سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 6509 - 2020 / 3 / 9 - 20:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
-لماذا نحن متخلفون (74) .
- الإيمان عندما يُغيب عقولنا (4) .
- المشهد الأول .
كنت أتسائل فى طفولتى عن سر الممارسات الطقسية التى يمارسها البشر .. فلماذا السجود ؟ ولماذا الركوع ؟ ولماذا هذا العدد من الركعات ؟ لماذا يتم ترديد كلمات معينة مع كل سجدة أو ركعة ؟ ماهو السر وراء اللف والدوران حول الأماكن المقدسة بعدد معين من اللفات ؟ وما الفائدة من تقبيل الحجر والأيقونة والعتبات , فهم لا يزيدوا فى النهاية عن كونهم حجارة أو صور أو عتبات !
لماذا يصلى الإنسان فى إتجاه معين ..أليس الله موجود فى كل مكان ؟ هل الله لا يستجيب للصلوات إلا بهذه الحركات وتلك الممارسات الروتينية ؟ هل هناك تأثير يحل علينا من تقبيل الحجر أو الأيقونة أو الأعتاب ؟ وما هو السر الذى يقبع وراء كل الممارسات الطقسية ؟ هل الله يمسك بورقة وقلم ليعد علينا ركعاتنا ؟ وهل يزعجه أن نزيد أو ننتقص من ركعة ما ؟ هل الكلمات والعبارات الروتينية التى نرددها ترضى مزاجه حتى لو تمت بشكل ببغائى تفتقد إلى أى فهم أو تركيز ؟ هل كل ما يرضيه أن نمارس صلواتنا كشريط كاسيت أو بروجرام معد سلفا ؟
كانت هذه هى أسئلتى القديمة كطفل , ولم أجد لها إجابات وفى أحسن الأحوال كان يُعطى لى إجابات مبتسرة وغبية لتزيد مساحة الأسئلة و الحيرة والدهشة .. ومازلت أرى هذه الأسئلة قابلة للطرح والتعاطى .
- المشهد الثانى .
فى دراستى الجامعية كنت أندهش من بعض أساتذتى المرموقين والذين كانوا يتولوا تعليمنا أرقى العلوم الهندسية , مبعث دهشتى أننى كنت أراهم يحملون تركيبة عقلية مزدوجة ! فأراهم يصرون على إتباع التفكير العلمى الصارم فى التعامل مع الأشياء المادية .. فتكون الأسئلة موجهة لنا مثلاً عن سبب حدوث هذا الإنهيار للمبنى وماهى القوى التى أثرت عليه وكيف نحسبها ونقيسها ؟ ثم أراهم بعد إنتهاء المحاضرات يخوضون فى أحاديث عن الجن والعفاريت والملائكة ذوات الأجنحة , وهذا الجن الذى يتبول فى أذن المؤمن تارة ويشاركه الطعام والنكاح تارة أخرى ليستقر تحت أنفه فى نهاية المطاف , ولا يملون عن الحديث عن المرأة التى حبلت بدون رجل أو ذلك العجل الطائر فى الفضاء كمركبة قضائية .. مثل هكذا قصص وخرافات وجدتها تتردد على ألسنة أساتذة مرموقين ومحترمين ليصبح التناقض هائلاً ويولد لديّ سؤال كبير كيف يجتمع النقيضين .
- المشهد الثالث .
أنتهى من دراستى الجامعية لألتحق بالجيش ..فهالنى حجم التعنت والعبثية فى ممارسة طوابير مملة ليس لها أى معنى , فعلينا أن نقف فى الوضع صفا هذا غير الوقوف فى الوضع إنتباه ..وعلينا ان نمشى بطريقة محددة ونصطف بطريقة واحدة ونحمل السلاح بطريقة معينة .. قلت فى عقلى هل بهكذا طوابير سخيفة سنقدر على محاربة إسرائيل .. أليس بهكذا نظام غبى خسرنا حروبنا مع العدو الصهيونى .
أعترف أننى كنت مخطئاً فى هذه الرؤية , فالجيش لن يستطيع إنجاز أى مهمة قتالية إلا من خلال تنفيذ الأوامر بشكل صارم وبدون أى نقاش أو تفكير ..لذلك لابد من تهيأة المجند لهذا النظام , فتكون الطوابير السخيفة هى طريقة لبرمجتنا بحيث ننفذها بدون وعى أو تذمر أو جدال .
أن يعتاد الإنسان أن يمارس فعلاً حركياً بدون أن يستوقفه أو يناقشه أو ينتقده هو قمة الإنسحاق والطاعة , إنه بهكذا أسلوب يصبح المرء مبرمجاً بشكل جيد ليتعود على تنفيذ الأوامر التى توجه له بدون أن يفكر فيها , فيكون مجهزاً بأن ينفذ أى أمر قتالى دون أن يتردد .
- إنه الترويض .
كما تم ترويض الجنود على أن يصبحوا مبرمجين لتنفيذ الأوامر بهكذا طريقة , فكذلك يتم ترويض المؤمنين بنفس المنهجية ,فتجدهم يمارسون فعلاً حركياً محدداً مابين السجود أو الركوع أو القيام أو تجدهم يلفون حول أماكنهم المقدسة أو يقبلون تلك الأيقونة أو الحجر أو يتلمسون العتبات والأستار .
السر وراء هذه الحركات التى يمارسها المؤمنون هو ترويضهم على أن يمارسوا فعلاً حركياً مادياً بدون وعى وبدون أسئلة ولا نقاش , فلا يثيرهم سؤال لماذا يفعلون هكذا وماذا يضر الله إذا زادوا أو إنتقصوا .
عندما يمارس الإنسان فعلاً مادياً بدون أن يفكر فيه أو يستوقفه يكون هو نهاية العقل وإنتحاره , ليصبح العقل قد وصل إلى حالة من الجمود والموات والتسليم والإستسلام فيسهل حينها تمرير قصص وأساطير وإفتراضات بدون أن تجد مقاومة ذهنية بعد أن وصل العقل لمثواه الأخير .
النظرية الإيمانية المنشودة هى أن يصبح المرء جزء من منظومة متقولبة لا يفكر ولا يجادل ولا ينقد , يصبح مثل حال الجندى الذى تحدثنا عنه فى تنفيذه للأوامر بدون مناقشة بعد أن تم إعداده وتجهيزه من خلال الطوابير السخيفة التى يؤدى فيها حركات ليس لها معنى ولاهدف سوى الإنسحاق والترويض .
سر الإيمان أن تتحول إلى بروجرام يمارس أفعال بدون تفكير ..أن يتم تخدير العقل بإستمرار وبإلحاح حتى لا يتبقى منه شيئا , فالإيمان يفتقد أن يقدم لك شيئا ملموساً ومنطقياً سوى أن تتقبل ما يعرض عليك ولا تدخل المدعو العقل فى السياق .. ومن هنا يمارس الطقس عمله ووظيفته على أكمل وجه , فيحول البشر إلى قطيع يمارس أفعال روتينية بلا معنى بدون أن يستوقفهم شئ .
تبدأ الممارسات الأولى من الطفولة ولا يجد الطفل بداً من تقليد الكبار لثقته أن أبوه يفعل شيئاً حسناً , علاوة أن ممارسته للصلاة تجلب عليه إستحسان أهله وذويه ,فيُقتل العقل من نعومة الأظافر وبذا ينضم الطفل إلى القطيع .
عندما يصل المرء إلى هذه الحالة التى تم قهره فيها وتحول إلى بروجرام , يكون من السهولة حينئذ ملأ رأسه وتعبئتها بقصص الجن والعفاريت والشياطين وكل قائمة الخرافة والأساطير , لنصل فى نهاية المطاف إلى أستاذى الجامعى الذى يدرس أرقى العلوم الحديثة ويملأ عقله بأفكار ميتافزيقية وخرافية .. أستاذى تم ترويضه فمارس التعامل مع الطقوس منذ طفولته بدون أن يسأل وبدون أن ينتقد ليتبرمج على هذه الطريقة ويتم تمرير كم هائل من الخرافة فى ذهنه بعد أن فقد العقل الحرية والقدرة على السؤال ليصبح عقلاً مروضاً منبطحاً قابلاً لأى شئ يتم تغليفه بالمقدس .
لا تكون النظريات والعلوم بالنسبة لأساتذتى سوى طريقة فى التعامل مع المادة بالمعادلات والعمليات الحسابية ليس إلا , ولكن يستحيل أن تخلق من هذا الجب فكرة مبدعة كون العقل لا يبدع إلا عندما يمتلك حريته وقدرته على النقد والتحليل والرصد والتأمل والذى تم إغتياله من زمن ليس بقريب .
خطورة العقل الذى تم ترويضه أنه عقل غير قادر أن يخرج عن دائرة ما تم تلقينه , ولتمد المنظومة ظلالها لتجد من يتعاطى مع العلم ذاته فلا يزيد عن كونه قد تم شحنه بكم من المعلومات لا يستطيع أن يضيف لها أو يبدع فيها لأنه ببساطة تعود على التلقين بدون تفكير .
- المقدس .
من الممارسات التى يحرص العقل الدينى على تكريسها هو تقديم الإحترام والتبجيل للمقدس ..أى تنصيب شئ ما وإحاطته بهالات من الإحترام والتوقير والتبجيل , لنجد أن هناك مكان مقدس وحجر وتمثال مقدس وأيقونات مقدسة وعتبات مقدسة .. صحيح أننا سنكون أمام رموز مقدسة تزداد إتساعاً وتنوعاً فى معتقدات وتقل بدرجة ما فى بعض المعتقدات الأخرى , ولكننا لن نجد دين أو معتقد يفتقر ويفتقد للمقدس , وبالطبع لن نجد أى تغييرات فيزيائية تطرأ على المكان أو الحجر أو التمثال لتجعله مختلفا عن مثيله , لتضاف صفة المقدس عنوة بغية أهداف ومرامى محددة الهدف والمقصد .
فكرة وجود المقدس لها أهمية خاصة من عجز قدرة الإنسان على تحمل الأفكار الميتافزيقية ..فالإنسان لا يستطيع أن يتقبل أى شئ غير مادى ليس له وجود ..شئ لا يستطيع أن يتلمسه بحواسه ويجد له وجود على أرض الواقع , لذا فمن الصعوبة بل من المستحيل أن يقبل وجود أشياء تفتقر للوجود والمعاينة يطلق عليها أنها لا مادية الوجود .
يكون المكان والحجر المقدس هو خلق وجود للاوجود له ..هو صيغة تواصل مع الأفكار اللاورائية ..المقدس هو إعطاء إنطباع بوجود أثار للأفكارالميتافزيقية والخرافة ..المقدس يكون تجسيد مادى لأفكار عصية على الفهم والتحقق .
من أبدع المقدس لم يكن يرمى فقط إلى محاولة تجسيد للامادى وتقريبه للذهن البشرى الذى لا يقبل الموجود إلا محسوسا أو يمكن معاينته , فالذهنية الإيمانية إستغلت وجود أشياء مادية وأطفت عليها الإحترام والتبجيل والتوقير لتمرير هدف التواصل بين الإنسان والخرافة ., فيصبح سريان القداسة فى ذهنية ووجدان الإنسان داعياً لقبول كم محترم لا بأس به من الخرافة والغيبيات .
لتوضيح النقطة الأخيرة نقول : إن إنبطاح الإنسان وترويضه بتسليمه أن هذا الحجر مقدس وهذا المكان مقدس بالرغم أنه لا يراه مختلفاً عن أى حجر ومكان أخر هو تسليم مبدئى لمفاتيح العقل الناقد ..هو تخديره أو قل هو إطلاق رصاصة الرحمة عليه !
يتم التماهى فى ممارسة الطقوس للمقدس ويتحول الإنسان كفاعل ميكانيكى مبرمج على أداء حركات معينة بدون أن يتوقف أو يفكر فيها , ومن هنا تكون البرمجة قد تمت على أكمل وجه , فقمة الإنسحاق للعقل عندما يقدم الإنسان على أداء فعل مادى وحركى وهو معزول بعقله وتفكيره عنه , فيصبح الطريق ممهداً بعد ذلك لتمرير حمولات لا بأس بها من الخرافة والغيبيات , ثم تدور الدوائر .
لا يكون غريبا إلتجاء المؤمن إلى تقديس الأنبياء والشخوص أكثر من الإله مثل إحتفاء المسيحيين بالمسيح أكثر من فكرة الإله المجردة ونجد هذا الحال لدى المسلمين , فالإحتفاء بمحمد أكثر من الإله وهذا ما دفع الأخ شاهر فى مقالى السابق للقول عن محمد : بل لو كان لا يوجد اله او آخرة وجنة ونار ..فلن يهز هذا شعرة من ايمانى ويقيني به وبصدقه .!
هذا الكلام الغبى نابع عن التقديس الزائف , فالإنسان مهما كان مؤمناً بإله غير مُعاين ولا يُرى لذا يبحث عن وجود لنبى أو كيان يمكن تلمسه وتحسس خطاه ليطفى عليه القداسة , فهذا ماهو إلا نوع من العبودية والبحث عن سيد.
- مفردات الترويض عديدة فهناك مفهوم: ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ ) ليتم قهر الإنسان ووأد تساؤلاته وتأملاته وترويضه على القهر والإنسحاق ناهيك على تسلل مفهوم الإستبداد والديكتاتورية وتكريسه .
الترويض والإنسحاق للمقدس الرمز يصبح ثقافة ومنهجية حياة تجد حضورها فى العلاقات الإجتماعية والسياسية لتفتح المجال لكل الطغاة فى الحضور والهيمنة بعد أن تم ترويض الشعوب على الخضوع والإنسحاق وعدم السؤال .
يطل سؤالنا : هل لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ . هو نهج هذا الإله الإفتراضى أم هى صياغة الطغاة والمستبدين ورسمهم لصورة الإله ليظلوا على هيمنتهم وطغيانهم ؟
إن ترويض الإنسان كيف يكون معلباً منبطحاً مُقدساً هو حجر الزاوية فى الإيمان , فهل عرفت الآن لماذا نحن متخلفون ؟
دمتم بخير .
- "من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " - أمل الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع.
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟