|
حديث عن عائشة: الفصل الرابع عشر/ 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6516 - 2020 / 3 / 17 - 23:33
المحور:
الادب والفن
شهر آخر على الأثر، وقدمت عيشو مجدداً إلى مقر العصابة. هذه المرة، كانت ترافقها فتاة يتجاوز عُمرها العاشرة. كان خلّو مع صديقه الصحافيّ حينَ سمعَ جلبة العربة المشدودة بالبغل، وما لبثت الفتاة أن ظهرت من وراء صخرة كبيرة تغطيها الطحالب وأغصان الأشجار. وقفت على مقربة منه، يعتور الحياء ملامحها، فلم يعرفها لأول وهلة بسبب الجديلتين السميكتين، اللتين انسدلتا على جانبي وجهها الأسمر وغابتا وراء كتفيها. لكن سرعان ما أدرك أنها ابنته الكبيرة، وذلك لما تمعن في عينيها الضيقتين، الشبيهتين بعينيه. ما عتمَ أن نهضَ على قدميه، فاتحاً لها ذراعيه: " ابنتي الحبيبة، ما أسعدني برؤيتك "، هتفَ وهوَ يحتضنها. خجل الابنة، الغريب على طبعها، إنما يعود لكونها لم تجتمع مع أبيها منذ نحو عامين. " هذه كَولي، يا صديقي. آمل أن تصبحا أيضاً صديقين! "، قدم ابنته إلى الصحافيّ. بدَوره، تأمل الرجلُ الفتاة وكانت قد تخلصت من خجلها وآبت إلى طبيعتها المنفتحة. خاطبها أحمد ملا، مبتسماً: " والدك حدثني عنك كثيراً، كما أنني قرأتُ بإعجاب ما دوّن في دفترك المدرسيّ. لكنني لم أتصور أنك صرتِ صبيّة ". رمقته الفتاة بنظرة جريئة، وازدادت التصاقاً بوالدها. هذا الأخير، تساءل في نفسه عندئذٍ ما لو أنها فكرة حكيمة، جلب عيشو لابنتهما إلى منطقة خطرة تعج بالأعداء: الفرنسيون انتهوا من إنشاء ثكنة لجنودهم، من جهة جبل قاسيون، بهدف منع عصابة الثوار من الاتصال بالحي الكرديّ. والدرك، يقطعون الطرقات المؤدية إلى القرية. ثم كانت ثالثة الأثافي، متمثلة بظهور عصابة " أولاد عكاش " في المنطقة، والمعلومات المؤكدة مخابرة العدو لأفرادها بغيَة التعاون ضد الثوار. " البنت ألحت عليّ أن تراك، غير أننا لن نمكث سوى برهة قصيرة "، عقّبت عيشو على مخاوف رجلها. وكانا قد وقفا لوحدهما في ظل الصخرة الكبيرة، فيما الابنة تتحدث على سجيتها مع الصحافيّ. قال خلّو: " بل تتناولان الغداء معنا، لأن رحلتكما استغرقت ساعات ولا بد أنكما جائعتان " " سيسعد ذلك ابنتنا بالطبع، فمن يدري متى تلتقيان من جديد؟ " " عندما تسمح الظروف، سآتي بنفسي إلى المنزل " " الأفضل ألا تفعل ذلك، لأن الفرنسيين يفرضون ما يشبه الحصار على الحي. لعلك سمعتَ بحكاية المجاهد أحمد بارافي، الذي كاد مؤخراً أن يقع بأيديهم حينَ علموا بوجوده في منزل أسرته؟ " " سمعتُ بالحكاية عرضاً، لكنني أرغب بسماعها مرة أخرى لو تملكين تفاصيل وافية "، رد الرجل. جلست عند ذلك امرأته على جذر شجرة، وكانت مقطوعة ربما على أثر عاصفة في شتاء سابق، ثم بدأت تقص ما تعرفه من تفاصيل تلك الحكاية. من ناحيته، ألقى خلّو برأسه فوق وسادة من الحشائش البرية، التي تغلغلت في رأسه ولم يعد ممكناً تمييز شعره عنها.
*** ذلك كان في بداية الربيع، وكان البارافي قادماً لوحده من الغوطة عن طريق عين كرش، الموحش والمظلم حتى في ساعات النهار؛ بسبب تكاثف الأشجار على جانبيه. قررَ التسلل إلى الحي لزيارة والدته، بينما أسرته ما زالت في منزله ببلدة قطنا. كان مضى عامان على تركه الخدمة كضابط درك، للالتحاق بعصابات الثوار في ريف المدينة. ما لبثت بيوت الحي أن بانت لعينيه، وهيَ متلاصقة على السفح وسطوحها مذهّبة بفعل أشعة شمس الظهيرة. مع خروجه من الدرب، راحَ يخلص حذاءه من الطين العالق به مع الحشائش الميتة، لتهب في أنفه من بعد روائحُ مطابخ بيوت الحارة مختلطة مع رائحة دروبها المتربة والرطبة بفعل مطر الصباح. " من هناك؟ "، سمع صوتَ أمه من وراء باب الدار. ثم سرعان ما ظهر وجهها، المحاط بخمار منزليّ ملون. كونه متنكراً بكوفية فلاحين وهيئتهم، ظنت أنه بائع متجول. لكنه أزاح اللثامَ، ليخاطب والدته مبتسماً: " أنا أحمد، أماه ". أرسلت الأم آهة طويلة، قبل أن تعانقه وهيَ مجهشة بالبكاء. بعدئذٍ مشت أمامه في الدهليز الطويل، المفضي لأرض الديار. كانت لوحدها في المنزل، لأن بقية الأولاد أقاموا أيضاً في قطنا مع عائلاتهم كون خدمتهم في سلك الدرك. مثل شقيقهم الكبير سواءً بسواء، التحقوا بالثورة غبَّ انتفاضة أشعلوها في البلدة سيطروا فيها على المخفر واستولوا على الكثير من الأسلحة والذخائر. " أسمعُ أصواتٍ غريبة في الزقاق، كأنها صادرة عن عساكر؟ "، قالها ناهضاً عن مائدة الغداء الموضوعة في الإيوان. وكان حدسه في محله، إذ ارتفعت على الأثر صرخاتٌ تطالب بفتح باب البيت مع طرقات عنيفة على خشبه. عندئذٍ أخرجَ أحمد مسدسه، ثم طلبَ من الأم أن تجلبَ بندقية أبيه الراحل مع ذخيرتها. فما أن خلع العساكر البابَ، وكانوا من عناصر الدرك يقودهم آمرٌ فرنسيّ، حتى كان في استقبالهم الرصاصُ القاتل. سقط جنديين أرضاً مع أنين وحشرجة، فيما تراجع الآخرون إلى الخلف. من هناك، أعطوا الرجلَ المطلوب إنذاراً بتسليم نفسه خلال دقيقة واحدة. فما لبثت المعركة الحقيقية أن نشبت على الأثر، وهذه المرة في مواجهة رجلين: الأم، واسمها " فاطمة " من العشيرة " الأومرية "، تمسكت بسلاح زوجها وراحت تطلق النار على الجنود، الذين ارتقى بعضهم الأسطح المجاورة كي يُحكموا الحصارَ. هتفت لابنها بمثل كرديّ أكثر من مرة، بهدف تشجيعه على الصمود: " فحول الأكباش خلقت للذبح! ". بقيت المعركة مشتعلة إلى وقت حلول الظلام، لكن مع تمكن الجنود من السيطرة على المنزل لم يجدوا سوى الأم. قالت لهم بلهجة ساخرة: " أحمد تسلل عبرَ البئر إلى سرب الماء، وعلى الأغلب أنه خرج الآنَ من جهة مصبه في النهر ". بيد أنها أرادت بذلك خداعهم، لأن ابنها كان قد تسلل إلى منزل الجيران من خلال الحديقة. بقيَ هناك لحين انسحاب الجند جارين قتلاهم وجرحاهم، ثم ما عتمَ أن غادر الحارة في الساعات الأولى من الفجر، متخذاً ذات الطريق الزراعيّ.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حديث عن عائشة: الفصل الرابع عشر/ 1
-
حديث عن عائشة: بقية الفصل الثالث عشر
-
حديث عن عائشة: الفصل الثالث عشر/ 2
-
حديث عن عائشة: الفصل الثالث عشر/ 1
-
مدام بوفاري، في فيلم لكمال الشيخ
-
حديث عن عائشة: بقية الفصل الثاني عشر
-
حديث عن عائشة: الفصل الثاني عشر/ 2
-
حديث عن عائشة: مستهل الفصل الثاني عشر
-
جريمة كاملة
-
حديث عن عائشة: بقية الفصل الحادي عشر
-
فردوس الفقراء
-
حديث عن عائشة: مستهل الفصل الحادي عشر
-
جريمة مجانية
-
حديث عن عائشة: بقية الفصل العاشر
-
حديث عن عائشة: الفصل العاشر/ 2
-
حديث عن عائشة: الفصل العاشر/ 1
-
حديث عن عائشة: بقية الفصل التاسع
-
حديث عن عائشة: الفصل التاسع/ 3
-
صراع على العيش
-
حديث عن عائشة: مستهل الفصل التاسع
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|