|
-الفنّ والمقدّس- ل: امّ الزين بنشيخة.. وعد لانتماء جمالي جديد للعالم
شكري بن عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 6487 - 2020 / 2 / 9 - 01:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في مرحلة قاتمة من تاريخ الثقافة الرسمية في تونس، من النكران والعقوق لمختلف اشكال الابداع الحقيقية والمبدعين الفاعلين، حيث تعمّ وتنتشر الممارسة الزابونية الفكرية البائسة، ولا يُدَعَّم الاّ من يدور في فلك السلطة ومقولاتها المتآكلة المهترئة، تفتح لنا مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" أفقا رحبا للفكر والثقافة ولكن ايضا للمتعة والرّجاء، عبر باحة الفيلسوفة والمفكّرة الرائدة امّ الزين بنشيخة، لكسر حصار الرداءة المطبق والاعتقال الفكري المعمّم، من خلال مولودها الجديد في فلسفة القيم، الموسوم "الفنّ والمقدّس" الذي إختطفنا على كامل الامسية الفكرية يوم الاربعاء 5 فيفري، نحو طبق فكري ابداعي بنكهة الفنّ والفلسفة ولكن ايضا بمذاق السياسة والمقاومة، لينفذ بنا الى كلّ ابعاد الانساني المركّب، وحتّى المتناقض المتفجّر.
امسية شاعرّية عذبة في نسماتها الفنية، غاضبة متمرّدة في موجاتها المقاومة لاشكال السيطرة والهيمنة المستبدّة، كانت بحقّ فضاءً عموميا مضادا بكلّ المقاييس للسلطة بكل أنواعها السياسية والفكرية والاجتماعية والمالية، والاشتباك الحقيقة كان ملتهبا في ساحة الصراع الكاسر من أجل التحكّم في الأفكار والأرواح والارادات، والتمركز كان في نقطة تقاطع المدارات المتنافرة، بين الماضي الديني والحاضر العلماني وما بعد العلماني، وبين الفني الآمل والسياسي الحادّ القطعي الى حدّ العنف، وأخيرا وليس آخرا بين الفنّي ذي النزعة الانسانية والمقدّس الذي يغلب عليه الديني، من أجل النفاذ الى نقطة ارتكاز ارخميدية -على نحو تاويلي وليس قبلي- في هذا "الكوكتال" الملتهب، للسكن في هذا العالم على نحو جمالي.
الموضوع كان شائكا الى حدّ عال، ولم يكن ليقدر عليه الا أهل الاختصاص ولكن أهل العزم والجرأة بدرجة أساسية، من القادرين على الاشتباك والمواجهة فضلا عن امتلاك العدّة الفكرية اللازمة، فالعلاقة التي تبرز صراعية نزاعية بين الفنّ والمقدّس، الفنّ الطامح والآمل لتحقيق التحرر والابداع والمتعة والبهجة من جهة، والمقدّس النازع لارساء علاقة الخضوع والانكسار وما يمكن ان يقود اليه من انغلاق وتعصّب وعنف من أخرى، وما يطرحه كل من المربعين من رهانات فرض قواعده وآلياته على الآخر، في حرب "المناطق" و"المساحات" و"التضاريس"، وهو ما انطلقت منه الفيلسوفة ذات النزعة الاشتباكية، من أجل تفكيكه بعد استعراض اهم الأبعاد والأوجه، انتهت (هذه العلاقة) عبر المؤلف الى ارساء افق جديد يجعل الالتقاء بين الضديدين ممكنا، من خلال التأويلية التي اعتمدتها المؤلفة، ويحملنا من سمات النزاع والعنف الى التزاوج اعتمادا على التسامح.
لعلّ هذا أبرز ما استعرضه الباحثان هبة المسعودي وعماد حمدي، الذين قدما مداخلتين حول مؤلّف الكاتبة المتخصصة في فلسفة الجماليات، الدكتورة أمّ الزين بنشيخة المسكيني أستاذة التعليم العالي بجامعة المنار، من خلال التطرّق الى وعد الكتاب ورهان المؤلّفة، التي عادة ما تعتبر مجال الفنّ مجالا لـ"اللامتوقّع" الذي يحدث الاختراقات الكبرى والمستحيل، وتعتبره باحة حيوية للتفلسف والحياة أيضا والغبطة، حيث تحضر تأويلية دولوز لنيتشه وسبينوزا، وكل ذلك الخطّ الممتد على طول اكثر من ثلاثة قرون، ولئن اعتبرت المسعودي أنّ المفكرة أمّ الزين أعادت السجال حول العلاقة بين الفن والمقدّس بشيء جديد مختلف، فان حمدي ركّز على طرافة وثراء المؤلّف.
الباحثة هبة المسعودي في مداخلتها حول الكتاب الذي سيصدر رسميا خلال شهر مارس بمناسبة المعرض الدولي للكتاب في تونس، اعتبرت أن المؤلف الجديد يختلف عن مؤلفات المفكرة بن شيخة، "الفنّ يخرج عن طوره" [جداول - بيروت - 2011] و"الفنّ والمحسوس" [ضفاف - بيروت- 2014] و"الفنٌ في زمن الارهاب" [ضفاف - بيروت - 2016] وغيرهم من مؤلفاتها ومؤانساتها، فالمتدخلة أصرّت على انها تكتشف استاذتها في فلسفة الجماليات على نحو مغاير، من خلال اعادة شحن وتنشيط مفاهيم الفن والمقدس، للخروج من حالة التنافي والتصادم الى حالة تواشج "عجيب"، كما اكدت الباحثة المتدخلة في عدّة اشارات.
المسعودي في قراءتها للكتاب الصادر في 281 صفحة من الحجم المتوسط، رأت أنّ المفهومان الذين اعتدنا أن نراهما متصادمين، وجدناهما متصالحان في تجربة أكاديمية بحثية بامتياز، تنمّ عن اقتدار فريد من نوعه، من أجل تأويل هذه النظريات الجمالية ليس كما اعتدنا سردا وقراءة وترجمة، واعادة قراءتها في اطار تحقيق انتماء جمالي للعالم، لم يكن مطروحا سابقا في الادبيات الفلسفية وغيرها، والتجارب (ضمن هذه الرؤية) المستعرضة في الكتاب لم تكن غربية فقط بل التصقت بفكرة "الانتماء الى العالم"، والتعرض لتجربة منى حطوم وقصائد محمود درويش كان ضمن هذه الرؤية.
عماد حمدي، الباحث في الفلسفة، من جهته، في معرض تفكيكه للكتاب الصادر في ثلاثة أقسام، فضلا عن مقدمة تستعرض تغيير المقدس لعناوينه، وخاتمة موضوعة تحت عنوان "الفنّ وعد بالسعادة"، الباحث حمدي أعاد صياغة اهم الاشكاليات التي يطرحها الكتاب، مشيرا للسؤال المركزي في الخصوص: أيّة علاقة بين الفنّ والمقدّس؟ وما يرتبط به من اسئلة متداخلة ابرزها: كيف يمكن الترحال بالمقدّس خارج أفق اللاهوت؟ وهل بوسعنا أن نسكن العالم جماليا فيكون المقدّس رسما فنيا لهذا السكن؟
وهي الاسئلة التي اعتبر الباحث المتدخّل من خلالها ابراز كيف يمكن أن تصرّف المقدّس خارج اشكال الزيف، ومن اجل الاقتدار والارادة وضدّ قبح العالم الذي صار يتلوّن بدماء الضحايا، وتاثييم الابداع باحكام دينية لاهوتية، وهي (الاسئلة) ايضا التي من خلالها ابراز كيف يمكن للفن ان يعيد للمقدّس بهجته وفرحه، بعد ان استبد به الوهن وصار رديفا او الاسم الاخر للعنف والارهاب، وتكوّن هذه الاسئلة الاشكالية الرئيسية للكتاب من وجهة نظر المحاضر، الذي اعتبر أنّ المؤلفة أم الزين بنشيخة تصدت لها عبر الكتاب بتقديم مدخل نظري، يعرّف بالمقدّس ويعيد نحته ضمن أفق نظرية مختلفة ومفكرين متعددين، لاستخلاص شيء طريف اشارت اليه المؤلفة وهو أنّ "يستعيد شبابه"، في اتصال مع اشار اليه الفيلسوف ريجيس دوبريه.
وما أكّد عليه حمدي بالخصوص في مداخلته، هو انتشار التدقيقات المفهومية على كامل الاقسام الثلاثة للكتاب، الاول: الحداثة انتماء جمالي الى العالم، والثاني: الأدب والمقدس، والثالث: كيف نرسم المقدس؟، ليلحظ نقطة رئيسية ركزت عليها المؤلفة بنشيخة، هي انه في الاستطاع استعادة علاقة جمالية بالمقدس، لا انطلاقا من افهام جاهزة واحكام مسبقة، بل باعادة تأصيل العلاقة بالمقدس ضمن رؤية تأويلية مغايرة، تقوم على امكانيات التآلف والتواشج بين الفن والمقدّس، بل ان المقدّ في احد تمظهراته يعتبر فنا، أو انه شكل من التمثّل الرمزي للعالم، وهو ما يلتقي في قراءته مع المتدخلة الباحثة هبة المسعودي.
المسعودي التي كانت رأت أن الكاتبة أم الزين بنشيخة تاخذ منعرجا آخر من خلال كتابها الحالي، بترحلها بين النظريات الجمالية وقراءتها من خلال مفهوم تنويري بامتياز يعود لعصر التنوير، وهو مفهوم التسامح الذي امكن عبره التواشج بين الفن والمقدس المتصارعين في طبيعتتهما، كما امكن الانفتاح على انتماء جمالي للعالم، وهو ما يشير اليه عماد حمدي بسكن العالم على نحو جمالي، وهو الالتقاء بين المحاضرين، عموما من خلال اعادة تأصيل المفاهيم ونحتها وتأويل النظريات الجمالية والتجارب الفنية، واستدعاء مفهوم التسامح لتحقيق هذا الانتماء الكوني، من خلال البعد الجمالي الذي يصالح الفن بالمقدس، ولكن أيضا يستدعي كل التجارب الفنية المنتمية لهذا العالم الفسيح، دون اقصاء!!
(*) باحث في فلسفة التنوير والحداثة - تونس
#شكري_بن_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قرطاج الذاكرة والفضاء.. جدل السياسي والزماني والمكاني
-
جدلية الفضاء العمومي والفلسفة في ندوة اكاديمية بتونس.. بين ا
...
-
بعد ان -قتلته- الاشاعة بأسابيع.. جلبار نقاش يعود بترجمة -كري
...
المزيد.....
-
تحليل للفيديو.. هذا ما تكشفه اللقطات التي تظهر اللحظة التي س
...
-
كينيا.. عودة التيار الكهربائي لمعظم أنحاء البلاد بعد ساعات م
...
-
أخطار عظيمة جدا: وزير الدفاع الروسي يتحدث عن حرب مع الناتو
-
ساليفان: أوكرانيا ستكون في موقف ضعف في المفاوضات مع روسيا دو
...
-
ترامب يقاضي صحيفة وشركة لاستطلاعات الرأي لأنها توقعت فوز هار
...
-
بسبب المرض.. محكمة سويسرية قد تلغي محاكمة رفعت الأسد
-
-من دعاة الحرب وداعم لأوكرانيا-.. كارلسون يعيق فرص بومبيو في
...
-
مجلة فرنسية تكشف تفاصيل الانفصال بين ثلاثي الساحل و-إيكواس-
...
-
حديث إسرائيلي عن -تقدم كبير- بمفاوضات غزة واتفاق محتمل خلال
...
-
فعاليات اليوم الوطني القطري أكثر من مجرد احتفالات
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|