|
العقيدة في حياة الإنسان
عقيل عيدان
الحوار المتمدن-العدد: 1571 - 2006 / 6 / 4 - 09:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لعل كل إنسان قد فكر يوما ما بمغزى الحياة ، كونه إحدى القضايا "الأزلية" التي تقلق كل إنسان ، مهما كان بعيداً عن العلم والفن والسياسة . والإجابة عن هذا السؤال يحدّد موقف الإنسان إزاء العالم الذي يعيش فيه ويعمل ، كما يعين المبادئ الذي يمارس نشاطه عملاً بها . وعند معالجة مسألة مغزى الحياة يقف الإنسان على الدوام أمام الاختيار ، فالصورة الخيالية للفارس الواقف في مفترق الطرق لاختيار سبيله هي أحد رموز الاختيار العقائدي . فعلى سبيل المثال ؛ كان لابد من أن يقوم بالاختيار كلّ من جوردان برونو وغاليليو ، وتوماس مور وبيير راموس وبريستلي وحسين مروة ومحمود طه وعبد الكريم سروش وغيرهم كثير . وليس القيام بالاختيار أمراً هيناً ، فهو يتطلب في كثير من الأحيان الصمود والإرادة والشجاعة . فما هي ، إذن ، العقيدة التي ضحى البشر في سبيلها بحياتهم وكافحوا وحقّقوا النصر ؟ إن مفهوم "العقيدة" متعدّد الدلالات . فنحن نتكلم عن عقيدة الفيلسوف والعالِم والكاتب والفنان ..الخ ، وعن العقيدة الفلسفية والدينية والدارجة . ويحدّد المفكرين أشكالاً شتى للعقيدة ؛ هي الإحساس بالعالم (تقبّل العالم) ، تفسير العالم ، فهم العالم . إذ ليس ثمة عقيدة "عمومية" . فالعقيدة يحوزها أفراد معينون يقطنون بلداً معيناً ، في فترة تاريخية معينة . والعقيدة غير قابلة للانفصال عن نشاط الإنسان ، وهي دائماً ملك لشخصية معينة . وإذا أردنا أن نقدم تعريف علمي لهذا المفهوم ، يمكننا القول : إن العقيدة هي منظومة آراء الإنسان في العالم ، وفي مكانته في هذا العالم ، وهي مجموع قناعات وأفكار الإنسان الدينية والفلسفية والعلمية والأخلاقية والجَمالية . والعقيدة هي لب الفرد ونواته التي تتجسد فيها مبادئه وأفعاله ومُثله وأهدافه في الحياة . والعقيدة تقوّض في الكثير من الأحيان حياة الفرد الشخصية . كما أن العقيدة ليست جميع الآراء والتصورات عن العالم المحيط ، إنما هي التعميم الأقصى لها فقط . إن الإنسان في نشاطه يميز نفسه عن سواه ، ويعي ذاته وأفعاله في العالم . والعالم بالنسبة للإنسان في نشاطه وحركته يبدو وكأنه "ينشطر" إلى قسمين : الـ "أنا" والـ "لا- أنا" ، علماً بأن الإنسان حين يؤثر في الطبيعة ويغيّرها يتغيّر هو نفسه . وفي سياق هذه العملية تبرز علاقة الذات – الموضوع ، وتولد الحاجة العقائدية ، والمسألة الأساسية للعقيدة ، والعقيدة بحد ذاتها . إن "موضوع" العقيدة ؛ هو ما يحيط بالإنسان ، أي الطبيعة والمجتمع والعالم بأسره . أما " ذات" العقيدة ؛ هي من الناحية الفعلية الفرد أو الفئة الاجتماعية . وللعقيدة مادة بحث ؛ هي علاقة عالم الطبيعة بعالم الإنسان أو – كما يقول الإغريق – بين العالم الأكبر والعالم الأصغر ، أو مفهوم العالم ومفهوم الإنسان . أما المسألة الأساسية للعقيدة ، فهي مسألة علاقة الإنسان بالعالم ، حيث أعطى العالم للإنسان لا في حد ذاته ، بل في نشاطه وحركته . وهذه المسألة تشمل مسائل أصل العالم وجوهره ومستقبله باعتباره أساس كينونة الإنسان ، ومغزى الوجود البشري ، وإدراك العالم وإدراك الذات ، والخير والشر ، والحقيقة والضلال ، والعدالة والظلم .. الخ . ولكن ، ما هي العقيدة العلمية ، وكيف تتناسب مع العقيدة العادية (الدارجة) ؟ إن العقيدة العادية ( الإحساس بالعالم ، تقبّل العالم ) ترتبط بالوعي العادي للوجود البشري . وهي تنشأ على أساس تجربة الإنسان الشخصية . إنها قناعات الإنسان وتصوراته وانفعالاته ، كذلك طروحاته عن العالم التي تنشأ بشكل عفوي . وفي العقيدة العادية يسترشد المرء باحتياجات واهتمامات اليوم الراهن ، ويتصرّف بلا مبادئ مدركة ، ولا يضع أمام نفسه أهدافاً تتعلّق بمغزى الحياة ، ولا يراجع المُثل العليا . إذ ليس كل فرد يحوز عقيدة علمية (فهماً علمياً للعالم) ، ذلك أنها تتطلب توفر المعارف وسعة الإطلاع والثقافة العامة ، وإيمان الإنسان بصواب مُثله وأهدافه . وإذا كانت العقيدة تشكل نواة الشخصية ، فإن العقيدة العلمية هي "نواة في النواة" . كما أن العقيدة العلمية هي منظومة الآراء المادية في العالم ، وفي مكانة الإنسان في هذا العالم ، منظومة القوانين الأعم والأشمل لتطوّر التفكير والطبيعة والمجتمع . ثمة دور خاص للفلسفة في تكوين العقيدة . فلماذا تشغل الفلسفة مكانة خاصة في العقيدة ؟ إن الفلسفة ترتبط أوثق ارتباط بمختلف ظواهر الحياة الاجتماعية ، وتؤثر في الصراع السياسي والنشاط العلمي ، في الحركات الدينية والإبداع الفني ، وتترك بصماتها على العصر وعلى الفرد. وإذ تعالج الفلسفة مهمات التعليل النظري للعالم ومكانة الإنسان فيه ، إنما تكوّن الأساس النظري للعقيدة ، كونها فهماً للعالم . والفلسفة علم عقائدي ، ذلك أن مسألة العالم وسمته النهائية واللانهائية ، ومكانة الإنسان فيه ، وإمكانية معرفة كنه العالم ، هي المسألة الأساسية للفلسفة . ينبغي تأكيد أن ثمة أهمية عقائدية مبدئية تكتسبها في عصور تاريخية معينة مسائل تغيرت بفعل حلّها تصورات البشر عن لوحة العالم . ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت من بين هذه المسائل تعاليم كوبرنيكوس (ت 1543) عن بنية المجموعة الشمسية ، وفي القرن التاسع عشر نظرية تشارلز دارون (ت 1882) الارتقائية عن أصل الأنواع ، وفي القرن العشرين اكتشاف العالم "المجهري" ألبرت اينشتاين (ت 1955) النظرية النسبية . إن تطوّر المعارف يوسّع ويعمّق تصورات الإنسان عن العالم ، ويغير فهمه للعالم بمنحه توجهات جديدة في نشاطه . ولكن ليس هناك علم محدَّد يشكّل عقيدة بحد ذاته ، رغم أن كل علم من العلوم يتطوّر بمساعدة العقيدة . إن عقيدة الشخص هي مقدار فهمه لعلاقاته مع الحياة (الطبيعة) والمجتمع ، وإدراكه لمكانته فيه ، علماً بأن فهمه للعالم قد يندمج بإحساسه به . وفي العقيدة ثمة "حضور" دائم للذات وموقفها الحياتي الذي لا ينفصل عن نشاطها ، وفكرتها الأساسية المعنوية ومشاعرها ومعاناتها . وكما أسلفنا ، فإن العقيدة قد تكون عادية (عفوية ، ساذجة) وقد تكون معلّلة نظرياً ومفعمة بمبادئ فلسفية معينة . بيد أن العقيدة لا تولد مع الإنسان ، بل تُربّى وتكوّن لديه . وفي سياق تربية الشخصية اجتماعياً تتحوّل الثقافة الروحية التي تستوعبها من مجموع معارف عن العالم إلى برنامج لسلوكها الاجتماعي ، وبالتالي لسلوكها الشخصي . وتتحوّل معارف الشخص ، كونها عاملاً لسلوكه بالذات ، إلى قناعات لديه . وبفضل ذلك تؤثر العقيدة تأثيراً فعالاً بالغ الشدة في الحياة ، وفي جميع جوانب نشاط الإنسان المعرفي والعملي .
#عقيل_عيدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثقافة أو الدور المتبقي لنا
-
حرب العقول .. من العقل التنويري إلى العقل المحاصر
-
أي حوار ديني نريد؟
-
هل من طبقية بين البشر؟
-
النقد وتأسيس العقلانية
-
الوعي الاجتماعي وعناصر الزمن الثلاثة
-
الجامعة فضاء النشاط التنويري
-
ما هي العدالة ؟
-
في العلاقة بين الشرق والغرب - في ذكرى انا ماري شيمل
-
حدود الحرية
-
التسامح الديني مطلب إنساني
-
في مفهوم الثقافة العربية
-
الاجتهاد .. وراهنية التغيير
-
تأسيس المجتمع المدني .. وصراع المجتمع والدولة
المزيد.....
-
مصدر لـCNN: أمريكا تنقل صواريخ باتريوت من إسرائيل إلى أوكران
...
-
إسرائيل: قواتنا ستبقى في جبل الشيخ بسوريا -إلى أجل غير مسمى-
...
-
تفاصيل اتصال بين وزيري خارجية أمريكا ومصر بعد تصريحات ترامب
...
-
ماذا يعني وقف المنح الفيدرالية والمساعدات الخارجية الأمريكية
...
-
هواوي تطلق هاتفا مجهزا بكاميرات ومواصفات مميزة
-
العمل من المنزل أو المكتب؟.. دراسة تكشف أيهما الأفضل لصحتك
-
سر انقراض إنسان نياندرتال قد يكون مخفيا في دمه!
-
خبيرة تغذية: نقص البروتين يؤدي إلى تكرر نزلات البرد
-
أنفاق الموت. قاعدة الجلادين وضباط الناتو السرية أصبحت قبورًا
...
-
سؤال واحد وسبع إجابات: كيف ستستجيب الدول لرسوم ترامب الجمركي
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|