|
** الحقيبة البودابستية على الرصيف رقم 7
مصطفى محمد غريب
شاعر وكاتب
(Moustafa M. Gharib)
الحوار المتمدن-العدد: 1576 - 2006 / 6 / 9 - 11:56
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة لم أكن قد أدركتُ أمري حينما قدم القطار السريع في الساعة الثانية بعد منتصف الليل والمتوجه الى بلاد المجريين وعاصمتهم بودابست بالذات، كان الجو مثلجاً والمحطة الشرقية المكشوفة لا تصد الرياح التي كانت تتسلل من جوانب سقفها الواسع وتدفع بكتل الثلج بقوة نحو الجدران الملاصقة للأرصفة والوجوه المنتظرة بقلق مجيء القطار الذي تأخر أربعة ساعات عن موعده بسبب العاصفة الثلجية. توقف القطار على الرصيف رقم 7 المتوسط بين أرصفة عديدة مملوءة بأجساد القطارات المنتظرة ساعة نزوحها إلى الجهات المرسومة لها. كنت في مثل هذه اللحظات أكثر يقظة وتحفزاً وحتى ذئبية أحياناً لكي اصل إلى الباب كأول الداخلين من فوهته إلى دهليزه الطويل وغرفة المستقلة ومقاعدها الجلدية، في تلك اللحظة ولأول مرة في حياتي انشغلت بامرأة شقراء طويلة لها فخذين كإطارين لسيارة كبيرة ترتدي معطفاً من الفرو السميك كانت تعلك اللبان بطريقة مستهترة وتبصق اللعاب بين فترة وأخرى وكذلك بالثلج الذي راح يهبط سريعاً وبخفة ريش الطيور البيضاء ، يهبط من فتحات وسقف المحطة الشرقية فتكشفه المصابيح المتدلية كخيوطٍ فضية ضوئية تتغامز للقاء على الرصيف الإسفلتي البارد وسطوح القطارات المنتشرة أو يتناثر بسرعة غير متوقعة على الوجوه الحائرة والعيون القلقة المتوثبة والمتقلبة بين القطار والساعة الزمنية الكبيرة الملاصقة للباب الرئيسي.. البرد القارص شـل أعضاء جسدي ولاسيما أطراف أصابع أقدامي فقد كان زميلاً ثقيلاً سمجاً لهذه المخلوقات الآلية ينخر عظامها بصمت مخيف، بردٌ يُشعر المرء وكأنه فقاعة في ضباب سرمدي ليس له بداية ولا نهاية، بردٌ في القلب قبل المفاصل والعظام والعضلات، بردٌ له لسان سيفي حاد يغوص في النفس البشرية ليشل الحواس والتفكير معاً.. أخيراً التفتُ إلى ناحية أبواب القطار وشخصتُ الباب الذي حددته وحددت حركاتي للولوج منه لبطن القاطرة فأسرعت لكنني ألفيته مشبعاً بالمعاطف السميكة وفي مقدمتهم معطف المرأة الشقراء والقبعات الملونة وروائح الأجساد المتدافعة المختلفة عندها أحسست بخطورة الوضع وأنني لم أكن كما في المرات السابقة كالفهد الصياد متيقظاً ومتحفزاً وسريعاً بما فيه الكفاية فكرت بسرعة "ــ أن الموقف خطير! وعليّ أن أحزم أمري بسرعة وإلا ضعت كما تضيع القملة في حقل كبير، فإن تأخرت سأكون عرضاً للمسألةِ وأسئلة شتى ربمالا تنحصر في الموقف المذكور، وربما يلقى بي وفي لمحة من البصر خارج حدود المدينة بانتهاء سمة الدخول فأضيع إضافة لضياعي في برلين الغربية التي لا أعرف أحداً فيها" قفزتُ في حركة لولبية مندفعاً ولاعناً الدنيا وأنا احمل حقيبة صفراء اشتريتها من بودابست عندما قدمت منها بحلم أخضر ربيعي للبقاء بعيداً عن عذاب الذئاب في الوطن.. كانت الحقيبة تعالج معي فتحات الأفخاذ المزدحمة وتتدافع بقوة على الباب وبصعوبة بالغة شققنا طريقناً بالتخلص من بعض الأجساد وعلى حافة الدرجة الثانية من سلم عربة القطار واجهت فخذ المرأة الشقراء التي لها اليتين مكورتين مرتفعتين تسحبها بدلال وغنج وتدفع بهما أفخاذ الرجال، كانت المرأة تعلك اللبان وتضحك وهي تغلق فتحة الباب بجسدها الذي ينزّ رائحة عطر غريبة مخلوطة بعرق عفن ورائحة الثوم الممتزج برائح كحولية حادة، أحسست أنني سأموت اختناقاً، حاولت وبكل ما استطعت من قوة دفع جسدها إلى داخل العربة وبينما أخذت محاولاتي تؤدي مفعولها سمعت صافرة رنت غير بعيدة منا أعقبتها كلمات سريعة متقطعة " بس أوف.. بس أوف ** " ثم صوت القطار الذي بدأ يصرخ محتجاً على التأخير شعرت بعجز المرأة قد ملأ حظني ورداءة عطر رخيص ورائحتها تشق رئتي، أزحت عجزها بيدي وابتعدت عنها.. وخلال ثواني وبقوة ألف حصان أصبحنا جميعاً داخل العربة ، عظم على عظم ولحم على لحم، وعندها أغلق الباب آلياً وتحركت عجلات القطار حاولت الدخول إلى العمق ولكن بهدوء وبحركات ملتوية ابتعدت أكثر عن رائحة المرأة وعجزها المكور البارز، تنفست الصعد وأنا ارتب هندامي لكنني فجأة فطنت على أن الحقيبة ليست معي تذكرت الصراع على الباب وقد تكون قد بقت في يد احدهم على الرصيف رقم 7 حاولت التطلع لكنني لم استطع رؤيتها لأن المكان كان قد أغلق وجسد المرأة قد حال دوني ودون الشباك فاستسلمت للأمر يائساً حزيناً وفقدت الصلة بالمحيط الذي كنت فيه، غارق في وسوسة الغريب الضائع الذي يبحث عن جُحر يستقر فيه ولكن هيهات.. غريب غربتين، حافي العواطف والقلب. كان القطار يعوي كذئب جائع متوجهاً إلى براغ وبعدها إلى بودابست في رحلة النزيف الثانية، يعوي بصوت يدل على شهيته للعودة، عواءٌ جرح مقلتي وخلق مفازات عويصة عندي فشب هسيس في داخلي من الخوف واليأس والقلق.. ربما كانت الحقيبة البودابستية في يد احدهم ينبشها نبشاً لكنه بالتأكيد سيصاب بخيبة أمل وقد يشتمني بكلمات سوقية عارية، حيث لم تكن فيها سوى ملابسي الداخلية القديمة التي اشتريتها من العراق وكتاب يحمل البعض من أشعار الشاعر التركي ناظم حكمت وكراس صغير للشاعر العراقي بدر شاكر السياب وأوراقي المخطوطة بخطوط لن يفهما غيري. ** بس أوف : تعني بالألمانية انتبه أو احذر 1999 ** من مجموعة قصصية معدة للطبع
#مصطفى_محمد_غريب (هاشتاغ)
Moustafa_M._Gharib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظلاميون -مودرن- وغير معممين أطباع ضباع وأنياب أفاعي سامة
-
المطالبة بحل الشرطة والجيش لتوسيع عمليات قتل النساء وقطع الر
...
-
النصب التذكارية لشهداء الشعب العراقي شهداء الحركة الوطنية ال
...
-
موقف أكثرية الدول العربية من الأوضاع في العراق
-
البرنامج الحكومي بعد المارثون الطويل ما بين التمويه والتطبيق
...
-
فضيحة الملايين من الدولارات ومفوضية الإنتخابات
-
بعد خراب البصرة الجزئي.. ألم تخرب البصرة كلها بعد؟
-
طمس الحقائق ومحاولات تشويه وعي الناس
-
فايروسات الحاسوب وفايروسات الفساد المالي والاداري
-
شجون العزاء شجون الأيائل
-
ايار رمز للتضامن ولنضال الطبقة العاملة العراقية الوطني والطب
...
-
جريمة اغتيال وخطف النساء كرهائن بديلاً
-
المحاصصة الحزبية والطائفية لن تخدم التوجه لبناء العراق الديم
...
-
المسؤولون عن ضحايا الفراغ السياسي في العراق
-
المقاطعة اضرت مصالح العراق والشعب العراقي
-
ثمة دهليز في الزمن الكرّ
-
البرلمان العراقي كسلطة تشريعية هو المكان الحقيقي لتخاذ القرا
...
-
المحنة تتلوها المحنة والأبغض محنة الاحتقان السياسي على الكرا
...
-
وبعد.. الى اي مصيبة اكثر من هذه المصيبة
-
الموقف من الاقاليم ورفع جلسة البرلمان الجديد
المزيد.....
-
أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|