|
حلم الفيل
محمد الدرقاوي
كاتب وباحث
(Derkaoui Mohamed)
الحوار المتمدن-العدد: 6505 - 2020 / 3 / 3 - 21:35
المحور:
الادب والفن
تعودت ألا ترجع الى البيت الا متسربلة في ظلام الليل ، وكما تخرج مع آذان الفجر مقمطة في خرق الظلام ، كذلك تعود محترسة ألا يراها أحد ؛ تركن سيارتها "الأودي أ3 " قلب مرأب العمارة ، ثم تلج البيت ، فتبادر الى الحمام ، تخلع عنها كل ما ترتدي ، وما ترتديه لم يكن قليلا : خرق ملفوفة على بطنها وصدرها ،وقمصان بالية الواحد فوق الآخر ،صدريات صوفية رجالية أحيانا ونسائية أخرى ، وسراويل من قطن أوصوف ألوانا وأشكالا ، كل ذلك تحت جلباب فضفاض بمرقعات من ألوان شتى .. تفتح خزانة كبيرة من خشب العرعار ، تخفي داخلها كل قطعة مما كانت ترتديه ، تضغط على زر في راس عصا مجوفة لا تفارقها طيلة خروجها الليلي ، تفرغ ما في داخل تجويف العصا في طبق خبز تقليدي كبير ملون من الدوم ، تضغط على زر ثان ،فتتداخل أجزاء العصا بعضها في بعض ، تضعها مع الملابس ،تقفل الخزانة بإحكام ،ثم تقف تحت رشاش الماء الدافئ.. تخرج من الحمام أنثى تعبق بعطر ، قوام معتدل ممشوق ،عيون تشع بحور وذكاء ، شفاه وردية لامعة ، ولون قمحي كأن انعكاس الشمس عليه قد ظللته ببهاء ، وقد أحست بانتعاشة قوية تسري في كل جسدها ،تفتح بقن سري خزانة حديدية مدفونة في الجدار ،بعد أن تزيح عنها مرآة بلورية عتيقة ، تفرغ طبق الدوم داخل الخزانة ،ثم تعيد المرآة الى مكانها وتندس في السرير و السعادة تغمر نفسها ،وقد ملأت صدرها بنوع من الرضا والطمأنينة فتغيب في نومة عميقة.. كل من يرى زهرة لن يمنحها أكثر من الثلاثين ، في حين انها تجاوزت الأربعين بقليل ، فحرصها على نظام غذائي دقيق ، وحصصها الرياضية اليومية التي تعتمد على المشي ، إضافة الى جمالها الموهوب ،جعل منها شخصية منسجمة في نظر كل من يراها ،وكأنها قد أدركت ماتريد ،تقنع محدثها بما حرصت على ان تجمعه من معارف،وهي طالبة في الكلية ، وما أكتسبته من خبرات في أكثر من مهنة لا تكاد تمارسها حتى تغادرها ، وفي عقلها الكثير مما كونته عنها ،لا تتردد في قول "لا" اذا كانت "لا " هي ما قد يبعدها عن شبهة او يكشف سرا من اسرارها التي لايمكن أن يعرفها أحد ، وقد مرت بمواقف كثيرة كان السبب فيها جمالها وأطماع الرجال من مختلف الأعمار .. كثيرون تساءلوا عن حقيقة زهرة ،من تكون بالضبط ؟،وما سر هذه الأناقة التي لاتوجد الا عند عارضات الأزياء او بعض فنانات السينما ؟، وكثيرات من تقولن ولها نسبن أكثر من شر ، لكن كانت برشدها ورزانتها ومنطقيتها تتحدى الجميع وتكشف لهم سوء ظنهم ، غيرتهم وحسدهم ، وأنها ليست الانثى التي تؤكل بالساهل او تنال باللسان ، أو التي يغريها مظهر كيفما كان ،فتنساق بلاتفكير .. كانت لا تحفل بذي نفوذ، أو تأكل بلسانها أحدا ،فهي مترفعة عن كل ذلك ، كما أنها لا تبدي رأيا حتى يكشف الكل كل أوراقه ، حينها تدلي بالرأي السديد ... لم تكن زهرة غير ابنة بيت فقير معدم ، الاب يتسول بالنهار ليعود مساء ومعه دريهمات تسد الرمق ، والام أنثى مريضة لكنها ، جلدة، وصبورة،لا تتحمل العمل في بعض البيوت الا لتتكفل بدراسة زهرة التي تشب ولها رغبة قوية في الدراسة ، وميل الى كل ماهو أنيق جميل ، تسعد لمرآه بلاطمع ،لكنها كانت تختزن في نفسها هذا التوق الى الجمال وهو ما انعكس على دفاترها نظافة واناقة وحسن رسم وخط وتنسيق ، والحفاظ على كتبها التي تظل جديدة من أول السنة الى آخرها مما يؤهلها الى استبدالها بلا مقابل في أكثر الأحيان .. ان الميل الفطري نحو الجمال في أعماقها كان حافزا قويا لان يجعلها تبز جميع تلاميذ قسمها حيث أن ذاكرتها القوية ،وقدرتها على الاستيعاب ،مكناها من الانطلاق في دراستها مما شجع الام ان تكابد مرضها ، وتشتغل لتحقق للصغيرة رغبتها .. كانت زهرة تجتاز مراحلها التعليمية بلا عسر ، وقد اختارت الجامعة على غيرها من المعاهد لانها بلا مقابل ، ولتضمن منحة تعينها على الدراسة بعد أن توفي الوالد الذي كان يتسول من أجلها وأجل أمها ، ثم لحقت به الام بعد أن أصيبت بداء كورونا الذي اجتاح العالم تخرجت زهرة من الجامعة وقد وجدت نفسها وحيدة لا تملك غير مسكن صغير كان قدوهبه أحد المحسنين لوالدها مادام على قيد الحياة لكن الوالد مات ،وبعده ماتت أمها ولم يطالب صاحب البيت ببيته ولا ظهر له اثر؛ كان اول عمل شرعت فيه كاتبة عند أحدالمحامين ، لم يقبلها لشهادتها وانما طمعا في جمالها ،لهذا ما أن تسلمت راتب شهرها الأول حتى غادرت بلاعودة .. بعد ستة اشهر بلا عمل استطاعت أن تعوض احدى بنات المبيعات في متجر بأحد المركبات التجارية ، وقد أعجبت بها صاحبة المتجر فكلفتها بالصندوق بعد أن لاحظت صمتها ورصانتها واختبرت أمانتها .. أربع سنوات وهي تعمل ،تستغل صاحبة المتجر جمالها وقدرتها على التعامل مع الزبناء بمهارة وحدق وثقة بالنفس الى أن حل بالمتجر زوج السيدة ليعوض زوجته التي سافرت الى الخارج للبحث عن جديد التقليعات النسائية فبدا يتحرش بها ، كانت تتخلص منه بكل لباقة الى ان تسلمت ما بذمة المتجر ثم غادرت بلا عودة .. آمنت زهرة أن لعنة الانثى ان كانت جميلة هو جسدها ،ولو اجتمع الفقر والجمال لصار ت اللعنة قبرا مظلما ،وقهرا يتوهمه أصحاب المال منطق حياتهم ، فكل من هو دونهم مجرد بيادق ،تتحرك تحت يدهم العليا .. كم أرسلت في طلبها صاحبة المتجر بعد رجوعها من السفر ، لكن زهرة أصرت على عدم العودة ، كانت تهمس لنفسها :لا يمكن أن أترك الذنب ثم اعود اليه .. بعد خمسة اشهر من مغادرتها المتجر أتاها ابن صاحب البيت يطلب بيت ابيه المتوفى ،وقد عاد من الخارج ليتسلم البيت مع بنايات أخرى قديمة كانت مهملة آيلة للسقوط لاعادة بنائها كعمارة في حي شرع يتجدد بعد أن أعيدت هيكلته ، تأسف كثيرا لموت والديها ،وعرض عليها تعويضا ماديا محترما تستعين به على حياتها .. وحين وافقت على عرضه بلا اعتراضات او عصيان وعدها بشقة في العمارة بثمن الكلفة ثم عرض عليها مسكنا اقتصاديا للإقامة فيه الى ان يتم بناء العمارة .. ست سنوات قضتها في مسكنها الاقتصادي اشتغلت في أكثر من عيادة ومتجر ومقاولة ، ما ان تزيغ عين أحد عليها حتى تصابر النفس الى ان تتسلم أجرتها ثم تغادر بلا عودة ولا ضجة .. خلال كل سنوات عملها لم تكن زهرة تفكر الافي طريقة تحقق لها الأمن والأمان ، غيرها من البنات كن يعشن الوهم من خلال هواتفهن في عالم افتراضي ،اليوم مع هذا وغدا مع ذاك ، من عالمهن يستمدن طمأنينة مزيفة بالادعاء والكذب والنفاق ، كثيرات منهن وقعن في اسر عالمهن الى درجة المتابعات القانونية ، وأخريات صرن بياعات للهوى مقابل شحن هاتف أو بمبلغ مالي يصلهن عبر تحويلات بنكية او حوالات بريدية .. لم تكن زهرة من الصنف الخيالي الواهم ، الذي قد يتعلق برجل عبر حديث عابر أو رسالة الكترونية ، أو حتى دعوة لغذاء أو عشاء ، فهي تعرف ألا رجل قد يزعم على الارتباط بها ،لأنها بلا ماض تليد، أو نسب عريق ، أو غني موروث ، ولا تملك غير جمال هو مايشد الرجال اليها ، وذوق في اختيار ما تلبس ، وهي ابدا لن تخضع لتلوث خلقي قد يرميها بين ثنايا حياة نتنة في مرحلة شبابها القصيرة ..قد لا تتنازل عن حقها لكنها لن تطمع الى مافي يد الغير وما في يد الغير غير مال حرام من أرباح فوق القانون ، وتزوير محاضر و فواتير ، ومزج بين سلعتين احداهما فاسدة ، وبيع أدوية منتهية الصلاحية ، وغش في البناء والتصاميم ، ورشاوى تطول كل حركة بيع وشراء ... فقد عرفت الكثير من أسرار ما امارسته من مهن منذ تخرجها ؛ كانت تريد أن تمتليء بشحنة عاطفية حقيقة ،لايهم من اين تتداعى عليها لكن أن تحققها برغبتها وارادتها ، بالحس الجمالي الذي يسكنها والذي تريد ان يحيط بها ، في مسكن يكون لها ،وأثاث هي من يقتنيه بذوقها ، وهندام يعكس اختياراتها ، بل وعلاقة حب لاتكون نزوة عابرة وانما مصلحة مشتركة موثقة لن تكون فيها تبيعة مسلوبة او عنيدة متنطعة البعض ممن درسن معها من الوصوليات صرن مديرات مقاولات وسياسيات لايغيب لهن وجه من وسائل الاعلام ، في حين ان البعض الآخر متزوجات يتشربن عبودية البيت وتربية الأبناء وقهر الأزواج ، وغيرهن مطلقات قانعات ببيت الابوة أو متسكعات في الشوارع .. ..وداهمها حلم ليلي يتكر ر ليلة بعد أخرى ، ترى نفسها صغيرة من أيام الدراسة الابتدائية والدها يركب فيلا و يقول لها اتبعيني .. لاتلبث أن تركب الفيل خلف والدها ثم تجد نفسها تشق جبلا وكأنها تعرف وديانه وفجاجه حتى اذا صعدت القمة وجدت نفسها وحيدة بين أكوام من الذهب والفضة ... درست الحلم ،حللت وتعمقت وفي الأخيرة أدركت المعنى ... في حرفة أبيها لن تكون مغلوبة ، عزمت ، خططت ثم نفذت ... أتقنت بذوقها كيف تتخفى وراء حقيقتها ، كيف تكسب مالا يوميا لم تكن تربحه من كل الأعمال التي مارستها بعفة وطهارة نفس ، اخترعت معينات ووسائل تحقق بها أمان نفسها من لصوص وأطفال الشوارع الضائعين ، لم تكن منبهرة من دخلها اليومي عن طريق التسول فهي تعرف أن ما يكسبه اليوم كل متسول هو أكبر بكثير من دخل أي موظف بشواهد عليا ، فقد استطاعت تأثيت الشقة التي اشترتها من صاحب العمارة ، وصارت لها سيارة أنيقة ، كما اشترت شقتين أخريتين في عمارة قريبة منها . أمنت بكرائهما المرتفع ما يكفيها في باقي حياتها .. نهضت زهرة من نومها مع وقت الظهيرة ، اغتسلت ، تناولت بعض الفواكه ثم فتحت خزانتها الحديدية ، أخرجت ما فيها ، شرعت تحسبه ، فترتب الأوراق مع الأوراق والقطع مع أخواتها حسب قيمتها ؛قبلت يدها ظهرا وبطنا ، تحرك في صدرها حنين الى طفولتها ، الى أمها وابيها ، الى كل ما حلمت به في صباها وشبابها ، فتركت لعينيها حقا من الدموع بعد فرحة غمرتها ؛أطرقت قليلا برأسها الى الأرض ثم قالت لنفسها: أخيرا أكتشفت حزن أبي وما عاناه من أجل راحتي وحياة والدتي ، كان حزنه هو الإنسانية التي كان يغمر بها عشنا الصغير الحقير ، راضيا بقهر التسول ومذلة النفس ، ربما تلك المذلة منه والصبر والجلد من أمي هو ما هذب نفسي وعلمني الصبر والاحتمال فارتقيت بعواطفي وخلقي وذوقي مع كل من تعاملوا معي بسوء ظن وطمع واحتيال ؛ كنت صارمة في طيبة ، عقلية بقلب يحس ، كنت كمذاق الحياة لكن بلا نفاق ولا شر .. نلت كل ما أريد وفوق ما أريد، فنعم من الهمني حلم الفيل ، وأحمد الله اني شققت طريق الجبل بجهد واتقان وربح عميم ؛منذ اليوم لن تكون في الحياة غير زهرة التي تراقص الشمس، وقد استفاقت اماني طفولتها ..عانت ،لكن لم تنم في داخلها فضيلة الانسان ..قصدت خزانة الحمام المرمرية ،لملمت كل مافيها ، وضعته في كيس ،ثم نزلت به الى صندوقة سيارتها استعدادا للتخلص منه ..
#محمد_الدرقاوي (هاشتاغ)
Derkaoui_Mohamed#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اسألوا جانيت مربيتي (2)
-
اسالوا جانيت مربيتي (1)
-
لا رحمة في ليلة عشق
-
استنبات
-
هل أنا لديك اكتفاء؟
-
بلا اثر
-
الثعلب
-
بداية سمفونية
-
العرافة
-
حبي ليس نزوة
-
الله يرحم عمي سليمان
-
رسالة مخفية
-
جدتي
-
أهواك
-
أرض خصبة لم تكن موعودة
-
احزاب...ولكن
-
لبيته لن أعود
-
نملة
-
جف في بيتكم زمزم
-
العدة وقلة القبض
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|