أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر















المزيد.....


أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر


عادل عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 6505 - 2020 / 3 / 3 - 16:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أدونيس
معالجات الناقد الأدبي
لموضوعات المفكر

عادل عبد الله

يحيلَنا مصطلح ( النقد الأدبي ) من حيث مرجعيته ، الى ملَكتين من ملكات العقل البشري، هما ، ملكة التفكير وملكة التخييل ، أو القوة المفكّرة والقوة المصورة كما يسميها ابن عربي. ذلك لأن القوة الأولى - ملكة التفكير – وقرينها من المصطلح كلمة ( نقد ) هي مصدر الأحكام التحليلية والتركيبية التي تضمنتها العملية النقدية بوصفها ( نشاط معياري يتضمن الحكم، سواء اكان هذا الحكم سلبيا – النقد كإدانة - ام كان هذا النقد تفسيرا، اي بحثا عن الحدود الايجابية للأثر ) كما يقول بيار ماشري في تعريفه للمفاهيم الأولية.
اما الملكة الثانية - ملكة التخييل - وما يمثلها ويشير الى عملها في المصطلح هو مفردة ( ادب ) فهي المبدأ المتعالي لكل انتاج ادبي، ومن هنا كانت الاحالة اليها ممكنة. لكن، من دون أنْ نعني بهذا القول أنّ ثمة انفصالا ما، بين ما تعنيه هذه الكلمات، ومن اي نوع كان ، لأن الذي نريد ان يكون له المعنى هو ، إرادة القول بمرجعية ودرجة انتساب نوع كتابي ما الى احد هذه الملكات بحيث يسمح بالقول عنده، بمرجعية الشعر الى ملكة التخييل ولا يسمح بصيغة القول المعاكس، أي بمرجعية التفكير الى المخيلة، او الشعر الى ملكة التفكير، لكن مع التأكيد مرة اخرى على مبدأ امكان التداخل وعدم الانفصال.
مع وضع هذا القصد حاضرا في الذهن، دعونا نطرح السؤال الان عن اهمية، المكانة والنوع المعرفي الذي يمثله هذا المصطلح من حيث درجة تمثيله الى الملكتين اللتين خرج عنهما وتمكن من ان يلتقيهما بنفسه.
يمكن القول دونما حرج، بأنّ ثمة فارقا ما واضحَ المعالم، بين الناقد الادبي والمفكر، مثلما يمكن القول وبالثقة ذاتها، أنّ ثمة فارقا اخر بين الناقد الادبي والشاعر فما هي طبيعة الفوارق هذه؟ وكيف يتسنى لنا اجراء عملية التمييز هذه وما المسوغ لها ؟
يمكن القول إنّ التوغل في العلمية النقدية وحدها هو توغل في ملكة التفكير، ينتهي الى مرجعية تسمح بالقول، بأنّ الشخص الذي يعمل على وفق مفردات هذا المبدأ، هو مفكر وليس ناقدا ادبيا ويمكن التمثيل لهذه القضية بالفيلسوف الالماني ( كانط ) حيث تعدّ فلسفته بكاملها من الاعمال النقدية ، نقد العقل وفحص آلة المعرفة.
اما التوغل في العملية الادبية وحدها، فهو توغل في ملكة التخييل، استخدام وتمثيل لنوع عملها، ينتهي ويسوّغ القول بتسمية العامل على وفق هذا المبدأ شاعرا، بعد توفر القصد في عمليته الأدبية. اقول شاعرا، وأعني تمثيل الشاعر لمجمل العملية الادبية بكل تنوعها، لأنّ الشعر هو، مركّب الفنون أولاً، ولأنّ الشاعر هو رمز تمثيل العمل الادبي بأوضح واعلى اشكاله.
فإذا كان الأمر كذلك فستستمر الاشارة الى الادب بهذه الطريقة وعبر تفاصيل هذا البحث كله.
إنّ السؤال هنا هو ، ما علاقة النقد الادبي بهاتين القوّتين – التفكر و المخيذلة - من حيث درجة توغله فيهما خلال كتابة - الناقد الادبي لنصه النقد - الادبي لنصّه؟
يبدو أنّ الناقد الادبي لم يتوغل في الملكتين عميقا، أعني وفق النوع والمقدار الذي يسمح بخلع احدى التسميتين عليه، أعني شاعرا أو مفكّرا، لكن من دون ان يعني هذا التمييز اية قيمة معيارية لاي من اطراف هذه العلاقة ،
فالناقد الادبي، ليس مفكرا مثلما ليس بشاعرٍ هو، ليس مفكرا بمعنى انه لا ينظر الى الاشياء والعالم نظرة نقدية فكرية خالصة تنطلق من القوة المفكرة وتنجز عملها خلالها، وبما يؤدي في النهاية لأن يكون عمله من الاعمال الفكرية، فلسفة، نقدا فلسفيا، فكراً كشوفياً أو دراسة خالصة في مقولات أو مفاهيم منطقية، أو رؤيا فلسفية للعملية و للنصوص الادبية، كبعض أعمال جاك ديريدا مثلا، مثلما ليس الناقد الادبي - من جانب اخر - شاعرا، ينظر الى الحياة، الاشياء والعالم نظرة جمالية، حسية وروحية تنطلق من كونه شاعرا يستخدم المخيلة موظفا طاقتها التصويرية للتعبير عن هذه الرؤيا، وهذا هو فرقه عن المفكر الذي يستخدم القوة المفكرة للتعبير عن رؤيته.
إنّ الناقد الادبي رهين النصوص والمخيلة في عمله، النصوص التي يعمل عليها، والمخيلة التي تفرض عليه نوعا من التعامل لا يخلو من الفهم المؤسس على طبيعة المخيلة، الطبيعة التصويرية غير الذهنية المنطقية. في الوقت نفسه، هو رهن النقد - التفكير، الذي يفرض عليه اطلاق احكام ازاء هذه النصوص قيد الدراسة.
غير ان المفارقة التي أود الاشارة اليها هنا، هي ، أنّ ما يمثله الناقد الادبي في طريقة تعامله مع الفكر، كماً ونوعا، لا تسمح بتسمية مفكرا، مثلما لا تسمح كمية استخدامه للمخيلة ونوع هذا الاستخدام بتسمية شاعرا.
انه ليس مفكرا، بسبب من كونه مشدودا الى النصوص الأدبية، وما تمليه عليه من عطاء، تلك المخيلة الدفينة في النص الأدبي، وهو ليس شاعرا، لانه مشدود الى العملية النقدية التي تستمد من ملكة التفكير عملها.
انه ليس شاعرا خالصا، يغيّب الملكة النقدية والتفكير، اي يدسّ رؤيته الى العالم، علاقته بالأشياء والوجود، نقده اليه والتفكير فيه داخل القصيدة، حيث تكون تلك الأشياء كلّها، و بالضرورة منظورا اليها من ناحية المخيلة وحدها، ذلك المفاعل العظيم الذي يسخّر علاقاته بالعالم كأدوات ووسائل لبلوغ غاية محددة سلفاً، هي القصيدة، مثلما هي وسيلته الوحيدة وآلة تنفيذه.
وهو ليس مفكرا خالصا ، محترفا، يستخدم المخيلة - بمقدار ما - الحدس ، الفطرة الاولى، لإتمام عملية التفكير لديه، ثم ياتي دور الفكر بعدها للمقارنة، التحليل، التركيب، الاستنتاج والاستقراء.
من هنا يمكن القول بإمكان أنْ ينظر الشاعر الى العالم، يفسرّه، يحتويه ويفهمه من خلال كونه شاعرا حسب، وهو امر حادث حين يوظّف الشاعر ملكة التفكير لديه مطوعا اياها لقصيدته ومغيبا حدتها وطبيعتها الجافة في عمل المخيلة الجمالي الواسع، مكتفيا بهذا الفعل الخلاق الذاتي لرؤية الحياة والعالم واحتوائه جماليا.
مثلما يمكن القول - من جانب اخر - بإمكان أنْ ينظر المفكّر الى العالم والاشياء من خلال عقله وملكة التفكير لديه، محللا ومركبا ،مستدلاً ومستقرئا في عمل من اعمال الفلسفة، أو فكرة من الأفكار الكبرى، وهذا هو الامر الذي يشترك فيه المفكرون، والذي هو عمل الفلاسفة حقا.
لكن، هل يمكن القول بإمكانية النظر الى العالم من خلال كائن انساني يحمل صفة ناقد ادبي؟
اذا كانت الاجابة عن هذا السؤال ممكنة، وهي ممكنة ومشروعة حقا، فان المهم لدينا هو السؤال عن نوع هذه النظرة التي سيفهم الاشياء والعالم من خلالها وما هو فرقها عن طبيعة كلّ من نظرتي الشاعر والمفكر؟
إنّ امكانية القول بمرجعية هذه النظرة الى بنية وعقلية الناقد الادبي، امر مقبول بذات الطريقة التي نقبل بها امكان ارجاع نظرة الشاعر الى المخيلة وطريقتها الجمالية في النظر الى العالم من جهة، وبذات امكانية ارجاع نظرة المفكر الى العالم ونسبتها الى القوة المفكرة بما تحتويها من علاقات منطقية سببية تحكمها الضرورة والشمول، وليس الجمال والمصادفة كما هو الحال لدى الشاعر.
غير ان للمسالة جانبا آخر اكثر اهمية ينبغي تناولها من خلاله.
قبل أنْ اشرع بتركيب واعادة كل هذا الذي قيل بنقاط موجزة سبيلا الى نقل الموضوع الى لحظة اخرى، اود الاشارة الى حقيقة غائبة، غاية في الاهمية، مفادها :
إنّ الناقد الادبي هو العنصر الوحيد بين اطراف العلاقة التي نتحدث عنها - الشاعر ، المفكر ، الناقد الادبي - الذي توجد في عمله اشارة ، احالة ، او شيء من الاخر، حيث انه يستمد عمله من مصدرين ، الاول منهما: هو : ذاته حيث يطلق احكامه ويكوّن نصه الخاص به، أمّا المصدر الاخر، فهو النص الذي يتعامل معه والذي هو اشارة واضحة الى حضور الاخر في عمله، حيث لا نجد مثل هذه الآخرية حاضرة بمثل هذا الوضوح لا في عمل الشاعر ولا في عمل المفكر، حيث يستمد الشاعر كامل عمله من ذاته وهي تتمثل نفسها والاخر في عمل المخيلة الخلاقة، ويستمد المفكر كامل عمله من ذاته ايضا بوصفها قوة مفكرة تفسر العالم وتحتويه.
قلنا، إنّ الناقد الادبي، ليس شاعرا، وليس مفكرا ، ليس شاعرا، لأنّ عمله مختلط بالنقد ، الحكم، التفكير، القرار ومشدود اليهما ابدا، وليس مفكرا لأنّ عمله مختلط بالأدب والتخيل، مشدود الى ادبية النصوص.
ليس الناقد الادبي جامعا لهما على نحو كامل، متصفا بحيازته لملكتين خالصتين يحتويهما معا في عمله الابداعي، لان ادعاء كهذا، يعني كونه انسانا متفوقا، خارقا في قدرة التعامل مع ملكاته البشرية وطريقة استثماره لهما، مثلما يعني امتياز استخدامه لملكة التفكير الفلسفي الى الاداء الشعري الخالص، الامر الذي لم يتسن لمبدع ان يحظى به ويختص في ندرة انتاجه الا في نماذج تحاول بلوغه، بقصد منها او بغير قصد، كهيراقليكس، أفلاطون و نيتشة، مثلاً .
إنّ النظر الى العالم وفهمه من خلال الانشطة الكتابية والثقافية ممكن من خلال أنْ يكون المرء شاعرا، او من خلال النموذج الاخر لفهمه، اعني أنْ يكون الانسان مفكرا او من خلال وحدة النموذجين، وهذا امر ممكن على قلته أيضا.
اقول كل ذلك، واستثني العوام من الناس واصحاب النظرة السليمة، لان العالم بالنسبة للمثقف، قضية معرفية في المقام الاول.
اذن ، وبعبارة صريحة مغايرة، إنّ الناقد الادبي يصلح لتمثيل الفكر / النقد في حيز النصوص الادبية، مثلما يصلح لمزج الخصيصة الابداعية للعمل الادبي باضاءة فكرية ، لكن ضمن المكان نفسه، وضمن نوع العمل ذاته، اعني اننا لا نستطيع النظر الى العالم، الاشياء الموجودة والمفاهيم الفكرية الكبرى من خلال كوننا نقادا ادبيين، لأنّ هذا المكانَ المرصدَ لا يصلح لمهمة كهذه، فإن افترضنا تحت نوع من الضغط والتعسف صلاحيته، فإنّ هذه النظرة الى الاشياء والعالم ستكون مشوبة ممثلة لطبيعة المكان الذي تمت رؤية العالم منه، اعني نظرة الناقد الادبي وليس الشاعر او المفكر.
لكن هل لكل هذا الذي تقدم من علاقة ما بعنوان بحثنا، اي بأدونيس ؟ ان الاجابة عن هذا السؤال ،سيتكون، وبالتأكيد كلّه : نعم ، هي علاقة وثيقة ، ومفادها القول :
إنّ ادونيس ، الشاعر، وفي كل "أعماله النثرية " ينظر الى العالم، الحياة ، الأشياء، الوجود، الدين، السياسة ، المجتمع، اللغة ، الحقيقة،... من خلال كونه شاعراً، يتمثل هذه المفاهيم، طارحا رؤيته الذاتية اليها من خلال القصيدة وحدها و لا بأس في ذلك، غير أنه وفي الوقت ذاته، يعمد الى معالجات تلك الموضوعات ذاتها من خلال كونه ناقداً أدبياً وليس مفكرأ، واحسب ان الاخفاق المعرفي الذي لحق بكتابات ادونيس النثرية كلّها، إنّما كان معلولا بهذه المفارقة وحدها، مفارقة النظر الى الموضوعات الفكرية الكبرى، المفاهيم ، والبنى التي تستدعي معالجات فكرية فقط، بنظرة الناقد الادبي وليس المفكر، وانها لدعوة تستحق القبول لمن يريد ذلك ولمن تهمه دراسة اعمال ادونيس النثرية وفق هذا المنظور المعرفي الذي تحدثنا عنه.

الشعري / الفكري / النقد - أدبي

اذا كنا لا نستطيع ان نسمّي عمل هيغل الجمالي بجزأيه المتعلقين بدراسة ( فن الشعر ) عملاً من اعمال النقد الادبي، وباي معنى من المعاني، فما هي الضرورة التي تمنحنا مثل هذا الاعتقاد واليقين ؟ أحسبُ أنّ معرفتنا المسبقة بكون هيغل فيلسوفا، مفكرا كبيرا وليس ناقدا ادبيا ، ليست على وجه الدقة هي السبب في تكوين مثل هذا الاعتقاد، ذلك لاننا سنخلع نفس الصفة ( عمل فكري ) على هذا العمل الجمالي حين التعرف عليه عاطلا عن اسم مؤلفه، إذن، فثمة اسباب اخرى يحملها العمل بذاته، هي التي تمنحنا مثل هذا الاعتقاد تجاهه، منها وضوح المعالم التي خرج من مكانها، اعني اشارة العمل الى الملكة، والحيز الفكري، والبنية المعرفية والمرجعية التي صدر عنها، من خلال كمية الفكر المبثوثة فيه، نوع الرؤيا الى الشعر، كليتها، وحدة العمل وتماسكه بما لا يسمح بإنشاء متعدد لفهمه، نموه في مسار تاريخي مترابط ، ثم عنوان العلة التي بدا منها والغاية التي سعى الى بلوغها بخطواته المنطقية الوثيقة، كل هذا يدعونا الى القول باطمئنان ، باطمئنان: واضع هذا العمل هو فيلسوف ، مفكر ، وليس اناقداً دبيا او شاعرا حتى، لأنه عمل في فلسفة الجمال وليس نقدا ادبيا لرؤية الشعر جماليا.
حتى اذا انتقلنا الى مثال اكثر عيانية في طرحه، اعني دراسة هيدجر لهولدرلن، تساءلنا عن الإمكان والحق الذي يسوغ لنا نعت هذه الدراسة بكونها نقدا ادبيا، اعني، أنجرؤ حقا على منح صفة ( نقد ادبي ) لهذه الدراسة دون تعسف منا وقلة فطنة وبصيرة ؟
ازعم أنّ أحداً منا لا يسمح بادعاء كهذا، لأنّ هذه الدراسة هي بحث فلسفي لمفكر في ماهية الشعر، من خلال رؤية شاعر لها، يفهم هذه الماهية، يحاورها ويعبر عنها في قصائده ذاتها.
اذن فهي المعالجة الفكرية لماهية الشعر، حضور عناصر التفكير بكل رموزها ، التحليل، الاستنتاج، الاستقراء والتأويل من اجل حوار شاعر يعبر عن ماهية الشعر شعرا، ذلك فضلا عن ان هذه المعالجة لا تخرج في سياقها المعرفي عن مجمل فلسفة هيدجر التي تسعى الى اضاءة الكائن من خلال كينونته.
اذن فهي المرة الاخرى التي نتمكن من خلالها التفريق بين نص الناقد الادبي ونص المفكر بالرغم من عمل الاخير في مفاهيم واماكن الاول.
العلاقة التالية التي سأشير اليها بين علاقات نوع النص، نوع كتابته وطريقة تناولها، هي علاقة ( سارتر ) بنص ( بودلير ) ، هذا النص الذي يمكن القول بهدوء عنه بانه نص يجمع الفكر الى النقد الادبي في مساواة فريدة حيادية واضحة، وربما يكمن السبب في هذا الى كون سارتر نفسه يجمع الصفتين ذاتهما، اعني كونه مفكرا متميزا واديبا كبيرا ايضا.
العلاقة الاخرى التي نعتقد موافقة القارئ على طرحها هي علاقة ( اليوت و ( مكلش ) بنصوصهما النثرية، اعني امكانية نعتها نقدا ادبيا دون حرج بالرغم من كونهما شاعرين مهمين متميزين.
هنا سننتقل الى نموذجين اخرين من هذه العلاقات يحملان صفات من تلك التي مر ذكرها، هما نموذجا بودلير ومالارميه في نصوصهما النثرية. في فراديس بودلير الاصطناعية ثمة عمل نثري نقدي مكتوب بطاقة الشعر ذاتها، الطاقة التي تبدو في اعلى لحظاتها متحايثة في مكان واحد مع الفكر، لتنتج افكارا / شعرا، وهي لا تنتمي الى الفكر بالرغم من وضوح الافكار فيها، اعني انه النص الجمالي الذي يسمح بالقول بوجود مقولات شعرية، لوغوس روحي خاص ، لا يمنح نفسه إلاّ للرائين الكبار الذين وهبوا انفسهم لخدمته. اذن فنحن ازاء نص شعري طاغ بافكاره، لا يسمح بتسميته فكرا رغم وضوح الافكار فيه، الامر الذي يقابله بالضد منه والمغايرة النوعية له نص هيغل، من حيث كونه فكرا يتوغل في كل اسرار صناعة الشعر وعلاقته الباطنية، لكشف لوغوسه الروحي العميق، لكن دون السماح لنا بتسميته شعرا.
النموذج الاخر الغريب، هو نص مالارميه، النص الذي يشتبك فيه الشعر والفكر على حد سواء، ذلك لأنّ مالارميه مسكون بإرادة التعبير عن ذاته، عن فهم هذه الذات للاشياء والعالم دون أنْ تكون معنية بنوع التعبير هذا ، شعرا أ كان ام فكرا، حيث يمكن العثور في نص مالارمية الشعري على افكار لها من العمق المعرفي ما يساوي في قيمته الفكرية طرح مفكر محترف، الامر الذي دعا جاك دريدا وسواه من المفكرين الى الاعتماد على بعض ابياته الشعرية وتوظيفها فكريا. مثلما هناك - من جانب اخر - افكار واداء شعري عال في كتابته النثرية التي لا يمكن ان تسمى نقدا ادبيا باي حال من الاحوال.
السؤال هنا، اين يمكن ان نضع وبصورة صحيحة لا تعسف فيها نص ادونيس النثري من بين كل هذه الانواع والعلاقات التي تحدثنا عنها ؟
بما اننا لا نستطيع ان نسمّي ادونيس في اعماله النثرية ، غير الشعرية ، بذات الطريقة التي سمّينا بها نص هيدجر عن هولدرلن او نص هيغل في ( فن الشعر ) فلابد لنا من ايجاد تسمية ما اليها، تخص نوع نصه وعلاقته باعماله ، من جانب. ثم لما كانت عنوانات اعماله وموضوعاته - من جانب اخر - تحمل صيغا فكرية تستلزم ان يكون المعالج لها مفكرا، اصبحت ضرورة ايجاد مثل هذه التسمية ملحة اكثر.
بعبارة اكثر وضوحا ، اذا اهملنا مؤلفات ادونيس النثرية التي يبدو فيها ناقدا ادبيا يعالج نصوصا ادبية ، ماذا يمكن ان نسميه في مؤلفاته الاخرى التي تفترض تناولا فكريا وتتخذ موضوعات من هذا النوع لها ؟
"الثابت والمتحول" – "النص القرآني وافاق الكتابة" – " الصوفية والسريالية" ... الخ، أ كان ادونيس في هذه الموضوعات التي تفترض التناول الفكري، مفكرا حقا؟ ام كان نوع حضوره فيها ومعالجته اياها يمثل شيئا اخر لا يمت الى المفكر بصلة؟
اذا أردتُ أنْ أدوّن مؤلّفا ما، في مفهومي الزمان والمكان ، او في نقد مبدأ الهوية، او في الانطولوجيا الظاهرية، او في شرح مقولات ارسطو، فاما ان أكون ناجحا في نهاية البحث، قادرا على معالجة الموضوع فكريا وبطريقة جديدة تضيف الى تاريخ بحث تلك المفاهيم شيئا جديدا، فاستحق حينئذ تسمية مفكر دون فضل من أحد ، وإمّا ان أفشل في اداء النوع الذي تستلزمه مثل هذه الموضوعات وبمقدار يخرجها عن ان تكون كتابة في الفكر، فاستحق حينئذ تسمية سواها. هذا هو واقع و تاريخ الحال.
هنا سيكون السؤال مباشرا هذه المرّة ،
أيمكن ان نسمّي ادونيس في كتابه "الثابت والمتحول" او في كتابه "النص القرآني" او في كتابه "الصوفية والسريالية "، مفكرا ؟ هذه التسميات التي تستدعيها العنوانات، الموضوعات الفرعية ، التفاصيل والعلاقات بين هذه المفهومات المعالجة؟
فالثابت والمتحول عمل في الاتباع والابداع العربي، من حيث البنية السياسية، الاجتماعية، الدينية، الشعرية، الاقتصادية، انه عمل أر كولوجي، حفر - معرفي، على طراز معالجات فوكو ، ومحمد عابد الجابري ايضا الاول في كل مؤلفاته، واخص من الاخر، كتابيه بنية العقل العربي ونقده. اقول اذا كنا نتمكن دون حرج امن ن نسمي اعمال فوكو الحفرية ، اعمالا فكرية، لا، لمعرفتنا المسبقة بكونه مفكرا، بل لاننا وجدناها فكرية بضرورات انتاجها ومرجعيتها وغاياتها، فهل نستطيع تسمية الثابت والمتحول ، عملا فكريا بذات الطريقة الآمنة والدقة التي نسمّي بها ونسم اعمال فوكو بهذه الصفة الفكرية بغض النظر عن مسألة الاتفاق على نتائجها المعرفية؟
اهو أعني - الثابت و المتحول - عمل من اعمال الفكر حقا؟
ام انه مجموعة موضوعات فكرية، معالجة كتابية من قبل ادونيس، تم له إنجازها من خلال كونه ناقدا ادبيا، اي من خلال مرجعية معرفية اسمها النقد الادبي، في حين كان الأمر يستلزم مرجعية معرفية اسمها الفكر والعقل سبيلا لاحتواء الموضوعات المطروحة بما تستحق من نوع المعالجة؟
اقول النقد الادبي، ولا اعني وحدة النقد والادب ، وحدة الملكتين الخلاقتين ملكة التفكير وملكة الخيال جدليا، بل اعني بالنقد الادبي - هنا - الحياد المعرفي ، منطقة الأعراف بين الفكر والادب، بين ملكتي التفكير والتخيل، الاولى بمسؤوليتها عن انتاج الأفكار، الاعمال الفلسفية، والثانية بمسؤوليتها عن انتاج الشعر، الادب والفن .
اذن فهي المنطقة التي تعتاش ، تستمد انتاجا من جود الملكتين، وتعمل في مكان محدد لا تستطيع مغادرته ، انه حيز النصوص الادبية بكل ثراء هذه النصوص ، تنوعها، وقدرتها على انتاج نص مغاير من خلال لغة النص الاول كما يقول فوكو، او من خلال تمثيلها النص الادبي واقامة العلاقة معه وفق مبادئ الاختيار ، الحكم والشرح؟
وهنا لا بدّ لنا من الإشارة الى ان مثل هذا الكلام لا يمكن عدّه مناسبة الى طريقة فهم سيئة يمكن تأويلها لجهة الإساءة الى مكانة الناقد الادبي ولا الى عمله المبدع.
نتوصل هنا الى ان المنطقة الحيادية المفترضة التي لا يمكنها بما لديها من الانتساب لا الى الفكر الخالص - كنص - ولا الى الشعر الخالص ايضا، يمكن تحليل بنيتها، وصفها ، تحديد طريقة عملها وآليته بحيث تبدو مستقلة مكتفية بذاتها رغم اخفاء مصدريها ، او قدراتها على حجب المصدرين وبما تبدو انها قادرة على العمل وحدها، وبالطريقة الآتية :
سأقول أولاً، إنّ هذه المنطقة، منطقة الناقد الأدبي هي، منظومة افكار محددة بديلة ومنسوخة عن الفكر ذاته، لكن بنوع من الفرق هو، ان الفكر الذي لا حدّ له في انتاج افكاره وفي مقدار توغله في ذاته - لأنه حرية كاملة لا متناهية، لا يجد له ما يناظره - اثناء عمله - ، في هذه المنطقة النقد أدبية. فهي محددة بأفكار مرجعية، احكام منطقية نهائية، قناعات ثابتة غير مبرهنة ولا تملك قوة اقناعها، انها لا تسمح لنفسها بالتوغل أبعد منها، اي بالعبور الى منطقة التفكير الحقيقي حيث يتم انتقال الراي ويتحول الى اقناع،
بعبارة اخرى ان لهذه المنطقة مرجعياتها المتعالية الخاصة، مقولاتها وبديهياتها، وقائعها الاولية الخاصة بها والتي تسوغ لها طبيعة عملها، اما نوع اللغة المستخدمة في هذه المنطقة من حيث علاقتها بالأخر وفارقها عن الجملة التي تنتجها ملكة التفكير، فهي ان الجملة في هذه المنطقة ، هي جملة الراي حسب كانت - الجملة المشوبة بالذاتية والمعبرة عن عدم كفايتها موضوعيا ، انها الجملة المفتقرة الى طاقتها المنطقية - بالرغم من سعيها لذلك كونها تتوخى الحكم - التي تتمكن به من اقناع الاخر برهانيا ، بذات الايمان الذاتي والقناعة التي يحظى بها كاتب تلك الجملة، بل انني سأمضي الى الافتراض بان ثمة لغة خاصة موجودة فعلا استطاع الناقد الادبي خلقها بين النقد الادبي كجنس ادبي وبين قراء الادب انفسهم، ثمة لعبة ابداعية تم الاتفاق على قواعدها بحيث لا يكتفي القارئ الادبي بالاستجابة الذاتية العاطفية الى نص الناقد الادبي، بل انه ليمضي الى الدفاع عنه من خلال المنطقة / الذائقة النقد - ادبية التي لديه ، المنطقة المنفعلة كاستجابة ورد فعل لحركة اولى انتج الناقد الادبي نصه من فضائها، النص الموجه الذي صدر عن منظومة معرفية شبيهة.
بقي ان اقول بان القسم الثالث من هذه الدراسة سيتعرض الى كتاب ادونيس ( النص القرآني وآفاق الكتابة ) في فصله المعنون - اللغة والحقيقة - بوصف هذا الفصل عينة تطبيقية لما تم الذهاب اليه من معالجة ادونيس للموضوعات الفكرية من وجهة نظر الناقد الادبي.



#عادل_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دولُ الورق، بين الفكر و السياسة
- (العودُ الأبدي - إرادةُ القوّة ) قراءة في البُعد الأخلاقي لف ...
- الجابري - طرابيشي بحثٌ في حوار المروّض و الأسد
- فضائح العقل الملحد - خيمةُ الزواج و خيمة داوكنز
- بائع الإلحاد المتجوّل - سبعة مداخل نقدية لكتاب - وهم الإله - ...
- بائع الإلحاد المتجوّل - سبعة مداخل نقدية لكتاب - وهم الإله -
- هل الإلحاد موقف معرفي أم أخلاقي ؟
- فضائح العقل الملحد - دراسة في تهافت الحجج العلمية و الفلسسفي ...
- مرثية الشعر لنفسه
- أسوة بالرياضيين عندما تنضب مواهبهم، لماذا لا يعلن المبدعون ا ...
- الشعر و التصوّف ، تكامل أم ممانعة ؟
- الصوفية و السريالية، مساواة أدونيس الجائرة
- إنتحار واقعي في عالمٍ افتراضي
- صراخ على جبل ( إتنا)
- في النصوص الميتا - شعرية، نهج البلاغة نموذجا
- المثقفون و المجتمع في دكتاتوريات العالم الثالث
- الذين يقرأون و هم يركضون - بحث في تشويه الدرس العربي لشخصية ...
- فضائح الفكر العربي المعاصر- قراءة جديدة لكتاب الاسلام و أصول ...
- إعتراف
- الموت والوجود - تأملات في مفهوم الكائن الحي و النقيض له


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر