|
أنا اُوسلفي إذا أنا موجود: هل من معنى للعقل والتفكير؟
علي الظاهري
الحوار المتمدن-العدد: 6494 - 2020 / 2 / 18 - 20:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أنا اُوسلفي إذا أنا موجود، هو في الأصل ترجمة عن كتاب، je selfie donc je suis لكاتبتهElsa Godart . بدا العنوان في صيغة المؤنّث، وكأنّ هنالك إشارة إلى أنّ الجنس الأنثوي، يبدو أكثر استعمالا للسيلفي من الذكور. ولكنّ الحقيقة في طيّات هذا الكتاب، تُظهر أنّ الكلّ أصبح يهتمُّ بالسيلفي. نحن إزاء عالم جديد، أو بالأحرى نعيش مرحلة "السيلفي " كما تقول الزا غودار "فليس العالم هو الذي تغيّر بل طريقة إدراكنا له هي التي تغيّرت". أعتقد، أنّ هذا الكتاب مُهمٌّ، من حيث جِدّته وطرافته، وما يُحيل عليه من مفاهيم ومقولات جديدة. نحن إزاء "زمنية اجتماعية جديدة" تطغى عليها الشبكة والتشبيك والشبكات الاجتماعية. زمن الانترنت الرقمية ووسائطها الاتصالية، التي تمكّنت منّا، وأصبحنا في شباكها وقيدها. ما يثير الانتباه – حقّا- هو أنّنا، رغم كلّ هذه الوسائط التي تُتيح الاتصال، عبر أيّ نقطة في العالم، وتُكثّف من أساليب اللقاء الافتراضي، إلاّ أنّها تزيد من وحدانيتنا وعزلتنا. نحن نعيش على وقع السوائل وإيقاعها، كما تحدّث عن ذلك باومن في الحداثة السائلة، والحب السائل، والخوف السائل، والوجود الممتد في سيولة لا تتوقف....ولعلّنا – ألآن- إزاء سيلفي سائل... سيلفي هو الآخر، مُمتدّ في سيولة لا نهائية... وأنت تجوب العالم عبر شاشة رقمية، تجدك أمام سيلفيات، تفرز صورا وظلالا وألوانا وأطيافا، من كلّ القارات، ومن كلّ الأجناس والأعراق. قد تختلف المهارات والتقنيات في إبراز الصورة"السيلفية" ومُحسّناتها، ولكنّها تخرج – كلّها- في الأخير عبر هذا العالم الافتراضي. "سيلفي" من كلّ الزوايا: من فوق ومن تحت، من أسفل ومن أعلى، من الأمام ومن الخلف، وفي كلّ الاتجاهات، وعبر حركات ولقطات عديدة: مُقرّبة وبعيدة، مُصغّرة ومُكبّرة. عبر سيلفي مُحسّن، قد لا تعرف أقرب النّاس إليك، بل أنت نفسك، قد ترتقي في جمالك إلى أبعد حدّ، والعكس صحيح، وفي لباس – أنت- تحلم أن تراه، وإذا بك ترتديه وفي أبهى حُلّة. إنّه واقع مفتوح على كلّ شيء، بل عبر السيلفي المُفبرك، أنت التونسي - مثلا- تستطيع أن تكون الياباني صاحب الأعين المُميّزة. أحلام أو أوهام، إن شئنا أو شئتم، تُمرّر عبر سيلفيات في أزمان وأماكن من صنع الخيال والافتراضي. إنّها الحقيقة الافتراضية، التي تُسجّل حضورنا، وحضورها، في كلّ تفاصيل الحياة: أفرادا ومجموعات... الاختلاف، لم يعد دالاّ، حين يتعلّق الأمر بالوسط الاجتماعي الحقيقي، كما يعتقد كثيرون، بين وسط ريفي ووسط حضري. عودا إلى موطني- بلدتي الجميلة "بودرياس"– حين أجوبها وأريافها، أجدني أمام استخدام لا حدّ له، بل لعلّه يفوق ما ألاحظه في تونس العاصمة، الوطن الأصل. في قريتي، الكلّ - بمعنى الأغلبية- يمتلك أحدث الأجهزة، وباهظة الثمن، من هواتف محمولة وحواسيب وبلازمات "آخر صيحة" وغيرها ...أتساءل –أحيانا- لعلّ ذلك له علاقة بالحدود مع الشقيقة الجزائر، كونها تختصّ ربّما بصناعة الإلكترونيك وكلّ الوسائل الاتصالية المُتطوّرة. أستنتج، أنّ هذا، ليس سببا كافيا لوحده. المثير للانتباه، أنّ الكلّ يتحدّث عن "الفايسبوك" بما في ذلك الشيوخ: من النساء والرجال، فضلا عن الشباب والأطفال. الكلّ يتحدّث عن تواصل عبر هذه الشبكات الاجتماعية، المستخدمون لها، والذين لم يستعملوها ولو مرّة واحدة في حياتهم. إنّها دينامكية، وحركية حيّة، تجعلك في المكان والزمان، مهما بعد أو اختلف، وفي الآن ذاته: أنت خارجه. هذا واقع لا مفرّ منه، وهو فيض في اتصالات وتشبيك، يأخذ من حياتنا، زمنا ومكانا، وخيالا افتراضيا لا حدود له. هذا الواقع، لا يمكن أن نستثني أنفسنا منه، نحن العرب، فكلّ التصنيفات والتمايزات، في هذا الواقع الافتراضي، تُصبح غي واضحة وملتبسة. لا معنى "لنحن" و"هم" في هكذا تكنولوجيا، وهكذا "ثورة رقمية". لعلّ واقع الاستهلاك، يختلف –كمّا- من مكان إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، لكنّ واقع التكنولوجيا- كيفا-، هو واقع ثورة تخطّت الحدود وعبرتها. تخطي–الحدود، قد تبدو مقولة ملتبسة، في أذهان الكثيرين منّا، لكنّها "حقيقة اجتماعية" و"واقعة معاشة". تدرك عبر حيثيات اليومي والمتزامن. لم يعد بوسعنا التنقل دون هواتف محمولة، هي في الواقع تحملُنا ولا نحمِلها. محمولات كثيرة عبرها، تحيل على النفسي والاجتماعي، والنفس-اجتماعي، والباتولوجي، أيضا. إنّها تأخذ منا الواقع الفعلي، لتضعنا في واقع مفترض. أنا وأنت ونحن وهم، أصبحنا كائنات افتراضية، يتحكّم فيها السيلفي، وعصا السيلفي، وتُصنع أحلاما وشخصيات وهمية، وإضافية مُحسّنة، وهي في الأخير أشبه بعرض. نحن في سوق السيلفي وتحت طلبه. لم يعد معنى لذات قبيحة وأخرى حسنة بالمعنيين الخلقي والأخلاقي. إنّها حضارة الانترنت والسيلفي، وهي التي تُبدي شروطها، وتمنحك فرصا كثيرة، لتكون في سجلّها، معلومة من معلوماتها، رقما من أرقامها، لا يهمّ، المهمّ انّك في قيدها، وفي ربحها اللامحدود... عندما نعود لكثير من المقاربات العلمية، التي حاولت أن تقرأ الواقع الافتراضي الإنساني، في اختلافاته، يبدو لنا أنّ اللحظة ليست سانحة، لاعتماد رؤى فكرية ومقاربات حاسمة، وقد أنهت فهمها وتفسيرها، للظاهرة الرقمية الراهنة. البارز في هذا كلّه –في اعتقادنا- هو التغير اللحظي المتواصل، في دلالات الحقيقة الوجودية للفرد الذات، والمجتمع أيضا. تبدو لنا الحقيقة، هي الأخرى، مُتحوّلة، الحقيقة العلمية، الحقيقة الاجتماعية، الحقيقة التاريخية، الحقيقة الفلسفية، الحقيقة الدينية، وكلّ الحقائق: تكرارا هنا وتعدادا لامتداد إنساني، في واقع افتراضي متحرّك لا مهرب منه وإليه. انفلات عن كلّ حدّ أو موقف نهائي... فلا مجال حينئذ، لتمييز مقاربات مستحدثة والعدول عن المتقادمة... إنّما أكثر من حقيقة تبرز، لتحلّ محلّها أخرى، والإنسان من ورائها يلهث، فلا مجال للوثوقيات، ولا مجال أيضا للنهايات، كلٌّ في صيرورة، أو كلّ شيء يصير، بما في ذلك الإنسان كما الآلة، المُتحكّمة فيه، بمعنى لا ينتهي، إنّما يتحوّل ليصبح في هيأة أخرى أو حقيقة أخرى... أيّ معنى حينئذ، للعقل والتفكير؟ هل مازال للكوجيتو الديكارتي معنى؟ "أنا أفكر إذا أنا موجود". هل عوّضه أنا اُوسيلفي إذا أنا موجود. أيّ معنى لوجودي ووجودك في غياب العقل؟ هل من معنى للأسئلة الكانطية حول الإنسان: في مصيره ووجوده وفعله ومآلاته؟ هل من معنى لنا في غياب السيلفي؟ بمعنى تغييب هذا العالم الافتراضي من واقعنا الحي والمعيش؟ هل نحن إزاء خطورة حقيقية تجاه الشعور والإدراك والعواطف؟ هل مازال للحب من معنى؟ في غياب: أنا أصافحك بيدي وأنت تصافحني بمثلها؟ كما تشير إلى ذلك الزا غودار. أيّ معنى لوجودنا اليوم؟ في القرن الواحد والعشرين دون انترنت واتصالات ودون شبكات تواصل؟ وأي معنى لعدمنا؟ الأسئلة، هذه، لا تبحث لها، هي الأخرى، عن إجابة نهائية قطعيّة، ولكنّي اعتقد، أنّها تمنحنا الحرية الكاملة، لنعود إلى ذواتنا ونبحث في كينونتنا، وعلاقتنا بهذا العالم. نحن، في واقع –برزت فيه الفردية- والفردية القلقة، ألآن، أكثر من أيّ وقت مضى. الكثير من مقولات ما بعد الحداثة، تضعنا في حيرة تجاه أنفسنا-أفرادا- وتجاه الجماعة. هل ستذهب الإنسانية في واقع رأسمالي متوحّش إلى حتفها؟ ألا يكفي ما حدث من تمزق للفرد روحا وجسدا؟ في غياب المعطى الأخلاقي؟ هل سيستفيق الفرد من هذه البهتة المذهلة تجاه السيلفي وغيره؟ أنا اُوسيلفي، لا أعتقد أنها مقولة نهائية وحتمية، ليس من معنى لها، إلاّ ربّما في جماليتها، حينا من الزمن، وقد تختفي، ويبقى جمال الروح حلمنا في الحياة، بمعنى من معانيها، وقد يستعيد الروحي والاجتماعي "قواه" على أرضيّة أخرى، تكون جميع حواسنا نشطة، في إيجاد المعنى الحقيقي لإنسانيتنا التائهة وراء صور لا حدّ لها...
#علي_الظاهري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لنسألْ...بحثا عن مخرج
-
الديمقراطية التونسية على محكّ النقد : المسار المتعثر وماذا ب
...
المزيد.....
-
شاهد.. -غابة راقصة- تدعوك لإطلاق العنان لمخيلتك في دبي
-
بعد مكاسب الجيش في الخرطوم.. هل تحسم معركة الفاشر مآل الحرب؟
...
-
هواية رونالدو وشركاه .. هذه مضار الاستحمام في الماء المثلج
-
أكثر من 20 مرتزقا أمريكيا في عداد المفقودين بأوكرانيا
-
باكستان قلقة من الأسلحة الأمريكية المتروكة في أفغانستان وتحذ
...
-
وزير الدفاع السوري يتفقد ثكنات الجيش بصحبة وفد عسكري تركي (ص
...
-
تركيا.. شاورما تنقذ حياة -مسافر الانتحار- (صور)
-
من أمام منزل السنوار.. تحضيرات إطلاق سراح 3 رهائن إسرائيليين
...
-
سوريا.. من هم القادة العسكريون الذين شاركوا الشرع -خطاب النص
...
-
وارسو.. اجتماع وزاري أوروبي لبحث الهجرة والأمن الداخلي وترحي
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|