعم من كل هذا،و تخيل متصورا كل هذه العظمة في الشجر و السماء و الجاذبية و الدودة،انها اعظم من ان تجعلها فاسدة بمجرد ان تتغلغل في مشاعرك العقلية المغلقة.ركز الآن يا جورج على هذا العالم الطبيعي!


فجأةََ أَحسَّ جورج إن هناك يد تربت على كتفه،اثناء ما كان يتمشى و يفكر،و قبل ان يلتفت قال في نفسه هائجا:يا للهول مَنْ يربت على كتفي و انا الوحيد في الحي امشي،اللعنة هل شاهدني احد،لا يعقل فالضباب شديد جدا،و الرؤية من خلاله غير ممكنة،كيف رآني احدهم،اللعنة مررارا و تكرارا على خروجي.


استدار جورج ليرى من يربت على كتفه،و يا لشدة الموقف،انها حبيبته التي وثق بأمله الزائف في وقوفها معه في محنته المضنية،و في علله القاتمة،امله الذي تامل فيه طويلا لنجدته و ليكون سنده الاول و الاخير في مواجهة كل شيء،لكن لا شيء يبقى كما كان،الحياة تتغير باستمرار و لا تنتظر احدا،فالقوة تصبح ضعفا،و الضعف يصبح قوة،و لا تعرف كيف يصبح هذا ذاك،و لا تدرك كيف يصير ذاك الى هذا،مثل هذه الظواهر في الحياة تبدو غريبة لكنها ممكنة و غير جميلة.


لم يعرف جورج كيف يتصرف في هذه اللحظات الخانقة،انها ضعف نفسي داهم.و ما إنْ لمست الحبيبة يديه حتى خارت قواه،و ضعف صدى فكره،و انكفأ كل شيء على نفسه،ماذا حدث يا ترى،اين كل تلك الأصوات ،اين الشكوك اين الحزن،و الكآبة،اين كل الآلام و المرارة،ماذا هل كل شيء اختفى بلمسة يد،و يا للهول هذا يبدو مزعجا و مُغاليا في الوصف.


بدأ جورج هنا أسيرا لا يدرك،و طفل لايفهم.يا لشدة الموقف.


و في هذه الغضون،مسكت الحبيبة يدي جورج بقوة،و طلبت منه اثناء المطر و الضباب ان يجلسا للحديث في احدى الأماكن.فوافق جورج فورا،و تمشيا سويا الى مكان يعرفانه.


هذا المكان كان اشبه بعالم اخر غير عالمنا،انه جزء منه،لكنه مختلف عنه تماما.فصورة الضباب الحزين،و المطر المنهمر في الارجاء،تكاد تشكل كل ملامح هذا الجزء من العالم،و خضرة المحيط تعطي جمالا اضافيا الى صورة هذا العالم الاخر المختلف و المخالف بما فيه لكل جماليات عالمنا المألوف.فأُلفة الاشياء يجعل من مضمونها ساذجا،و التعود على السذاجة يخلق الفراغ الذي يشيع الملل.


جلس جورج و الحبيبة في هذا المكان الضبابي،و تحدثا في أمور كثيرة،و كان جورج غائب الفكر و حائر الحديث،لكنه كان دبلوماسيا و لم ياتي الى الآن الحديث عن تلك اللحظة،التي غاب عنها الجمال و الايمان،تلك اللحظة التي لا زالت تؤرق جورج و تثير حفيظته ومكامنه.


بعد دقائق معدودة من الدبلوماسية الفجة،و الانصياع الأخرق،عاد ذلك الصوت الى جورج،ليعلن الحديث عن لحظة الفراق الدامي.


فقال جورج لحبيبته بوجه ملأته الشكوك،و تجاعيد رسمتها صعوبة الحياة فيه،و بجلوس تغيرت ماهيته و شكله،فكان جورج قبل هذه اللحظات،يجلس بضعف و رقة،لكن الآن،بدت عليه تلك العلامات من العتاب و اليأس و الصلابة القاسية.نعم لقد قال لها: سعيد لحديثنا هذا،و سعيد لرؤيتك،لكن لماذا تركتني لعذابات المريرة،و أصوات حزني السفاحة،لماذا لم تجيبي،حيث كنت في أَمَسِّ الحاجة اليك،كنت في أّمَسِّ الحاجة لاحدهم ،فقط لكي اشكو له حزني،و أبث له ما امر فيه،اردت فقط احدهم ليسمع ندائي و يواسيني, اردت احدهم ليضمني الى صدره و يعانقني بقوة، و يقول لي: لا باس يا جورج كل شيء بخير فانا معك.هذا كل ما اردت.ففي الحقيقة انني لا احتاج للمال،ولا للشهرة،و لا للسلطة،كل ما اردته شخص قريب يجعلني اشعر انني و إياه في خليط واحد،و في عقل واحد.اردت فقط ان نكون نحن واحد.هذا كل ما اردته منك،و انتِ ماذا, تركتي كل ذلك الحب،و العشق،و الأحاديث المليئة بالوعود و المحبة،او لاقل تلك الأحاديث المليئة بالكذب و الهراء،و ذهبتي دون زيارة و دون رسالة،تركتني أعاني و احزن،بلا رحمة او رأفة،و الآن بعد كل هذا الحديث الطويل و الشاق ،ارجو ان تقولي ماذا تريدين مني؟


أجابت و بوجه انقلب الى وجه عجوز في الثمانين و بملامح اصبحت كانه ثكلى يوم الرحيل:لقد جئتُ لإَعتذر و حسب.فرد جورج مقاطعا و بنبرة الانزعاج و الضياع،و الصلابة،و الحزن ايضا :اعتذارك مقبول لكن ما اريد قوله لك إنَّ مَنْ لا يقف معك في اشد الاحوال صعوبة على الاطلاق و هو اقرب الاشخاص اليك طرا فلا يجب ان ننتظر منه ان يقاسمنا المحبة الحقيقية في اشد اللحظات غبطة و فرحا.اعرف إنَّك كنت تَمُرين بظروف صعبة،لكنني اعرف ان الرسالة ليست صعبة ايضا،انها ليست سوى تحريك القلم العظيم بأصابعك على ورقة بيضاء طاهرة،لم يكن صعبا ان تكتبي رسالة.نعم لقد كان هذا صعبا.كان اشد الأشياء صعوبة فعلا.


لم تستطيع الحبيبة كبت مشاعرها،فبدأت بدموعها تسيل من تلك المقل،فامتزجت مع قطرات المطر لتكون معا دمع الارض و حزن العالم.فقامت و بدا عليها ان الامر قد انتهى بالفعل،لكن جورج ظل جالسا،فابتعدت عن المكان،و اختفى ظلها خلف الضباب،خلف ذلك الجو الممطر المخيب للآمال.


و بدأ المطر بالانهيار اكثر،و ظل الضباب في الاشتداد،و بقي جورج جالسا في مكانه دون حراك.فبقي يتأمل هذا المكان،الذي و لربما اخر مكان يمكن ان يتواجد فيه والى الأبد.فتأمل صورة المكان،المؤطرة بالضبابية الحزينة،و المتضمنة طبيعة بلا هدف،و إنسانا بلا معنى و افكار بلا فعل.و قال جورج بنبرة اليأس الجامحة يا للهول،مالذي اقترفته،مالذي جرى.فبدأ بالبكاء هو الاخر،في لحظات من الضغط و الخيال الملعون.


فقال له صوت لم يسبق له ان سمع مثله و كأَنه نداء الى المعلوم الناتج في كل مرحلة:لا يستطيع المرء ان يكون بلا أحبة مهما كانت درجة قسوته و صلابته،الجميع على هذه الارض يجب ان يكون لهم احباب دائما،و ان يبذلوا في سبيلهم كل شيء،و ان يحتملوا من اجلهم اي شيء،فإملأ قلبك بالحب و العطف ، في حياتك،و إلّا فلن تجدها إلَّا في لحظاتك الأخيرة....تلك اللحظات التي تمر بها الآن يا جورج.....



#كمال_انمار_احمد (هاشتاغ)       Kamal_Anmar_Ahmed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ( تطور إِنفعال الحزن البشري و آثاره في التعبير الوجداني )
- مضامين ضد المألوف2 ( في بيان التأثير الآيدولوجي المعاصر في ا ...
- ( في افكار علي الوردي )
- مضامين ضد المألوف 1 (في استكشاف العلم الافتراضي و نقد السياس ...
- ازمتان فوق صقيع العراق
- التغييرات الاجتماعية و تأثيرها على الفرد
- ( تأملات في وجودنا)
- ( تأملات في كوننا اللطيف )
- ديمومة الاشياء كنظرة على المصير
- (( الواقع الاجتماعي بين الحقيقة و الوهم : قراءة في احوال الم ...
- ( كتابات في العشق)
- (في التفكير المثالي و الحزن)
- (أورهان باموق:الأديب المختلف)
- ( لمحة في كتاب ايقظ العملاق الذي في داخلك)
- ( خواطر نقدية في السياسة )
- ( البداية الغريبة : حكاية قصيرة عن تطور جنسنا مع الطبيعة )
- ( قراءة في أسلافنا و مبدعينا)
- ( الاخلاق بين الطبيعة والمجتمع والدين )
- (العاقل و التفكير:بين العقبات و الظروف )
- (عن أسس القيم الاخلاقية: التعليم و التثقيف و التحكم الذاتي)


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال انمار احمد - (( في ذلك الضباب الحزين...قصة قصيرة ))