صديق عبد الهادي
الحوار المتمدن-العدد: 6516 - 2020 / 3 / 17 - 09:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(*) مشاكل ملكية وإستخدام الأراضي الزراعية في السودان
مشروع الجزيرة نموذجاً/
(*) موضوعة أو ظاهرة الإستيلاء على الأرض/
(*) ولماذا أضحى الآن إمتلاك الأرض، وتمليكها محل إهتمام العالم؟!/
وعلى نهايات الحكم التركي- المصري أصبح هناك نظامان لملكية الأرض، "الأول الملكية الفردية وكانت غالباً في الأراضي الزراعية على ضفاف النيل، والتي بدأت تشهد في أخريات الحكم التركي- المصري تحركاً نحوها، هو أحد بشائر الرخاء، وأحد المؤشرات لتحلل العلاقات القبلية. والثاني الملكية الجماعية في مناطق الرعي. وهذا النظام بقى قائماً منذ الهجرات الجماعية للعرب، وهو يشكل العمود الفقري لنظام ملكية الأرض في السودان، وظل قائماً لعدة قرون لا يتأثر بتحركات القبائل".( ) هذا المقتطف يؤكد ما ذهبنا اليه من قبل بأن الملكية الجماعية كانت، تاريخياً، هى الطابع الغالب على شكل ملكية الأرض في السودان فيما قبل ظهور الدولة الحديثة.
لم تحمل الدولة المهدية فيما بين 1885-1898 فكرة ومسالة حداثة الدولة وتدفع بها في نفس المسارات التي كانت عليها تحت ظل الحكم التركي – المصري، إلا أن ما تقدم به الإمام المهدي من رؤية حول الأرض، يرقى إلى ان يكون، ومما لا شك فيه، ركناً أساساً في أي إصلاحٍ زراعي بالفهم المعاصر!. نحا المهدي في قضية ملكية الأرض منحاً كاد أن يكون إشتراكياً!، حيث جاء قوله في هذا الشأن، "وحيث أن الأمر كذلك وأنا أحب لكم ما يدوم لكم نفعه فمنْ كان له طين فليزرع فيه ما إستطاع زرعه، وإذا عجز أو لا إحتاج إليه لا ياخذ فيه دقندي لأن المؤمنين كالجسد الواحد وما يساوي به أخاه المؤمن يكن له في ميزانه دائماً بدرجاتٍ علا عند الله وليس المسابقة من المؤمنين إلا فيما يبقى. وأن كل مؤمن ملكه من الطين له. ولكن من باب إحراز نصيب الآخرة فما لا يحتاج إليه يعطيه لأخيه المؤمن المحتاج. وما عجز عنه وأراد به الآخرة خيرٌ له من نفع دقندي يفنى عن قريب ويتحسر عليه إذا لم بصرفه لآخرته".( ) وفي أمر موقف المهدي من قضية ملكية الأرض، وخاصة دعوته الناس الا يأخذوا إيجاراً عن أرضهم، فلا مراء من الإتفاق مع القول بان المهدي "لم يفرض الأمر بقانون، بل توسل اليه بالوعظ والموقف الأخلاقي العام".( )
إن موقف موقف خليفة المهدي، الخليفة عبد الله التعايشي، فيما يتعلق بقضية ملكية الأرض جاء متفقاً في خطه العام مع موقف الإمام المهدي، إلا أن خطه تأثر لحدٍ كبير بالتطورات السياسية للدولة، وخاصةً بسياسة تهجير الأنصار من مناطقهم إلى أمدرمان، والذي تمَّ بناءاً على طلبٍ من الخليفة نفسه، وذلك لاجل نصرته في الصراع الداخلي في الدولة مع الأشراف. دخلت سياسة التهجير في تناقض بيِّنٍ مع سياسة دفع الناس لإنتاج الغذاء اللازم. آثر بعض الناس البقاء في مناطقهم لاجل الانتاج عوضاً عن الهجرة إلى "البقعة"، أي أمدرمان، وخاصةً أهل منطقة الجزيرة، مما دعا الخليفة ليقول قولته المشهورة فيهم، في أنهم "يميلون إلى حب الأطيان والإقامة بالأوطان"، بل وخشي أن يؤدي إختلاط عماله بهم، إلى دخول "بهجة الدنيا عليهم فلا يستنفرونهم للجهاد" و"يتعطل الدين" بسبب ذلك.( )
شهدت فترة الحكم الإنجليزي – المصري ما بين 1898-1956 وضع الأسس الحقوقية والقانونية المعاصرة لملكية الأرض في السودان، بشكلٍ منظم وبواسطة الدولة. إن التطور العاصف في جوانب الحياة المختلفة، الاقتصادية والإجتماعية منها والسياسية هو الذي حتّمَ إنتاج تلك القوانين، والتي أصبح وجودها ضرورة لمعالجة وتنظيم المتغيرات التي طرأت على الحياة نتيجة ذلك التطور. بدأ صدور القوانيين المتعلقة بملكية الأرض في 1899 ولتصل ذروتها في فترة وجيزة بصدور قانون أ راضي الجزيرة في سنة 1927 (راجع الملاحق، الملحق الأول). وهو قانونٌ خاص بتنظيم ملكية الأراضي في مشروع الجزيرة. وفي إشارة صائبة إلى وضع ملكية الأرض في ظل الحكم الثنائي يقول دكتور القدال، أنه من أهم "إنجازات الإدارة البريطانية" أن "أصبح نظام ملكية الأرض يقوم على قانون وعلم".( )
يتضح من تتبعنا الخاطف لقضية ملكية الأرض، في الفترات التاريخية المختلفة للدولة في تاريخنا المعاصر، أن نقطة التحول المهمة في تاريخ ملكية الأرض في السودان، هو أن نحا شكل الملكية منحاً حاسماً مع ظهور الدولة الحديثة، أي بعد أن إنتظمته القوانين التي أنتجتها تلك الدولة الحديثة، والتي إستعانت في إستكمال دورها بالتقاليد والأعراف التي صاغتها مجتمعات بلاد السودان لتنظيم حياتها، ولتنظيم علاقتها بإرضها عبر مراحل تاريخية ضاربة في القدم.
إننا ولأجل الإقتراب من موضوعنا نرى أن ننظر إلى قضية الأرض في السودان من أكثر جوانبها أهمية من الناحية الإقتصادية، أي من ناحية توظيفها كموضوع للإنتاج الزراعي. وذلك بالقطع من منطلق أن القطاع الزراعي ظلَّ وما زال يمثل الركيزة الأساس لإقتصاد البلاد عبر كل تاريخها وخاصة الحديث والمعاصر. وفي هذا الصدد، جاءت إفادة في مقام آخر بأنه " كان القصد من هذه الإضاءة التاريخية المطولة هو تأكيد ما كان محوري ومشترك بين تلك الاقتصاديات الثلاث، والتي تنتمي إلى ثلاثة مراحل تاريخية مختلفة في السودان، التركي- المصري، المهدية، والحكم الثنائي. فما كان متقاسماً بينها هو اعتمادها الزراعة قاعدةً أساس يقوم عليها اقتصاد البلاد".( )
درجتْ الزراعة على القيام بدورها المعقود بها فيما بعد قيام الدولة الوطنية في عام 1956، وإلى يومنا هذا، حيث ظلتْ تساهم بأكثر من 45% من الناتج القومي الإجمالي، وتساهم بأكثر من 90% من الصادرات.( ) وذلك إلى وقتٍ قريب قبل ان يصبح معدل نموها سالباً، حيث تدهور نصيب القطاع الزراعي في الناتج المحلي ليصل إلى 32% فقط.( ) وذلك بالقطع يرجع لأسباب كثيرة والتي من ضمنها، كما هو معلوم، المعضلات والتعقيدات المتعلقة بقضايا الأرض وملكيتها والنزاعات والحروب المترتبة عليها!.
فبالإضافة إلي ما ذكرناه، يعمل بالقطاع الزراعي أكثر من 75,7% من القوى العاملة. كما وأنه، أي القطاع الزراعي، يمثل القاسم المشترك بين كل القطاعات الإقتصادية الأخرى، من صناعة وتجارة وبنوك ونقل...الخ.
لابد من إعطاء صورة اكثر دقة عن القطاع الزراعي في السودان بشقيه النباتي والحيواني، أي الرعوي، وكلاهما متأثران بقضية ملكية الأرض ومشاكلها. تشير التقديرات إلى أن المساحة الصالحة للزراعة في السودان بعد الانفصال، في عام 2011، حوالي 60 مليون هكتار اي ما يعادل 144 مليون فدان، والمساحة المستغلة منها حوالي 28 مليون فدان، أي ما يعادل 19,44% من مساحة الأرض الصالحة للزراعة. وتاريخياً تنتظم الأراضي الزراعية ثلاثة نظم للزراعة، وهي، أولاً/ الري المنتظم ويغطي حوالي 3,3 مليون فدان تقريباً، أي ما يعادل 11,80% من مساحة الأراضي المستغلة، و 2,30% من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، وثانياً/ النظام المطري الآلي ومساحته تقدر بحوالي 9,9 مليون فدان تقريباً، أي ما يعادل 35,40% من مساحة الأراضي المستغلة، و6,90% من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، ثالثاً وأخيراً/ النظام المطري التقليدي ويغطي مساحة وقدرها 14,8 مليون فداناً، أي أنها تعادل 52,80% من مساحة الأراضي المستغلة وحوالي 10,24% من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، بالتقريب.( )
وعلى ضوء هذا الواقع نأتي لننظر لأراضي مشروع الجزيرة والمناقل، بحسبه مشروعٌ يقوم على الري المنتظم. يحتوي المشروع على مساحة قدرها 2,2 مليون فداناً. وقد أخذ المشروع 98 عاماً بالتمام والكمال، ليصل إلى هذه المساحة، وهي سنوات إمتدت منذ السنة التجريبية الأولى للمشروع بمنطقة طيبة الشيخ عبد الباقي في العام 1910، حيث بدأ المشروع بــــ250 فداناً فقط، وليصل إلى مساحته الحالية 2,2 مليون فدان في العام 2008.
التدرج في توسع مساحة أراضي المشروع منذ فترته التجريبية في منطقة طيبة الشيخ عبد الباقي/
السنة المساحة بالفدان الزيادة بالفدان النسبة المئوية للزيادة
1910 250 0 0
1911 600 350 140%
1912 1200 600 100%
1913 5,000 3,800 317%
1925 220,000 215,000 4300% (*)
1929 400,000 180,000 82%
1931 525,000 125,000 31%
1953 1,000,000 475,000 90%
1965 1,800,000 800,000 80%
1983 2,000,000 200,000 11%
2008 2,200,000 200,000 10%
(*) 1925 هي سنة إفتتاح خزان سنار والبداية الرسمية لقيام مشروع الجزيرة، وهو الأمر الذي تظهره النسبة الضخمة في زيادة الأراضي التي اصبح يضمها المشروع.( )
عليه، فإن النسبة المئوية لمساحة المشروع (2,2 مليون فدان) إلى مساحة قطاع الري المنتظم (3,3 مليون فدان)، تساوي 66,67%، اي ثلثيه. فهذه النسبة أو السمة، إذا صح لنا القول، هي العامل الأساس في تفاقم مشاكل مشروع الجزيرة، إذ انها وبشكل واضح وكمساحة مغرية، ظلتْ تمثل الدافع الأول من وراء المحاولات المتكررة لإعادة صياغة الملكية بالنسبة لأراضيه!. وهي محاولات بدأ التفكير فيها بعد فترة وجيزة من إنتهاء عقد الشركة الزراعية (1950)، والتي حلَّ محلها "مجلس إدارة مشروع الجزيرة". وبالتحديد نجد أن محاولات التمهيد للخصخصة بدأت في العام 1960 من قبل البنك الدولي، وبواسطة لجنته التي عُرِفتْ في تاريخ الإقتصاد السياسي لمشروع الجزيرة بـ"لجنة ريتس".
وهنا يتبادر السؤال، ولماذا السعي لإعادة صياغة ملكية الأرض في المشروع، ولماذا المحاولة لمصادرة حق ملكيتها من أصحابها، إذا كان إغراءاً او قهراً، وتحت غطاء القانون في الحالتين؟!.
....................................نواصل...........................................
#صديق_عبد_الهادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟