في 27 تشرين الأول/نوفمبر عام 2002 أعلنت الحكومة الكولومبية المدعومة علناً من واشنطن، الشروع في مباحثات مع شبه العسكريين من "قوات الدفاع الذاتي الموحدة في كولومبيا”. وفي الأول من كانون الأول/ديسمبر بدأ فعلاً تطبيق وقف اطلاق النار مع هذه المنظمة المرتبطة بتجارة المخدرات والمتورطة الى حد بعيد في انتهاك حقوق الانسان، فيما المفاوضات مع المعارضة المسلحة لم تحقق قط أي تقدم. وما همّ، فالعلاقات بين الدولة وشبه العسكريين على أفضل ما يرام.
هرناندو كالفو أوسبينا
HERNANDO CALVO OSPINA
في سعيها الى إفشال منظمات المعارضة التي تقف في وجهها منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين عاماً، طالما كانت الدولة الكولومبية تعتمد خطة واحدة تقوم على إزاحة أو تهميش النسيج الاجتماعي الذي يدعمها بشكل فعلي أو احتمالي أو مشبوه. و"الحرب القذرة" التي تخوضها، وهي من نوع إرهاب الدولة بكل معنى الكلمة، ترتكز على دعامتين أساسيتين تتمثلان في "العمليات الخفية أو السرية على يد القوات العسكرية وعلى إنشاء قوات شبه عسكرية تشكل العصب الأساسي في الثورة المضادة التي تقودها الدولة وبنوع خاص بواسطة جيشها” [2] .
وسواء في داخل البلاد أم في خارجها، قامت بعض وسائل الاعلام وبعض المثقفين البارزين بترويج خطاب المؤسسة الحاكمة مكررين أن الحركة شبه العسكرية تشكل "الطرف الثالث" في الصراع، يشبّهونها بالـ"الكترون الشارد" الذي لا يمكن السيطرة عليه حتى من جانب الدولة المنهكة والعاجزة، ضحية "أصحاب العنف"، مثلها مثل الشعب. كما كان خطاب الدولة يؤكد أن هذه الحركة هي وليدة العلاقة بين تجار المخدرات والعناصر العسكرية المضللة وملاكي العقارات والفلاحين المنظمين لمواجهة تعسف الميليشيات، والمقصود بنوع خاص "القوات الكولومبية الثورية المسلحة” (FARC) و"جيش التحرير الوطني” (ELN).
لكن اليسوعي خافيير جيرالدو المشهور بمواقفه المدافعة عن حقوق الانسان ليس من هذا الرأي. ففي محاضرة له في شيكاغو ألقاها في 17 آذار/مارس عام 2001 صرح قائلاً: ”في المنظور التاريخي لا نستطيع تصنيف الحركة شبه العسكرية على أنها "قوة ثالثة" في النزاع. فهي ليست كذلك بل أنها الذراع السرية وغير الشرعية للدولة وهي موجودة منذ عشرات السنين. وعلى أساس هذا المنظور التاريخي لا يمكننا اعتبار الدولة الكولومبية "دولة قانون”.
فبعد انتصار الثورة الكوبية في العام 1959 أرست الولايات المتحدة سياسة الأمن القومي وشرعت القوى العسكرية في دورها كضامن للمؤسسات وأوكلت اليها مهمة أساسية، إن لم نقل وحيدة، هي محاربة "العدو الداخلي”. وهكذا وبالرغم من الخصوصيات القومية استند محور الأمن مذاك على مفهوم "خنق التمرد"، "فبات تدمير "العدو الداخلي" هو الغاية، لا بل الهدف الأسمى للدولة” [3] . وقد كتب وزير الحربية في مجلة القوات المسلحة في كولومبيا (العدد السادس (1961) ”إن العدو الرئيسي الذي يبرر أعمال القوى العسكرية موجود في الداخل، ويتميز ببعض الايديولوجيات المثيرة للقلق ذات الطابع الماركسي الغريبة جداً عن ثقافة الغرب وعن حضارته”. ومن بواكير الكتب التي تتناول موضوع "خنق التمرد" كتاب يحدد "العدو الداخلي" بسيطة وخطيرة في آنٍ واحد: ”كل فرد يؤيد، بشكل أو بآخر، نيات العدو يجب ان يعتبر خائناً ويعامل على هذا الأساس” [4] .
ومنذ العام 1962، دربت القوات الأميركية الخاصة، وعلى غرار ما فعلت في فييتنام، بعض الفرق في كولومبيا لمحاربة الميليشيات، وقامت بإعداد إختصاصيين في الحرب النفسية وطوعت بعض المدنيين لأعمال شبه عسكرية. وحين ظهرت، بعد ثلاث سنوات، طلائع المجموعات المتمردة، أصدرت الحكومة مرسوماً يهدف الى "تنظيم الدفاع الوطني” (المرسوم 5 3398/196)، وفيه فقرة تجيز لوزارة الحربية "تسليح مجموعات مدنية بمعدات مخصصة عادة للقوات المسلحة”. وهكذا باتت الحركة شبه العسكرية تتمتع بتغطية قانونية. وفي العام 1968 شرع المرسوم في البرلمان كقانون دائم (القانون 48 ) حتى العام 1989 حيث أعلنت المحكمة العليا أنه غير دستوري.
وفي العام 1969، امر قانون صادر عن الجيش "بتنظيم السكان المدنيين عسكرياً بغية دعم العمليات القتالية (...) تحت إشراف بعض الوحدات العسكرية [5] . وفي العام 1976 أكدت مجلة الجيش (العدد 83 ) انه "إذا شكلت حرب محددة وغير تقليدية مخاطر كبيرة فان التقنيات شبه العسكرية هي قوة موثوق بها ونافعة وضرورية لتحقيق الأهداف السياسية”. وتحت ستار تسميات وهمية مثل "التحالف الأميركي ضد الشيوعية" بدأت بعض المجموعات تهدد وتغتال وتخفي المعارضين وسائر منتقدي النظام. وفي ما بعد علم أن هذه المجموعات المنظمة من جانب الدوائر العليا كانت في الواقع تشكيلات خاصة من أجهزة الاستخبارات العسكرية.
في أوائل ثمانينات القرن الماضي توافقت القوات الكولومبية الثورية المسلحة مع حكومة السيد بيليساريو بيتانكور على التفاوض على حل للنزاع. وقد شاركت هذه القوات في إنشاء حزب سياسي هو "الاتحاد الوطني" الذي تقرر أن يأخذ مكانه في الحياة المؤسساتية والديموقراطية. وللحال تضاعفت "الحرب القذرة" على الزعماء الشعبيين والنقابيين والمزارعين. ولم يكن ذلك من باب الصدف، إذ "إن القيادة العسكرية العليا رأت في الجهود المبذولة لإيجاد حل بغير العنف أو سياسي للنزاع الداخلي خطوة الى الأمام تنجزها "الميليشيات الشيوعية" في اتجاه السلطة” [6] . وبحسب ما اتضح بشكل جلي من التحقيقات الرسمية فإن القيادة العسكرية العليا ورطت بعض الوجهاء من الحزبين الليبيرالي والمحافظ ومن الملاكين وزعماء المافيات في تطوير البنى الاجرامية في الأوساط شبه العسكرية. وهكذا انعقدت إحدى زيجات المصلحة الأكثر دموية في التاريخ السياسي الكولومبي الحديث. أضف الى ذلك أن الجيش أصدر "قانوناً آخر للقتال ضد الميليشيات” (EJC 3-10, Réservé, 1987) قسم بموجبه القوات المخربة معسكرين: "السكان المدنيين المتمردين والمجموعة المسلحة”، وفي النتيجة أن "السكان المدنيين هم أحد الأهداف الأساسية لوحدات الجيش”.
وإذا بحزب "الاتحاد الوطني" يشهد وحده اغتيال ثلاثة آلاف من المناضلين في صفوفه والمتعاطفين معه، ومن بينهم مرشحان للرئاسة (هما السيدان خايمي باردو ليال وبرناردو خاراميلو)، وتقريباً جميع من يمثلونه من حكام المقاطعات والقضاة والنواب. وقد تم رفع دعوى على الدولة الكولومبية، بسبب هذه "المذبحة السياسية" الى اللجنة الأميركية المشتركة لحقوق الانسان التابعة لمنظومة الدول الأميركية (OEA) .
وفي الاجمال، فإن إرهاب الدولة، وحتى اواسط التسعينات، كان قد صفّى، عبر استخدام "كتائب الموت" (وما هذه التسمية الا لاخفاء الوجه الحقيقي لشبه العسكريين) حوالى 25000 شخصية تقدمية ومن أعضاء اليسار. وغالبية الديكتاتوريات في القرن الجنوبي لم تبلغ هذا الحد. ومما يسير السخرية هو أنه فيما كان يتم سحق المعارضة الشرعية كانت حركات المعارضة المسلحة تعمل على تعزيز مواقعها حاملةً الرئيس سيزار غافيريا، الأمين العام الحالي لمنظومة الدول الأميركية، على وضع "استراتيجيا وطنية للقضاء على العنف" في العام 1991.
وفي تقريرها الصادر في العام 1996، بينت المنظمة الأميركية لحقوق الانسان "هيومن رايتس واتش" أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية والبنتاغون قد ساعدا في إعادة تنظيم "أجهزة مخابرات وصولاً الى إنشاء شبكات مراقبة لكشف المدنيين المشبوهين في مساعدتهم الميليشيات واغتيالهم” [7] . وفي العام 1994 شكلت حكومة السيد سيزار غافيريا (بموجب المرسوم 3567 الصادر في 11 شباط/فبراير) جمعيات أهلية للأمن الريفي حملت اسم "كونفيفير"، كان من المفترض بها مساعدة القوى الرسمية في استكشاف نشاطات المجموعات المتمردة بواسطة شبكة من المخبرين. وقد بينت الحقائق أن الـ"كونفيفير" قد ساعدت في تشريع شبكات القتلة المأجورين العاملين في خدمة تجار المخدرات والملاكين واضعةً نصب عينيها استخدام السكان المدنيين لستر عورة الحركة شبه العسكرية [8] .
وإزاء الضغوط الدولية عمدت حكومة السيد سامبير، في كانون الأول/ديسمبر عام 1997، الى تشكيل وحدة خاصة، تابعة لوزير الدفاع، مهمتها اعتقال أعضاء "منظمة "الدفاع الذاتي الموحد في كولومبيا” (AUC)، وهي تسمية جديدة للقوى شبه العسكرية. وبعد مضي عام "لم تتحقق أي نتائج البتة” [9] . ويروي اليسوعي خافيير جيرالدو "ليس أن قوات الملاحقة قد تعلمت وحسب كيف تصل الى اماكن الجرائم بعد وقوعها وبعد ان يصبح المجرمون في مأمن، بل أنها أيضاً راحت تتهم بعض اصحاب الجنح بأنهم من شبه العسكريين”.
في 7 كانون الثاني/يناير عام 1999، وافق الرئيس أندريس باسترانا على التفاوض مع القوات الكولومبية الثورية المسلحة، الميليشيا الأقوى عسكرياً، كما زعم أنه سيفعل ذلك عبر قنوات أخرى مع جيش التحرير الوطني. وبما ان هذا لم يحدث في زمن إدارة بيتانكور فقد تزايد العنف من جانب شبه العسكريين، وفيما بلغت الاعتداءات 168 حالة في العام 1999 منها ثلاث عمليات اغتيال، فقد بلغ عددها 236 في العام 2000 وارتفع عدد القتلى الى 1226 ضحية أي بزيادة 297 عن العام 1999.
ومع أن وسائل الاعلام لا تذكر ذلك الا بشكل غامض، فان ثمة "تفصيلاً" يبدو نافراً، فقد بينت الاحصاءات بما لا يقبل الجدل أن تراجع حالات انتهاك حقوق الانسان على يد العسكريين كان يترافق مع تزايد الجرائم المنسوبة الى "منظمة الدفاع الذاتي الكولومبية”. وقد جاء تفسير هذا الاستنتاج "الغريب" على يد "المدافع عن الشعب”: ”إن الأمر يتعلق بشكل جديد من أشكال القمع غير الشرعية والتي لا حدود لها والتي سمّاها بعض المحللين عن حق العنف بالتكليف".
وهناك "تفصيل" آخر هو بدوره لم يلفت الانتباه اللازم، يتمثل في قلة المواجهات بين الجيش والاشخاص الرئيسيين الذين يمارسون القتل على السكان المدنيين، أي شبه العسكريين الذين يتحملون على الأقل مسؤولية 70 في المئة من ضحايا النزاع. فعناصر "منظمة الدفاع الذاتي" يبلغون حوالى 11000 عنصر موزعين على جميع أراضي الوطن وخصوصاً في المناطق الاستراتيجية التي تستهدفها بعض المشاريع الاقتصادية الكبيرة. وبحسب رئيس القوى شبه العسكرية كارلوس كاستانيو فإن "ضغوط المجتمع الدولي يمكن أن تؤثر على القيادة العليا، لكن على الأرض لا أحد يستطيع أن يفرق بين أخوة توحدوا ضد العدو الواحد. فانا لا أخشى الجيش لأنه لا يستطيع أن يفعل بي شيئاً” [10] . وقد أكد تقرير لجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة، المقدم في العام 2001، أن "المكتب؟؟؟ كان شاهداً على تصريحات السلطات العسكرية التي تشير الى أن حركة شبه العسكريين لا تتعرض للنظام الدستوري وأنه بالنتيجة ليس على الجيش ان يقاتلها (...). وبالعكس فإن العسكريين يخوضون عمليات واسعة النطاق على الميليشيات مجندين لها موارد بشرية ولوجستية ضخمة (...). وبشكل عام فإن مهاجمة المجموعات شبه العسكرية ليست الا من باب المناوشات البسيطة او الاستدعاءات والتوقيفات الفردية والمتفرقة."
ويقر السيد كاستانيو، إضافة الى اعترافه بأنه استفاد من خدمات المدربين في الجيشين الاسرائيلي والكولومبي، بأنه على علاقة جيدة بكبار رجال الدين الكاثوليك وبقسم كبير من الزعماء السياسيين, وبضيف أن "الأميركيين قد سمحوا" بالتنظيم الاجرامي (وهم لم يعتبروهم الا مؤخراً من "الارهابيين" وذلك في 10 أيلول/سبتمبر عام 2001 ) كما انه يقر بدون أي تحفظ بأن منظمة الدفاع الذاتي الكولومبية تحظى بالتمويل عبر تجارة المخدرات، والأسوأ، بأنها تديرها [11] . ولا شيء في كل هذا يمنع من أن يكون السيد كاستانيو على علاقة "ودية" مع جهاز مكافحة تجارة المخدرات الأميركي DEA ومع وكالة المخابرات المركزية الأميركية، ومن ان يشارك مباشرة عبر علاقته بمجموعة الاستقصاء في الشرطة الكولومبية، وبمساعدة وكالة المخابرات المركزية وجهاز مكافحة تجارة المخدرات الأميركيين له هو نفسه، في ملاحقة سائر تجار المخدرات، كتلك الملاحقة التي انتهت بمقتل بابلو اسكوبار في العام 1993.
وهناك الكثير من الأدلة التي تؤكد ان محكمة الجزاء الدولية قد طلبت الى الحكومة الأميركية السماح لها بالاطلاع على ملفاتها السرية، من دون أن تتلقى أي جواب. فبفضل القضاء على الرؤوس البارزة في عالم المخدرات من أصحاب كارتل "ميديين" و"كالي"، أو سجنهم، ثم مستفيدين من الحيز المفتوح لهم عبر "الكونفيفير"، تمكن شبه العسكريين من السيطرة على انتاج الكوكايين وتصديره. ففي أيلول/سبتمبر من العام 1997، أبلغ المرصد الجيوسياسي للمخدرات في باريس أن غالبية الكوكايين الآتي الى المرافئ الاسبانية والبلجيكية والهولندية مصدره المناطق الساحلية الكولومبية التي تسيطر عليها منظمة الدفاع الذاتي الكولومبية. وبحسب شهادة احد السيناتورات قلما يتم التشديد على حقيقة ثابتة وهي أن رجال منظمة الدفاع الذاتي الكولومبية يشكلون "الكارتل الجديد المافيوزي والمسلح (...) والمصدرين الرئيسيين للكوكايين في العالم” [12] .
إن الهدف المعلن من خطة كولومبيا، التي تكتفي بقمع الميليشيات والمزارعين منتجي الكوكا، والمدعومة من واشنطن، هو القضاء على تجارة المخدرات. لكن هذه الخطة لم تقم بأي اجراء ضد القوات شبه العسكرية. وعلى عادتها فإن الحكومة الأميركية طالما اكتفت بالخطابات من دون أن تفرض أي شروط خاصة على نظيرتها الكولومبية [13] . وإزاء واقع الحال هذا صرح اليسوعي جيرالدو قائلاً: ”ان الاستراتيجيا العسكرية والقمعية الموضوعة في إطار الخطة، لمكافحة تجارة المخدرات هي كلياً من صنع الخيال. وهي ليست الا لتفضح تورط الولايات المتحدة عسكرياً في النزاع السياسي الكولومبي."
ففي استراتيجيا محاربة الحركات التمردية، تستمر القوات شبه العسكرية في لعب دور جوهري ضد "العدو الداخلي”. ففي أوائل العام 2001، وفي تحقيق شامل لصحيفة "بوسطن غلوب" أجري في بوتومايو (إحدى المناطق المعنية بخطة كولومبيا حيث يوجد حركة تمرد كبيرة)، لاحظ الصحافي كارل بيناهول أن حارساً من شبه العسكريين "كان يفتش في رزمة من حصص مقدمة من الجيش الأميركي عن علوك وباقي الحلويات. لم يكن الرجل يفهم سؤالاتنا عن مصادر هذه المؤن المرسلة الى ثلاث وحدات لمكافحة المخدرات في الجيش الكولومبي كان قد شكلها مستشارو القوات الخاصة الأميركية والمتمركزة قريباً جداً من مكان المقابلة”.
في آب/أغسطس عام 2002 وصل السيد ألفارو أوريبي فيليز الى الرئاسة بعدما انتخب بغالبية 53 في المئة من الأصوات (كان الامتناع عن التصويت بنسبة 52 في المئة). وهو من الملاكين وقد كان أهم العاملين على إنشاء الـ"كونفيفير" وخصوصاً في مقاطعة أنتيوكيا التي كان حاكماً لها. وعنه يقول رئيس منظمة الدفاع الذاتي: ”إنه الرجل الأقرب الى فلسفتنا [14] . وطالما أثارت وسائل الاعلام الوطنية والدولية موضوع علاقاته السابقة بكارتل ميديين وبالقوات شبه العسكرية.
من المستغرب أن أحداً لم يهتم لأمر هذه العلاقات، بل لقد امتدح القرار الذي اتخذه بالحرب الشاملة على المنظمات المتمردة. وبحسب ما كشف الباحث والمدافع عن حقوق الانسان دييغو بيريس غوزمان، فان هدف الرئيس هو "استعادة ثقة المستثمر الأجنبي، وما همّ الثمن الذي سيدفعه السكان المدنيون المسالمون. فهدفه المركزي من دون ان يعبر عن ذلك بطريقة فجة، هو تحويل الدولة والمجتمع الى قوة شبه عسكرية بشكل تام”. وفي إطار سياسة "الأمن الديموقراطي" التي أسس لها الرئيس أوريبي سيتم تجنيد مليون كولومبي كمخبرين (وفقاً لمبدأ "الكونفيفير”)، وهناك 25000 شخص من المزارعين والسكان الأصليين سيتلقون التدريب العسكري قبل أن تتم إعادتهم الى أوساط جماعاتهم ليتحولوا فيها "مزارعين ميليشيويين"، وهذا ما يذكر بدوريات الدفاع الذاتي المدني المشؤومة في غواتيمالا. كما انه تشكلت بعض الجبهات الأمنية المحلية في الأحياء والمراكز التجارية.
ومن جهة أخرى بات هناك مشروع تنسيق يربط سائقي الشاحنات والتاكسيات بموضوع أمن المدن والطرق، فيما وكالات الأمن الخاصة أجبرت على تقديم ما تملكه من معلومات وتقديم الخدمات التي تطلبها منها القوات المسلحة. ولم يعد في امكان أي مواطن أن يبقى على الحياد تحت طائلة اتهامه بالتعاون مع حركات العصيان. أما بعض مؤسسات الدولة التي لم تكن حتى وقت قريب قد تورطت في استراتيجيا مكافحة التمرد فقد جندت في "الحرب الشاملة" ومنها مؤسسات الادعاء العام. وقد طرد منها خمسة عشر موظفاً في سنة واحدة لأنهم كانوا يقومون بأبحاث حول الزعماء شبه العسكريين وأعضاء القيادة العسكرية العليا المتورطين في أعمال انتهاك حقوق الانسان الفادحة. ومن جهة أخرى أقيمت منطقتا إعادة تأهيل وتضامن بعدما خرجتا عن الخضوع للقوانين التي ينص عليها الدستور، وذلك في مقاطعات سوكري وبوليفار وأراوكا. وقد حلت فيها السلطة العسكرية المباشرة مكان الحكومة المحلية.
وفيما تبقى المفاوضات معطلة مع القوات الكولومبية الثورية المسلحة ومع جيش التحرير الوطني فتحت حكومة أوريبي ذراعيها للقوات شبه العسكرية. ففي بيان لها صدر في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي اعلنت هذه القوات: ”لا نستطيع أن نتجاهل الدعوة المتكررة الى الحوار والى المصالحة التي وجهتها الينا الحكومة الوطنية بأشكال متعددة”... وبمباركة من واشنطن، وبعد شهر من اللقاءات المسبقة بين المفوض الأعلى للسلام لويس كارلوس رستريبو وخمسة أساقفة والزعماء شبه العسكريين، أعلن عن بدء المفاوضات في 27 تشرين الثاني/نوفمبر وبدأ تطبيق وقف لاطلاق النار في الأول من كانون الأول/ديسمبر عام 2002. فحتى ثوار الكونترا في نيكاراغوا لم يعاملوا بهذا الاهتمام. ومذاك شكلت الحكومة "لجنة استطلاعية" وبكل بساطة بات وقف اطلاق النار محترماً الى درجة أن الجيش، الذي يتألف من خمسة ألوية لم يتواجه عملياً مع "اللواء السادس" كما تسمى عادة القوات شبه العسكرية [15] .
وفي الواقع، كانت هناك وجهة منطقية أدت الى اعطاء دور جديد لهذه الحركة. فكونهم متورطين في تجارة المخدرات ويتعرضون للكثير من الانتقادات الدولية والمعطيات الطارئة بعد 11 أيلول/سبتمبر والتي وجهت كلها الى "الارهاب"، بات وجود شبه العسكريين المفضوح يشكل أمراً سلبياً أكثر منه إيجابياً. وهكذا سيكون من شأن المفاوضات وقيام اتفاق (وعفو محتمل) أن يساعد في الحاقهم مجدداً بأجهزة الدولة الشرعية (كمخبرين ومزارعين ميليشيويين الخ) حيث يستمرون في لعب دورهم في الخفاء.
وفي هذا الوضع لا يمكن منح القوات شبه العسكرية موقعاً سياسياً، فبحسب المبادئ الدولية والدستور الكولومبي نفسه فان هذا الوضع لا يمنح الا الى قوى تناضل ضد دولة تقمع الشعب اجتماعياًُ واقتصادياً وسياسياً، وفي هذا الاطار يمكن وضع الميليشيات. والحال أن شبه العسكريين يعلنون أنهم يشكلون جزءاً لا يتجزأ من الاستراتيجيا القائمة ضد حركات التمرد وأنهم يناضلون (كـ "منظمة رديفة" كما يقول زعماؤهم) من اجل الدفاع عن مؤسسات الدولة.
وإن الدولة الكولومبية، عندما لا تعاقبهم على جرائمهم، تتخلى "عن واجبها في القيام بالتحقيقات وبالمعاقبة، بل انها ترسل إشارات كاذبة الى الذين يرتكبون الفظائع، وليس انها تعفو عنهم وحسب بل أنها تكسبهم الشرعية كطرف سياسي” [16] . وفي مطلق الأحوال فإن حكومة الرئيس أوريبي فبليز يتمسك بقراراته معتمداً على دعم القوات المسلحة وعلى المجموعات الاقتصادية النافذة وعلى وسائل الاعلام التي أعلنته "رجل العام 2002”.
لكنه قبل كل شيء يحظى بدعم إدارة السيد جورج دبليو بوش الذي سمح مؤخراً بأن تستخدم ضد الميليشيات مخصصات المعركة على المخدرات في إطار خطة كولومبيا، وهذا التحويل كان قائماً وقد تم بحكم الأمر الواقع خلافاً لأحكام الكونغرس الأميركي. ولقد وصل حوالى 70 عنصراً من القوات الأميركية الخاصة بالقرب من الحدود مع فنزويلا الى منطقة آراوكا أكبر منطقة نفطية في البلاد، وذلك من اجل تدريب كتيبة من الجيش.
ولدى زيارته لكولومبيا في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أعلن السيد كولن باول موجهاً كلامه الى الرئيس أوريبي فيليز: ”لقد طورتم استراتيجيا مهمة للقضاء على حالة الفوضى والارهاب". وفي الظاهر ان مسؤول وزارة الخارجية الأميركية يجهل أنه في هذه "الاستراتيجيا المهمة" كان للحركة شبه العسكرية، ولا يزال لها، موقع حاسم. وهو يتظاهر بأنه لا يعرف أن السكان العزل، سواء اعتبروا قاعدة دعم فعلية او مشبوهة للمتمردين، يتحملون مرة أخرى عواقب عمليات القمع.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحافي من مؤلفاته بنوع خاص:
Rhum Bacardi. CIA, Cuba et mondialisation, EPO, Bruxelles, 2000.
[2] المرجع:
1 El Terrorismo de Estado en Colombia. éditions NCOS, Bruxelles, 1992
وقد عمل على نشره العديد من المنظمات حقوق الانسان الدولية. وهذا التقرير يحوي لائحة بـ350 قائداً من القوات المسلحة والشرطة متورطين في "الحرب القذرة" من دون أن يعاقبوا. ولم يتم تكذيبه أبداً.
[3] المرجع السابق.
[4] راجع:
1 La guerra moderna, Ejército de Colombia, Biblioteca del Ejército, Bogotل, 1963, cité in Tras los pasos perdidos de la Guerra Sucia,, NCOS, Bruxelles, 1995.
ساعدت في نشره منظمات دولية عديدة.
[5] راجع:
Reglamento de Combate de Contraguerrilla, EJC-3, Reservado, Bogotل, 1969. Mentionné dans Tras los pasos perdidos de la Guerra Sucia, op. cit.
[6] المرجع السابق.
[7] المرجع:
Colombia s Killer Networks. Human Rights Watch, Washington, 1996.
[8] مؤسسة "المدافع عن الشعب" Defensoria del Pueblo هي مؤسسة تابعة للدولة ومهمتها السهر على احترام حقوق الانسان والدفاع عن المواطنين. والمدافع ينتخبه مجلس النواب.
[9] المرجع:
Cuarto informe anual del Defensor del Pueblo al Congreso colombiano. Defensorيa del pueblo, serie documento n?II, Bogotل, 1999.
[10] صحيفة لوموند، باريس، في 18/5/2001
[11] المرجع:
Mauricio Aranguren Molina, Mi confesiَn. Carlos Castaٌo revela sus secretos,, Ed. Oveja Negra. Bogotل, 2001.
[12] راجع:
1 Gustavo Petro,, ? Indulto a paramilitares ?, Via Alterna, 14 décembre 2002.
[13] وفي مطلق الأحوال فان الولايات المتحدة اتهمت في أيلول/سبتمبر عام 2001 عناصر مختلفة من شبه العسكريين بالاتجار بالمخدرات وطلبت إقصاء العديد من زعمائها ومنهم السيدان سالفاتوري مانكوزو وكارلوس كاستانيو.
[14] المرجع المذكور آنفاً:
Mi confesiَn. Carlos Castaٌo revela sus secretos.
[15] اقرأ:
The "Sixth Division", Military-Paramilitary Ties and U.S. Policy in Colombia, Human Right Watch, New York, novembre 2001
[16] من تصريحات دائرة حقوق الانسان في منظمة الأمم المتحدة وردت في صحيفة El Espectador ، بوغوتا في 24/1/1999
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم