|
عن الرفض والتمرد
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6475 - 2020 / 1 / 28 - 19:03
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الرفض والتمرد والعصيان والثورة ظواهر إنسانية، مثلها مثل الطاعة والخضوع والإمتثال، تشكل صورا متغايرة من الفعل الإنساني في علاقته الصميمية مع السلطة. التمرد على السلطة والعصيان، رغم الطابع السلبي الذي يشوب هذه المفاهيم، صاحب تطور المجتمعات وتكونها وكان الدافع الأكبر الذي ساهم في تطور العقل البشري واكتشافاته المذهلة لطرق وآفاق جديدة في رحلته الطويلة نحو التكون، ولولا التمرد والثورة والعصيان لبقي الإنسان يأكل العشب ويرعى في الحقول البرية والغابات مثله مثل أي خروف. التمرد يتطلب في نفس الوقت مجتمعات منظمة وقوانين صارمة وسلطة دكتاتورية مطلقة، أي بيئة وبنية مغلقة وظروف خانقة من القهر والكبت تهيء الظروف الموضوعية لقوى التمرد والعصيان للظهور والنمو ثم التعبير عن حريتها وممارستها. ويمكن تتبع تاريخ المئات من الثورات المتعاقبة منذ بداية التاريخ البشري حتى اليوم، وهي عادة ثورات يقوم بها العبيد والمهمشين والفقراء ضد أصحاب المال والأرض والسلطة والتي تنتهي في أغلب الأحيان في بحار من الدم وأكوام من الجثت والأشلاء ومجازر ترتكبها الجيوش المنظمة ضد المتمردين. وبجانب هذه الثورات الجماعية ذات الطابع السياسي والإجتماعي، هناك الثورات الفردية والتي يقوم بها شخصيات أو نماذج تتمرد على السلطة المطلقة لأسباب إجتماعية أو سياسية أو وجودية وميتافيزيقية، والمتمرد الذي يقوم بثورته وحيدا ومعزولا عن الآخرين هو الإنسان الذي يمارس حريته القصوى بواسطة فعل الرفض المطلق والذي يشكل في نفس الوقت ماهيته وكينونته. ومن الصعب الحديث عن التمرد أو العصيان الفردي وتحليل نمادج وأمثلة تاريخية نظرا لتنوع وإختلاف دوافع وأهداف كل حالة. بينما يمكن إلقاء نظرة على هذه الظاهرة وتتبع نتوئاتها وجوانبها المتميزة في ما يمكن تسميته بتاريخ "الخيال"، الذي تعبر عنه الأساطير والديانات والفنون البصرية والآداب بكل أنواعها، من الشعر والقصة والملاحم .. إلخ. وهذا الإنتاج الإنساني الواعي يعبر بالضرورة عن البيئة الثقافية والعقلية للمجتمع الذي أبدع هذا الإنتاج. والأسطورة تتميز بجوانب متعددة ومتنوعة وشديدة الثراء، فهي عالم متسع ورحب من الأحداث، ذات الخاصية الشعرية الذي يكاد يظل عصيا على أي تفسير نهائي محدد، ولعل صعوبة التأويل وإيجاد المعنى كامنة في فكرة المطلق الذي تعبر عنه الأسطورة أو الذي ينزع إليه الإنسان من خلال لجوئه إلى السرد الأسطوري، كما قد يكمن في كونها نظاما رمزيًا غنيا بالإيحاءات والظلال تستدعي منهجا أو منظورا شموليا للدراسة والتقييم ولا ينبغي أن يكون جزئيًا حصريا أو انتقائيًا حيال هذا الإنتاج الخيالي المعقد. ورغم أن الأسطورة تبدو ذات أصول مشوشة ويلفها الضباب، ورغم تطورها المستمر وتغير تفاصيلها وأسماء أبطالها من حقبة لأخرى نظرا للإضافات والحذف والتعديل الذي يطرأ على النص، ورغم الغموض الذي يلف هذه النصوص وامتناعها على التفسير العقلاني، فإن الأسطورة مثلها مثل أي إنتاج ثقافي تستدعي البحث العلمي والمنهج العقلي لتتبع صورها المتنوعة عبر مسيرة الإنسانية المتعرجة. ذلك أن العديد من هذه الأساطير قد تطورت بطريقة تدريجية لتصبح ديانات ومناهج روحية تحتل اليوم فضاءات واسعة من الفكر الإنساني، مثل الأساطير السومرية والبابلية التي أثرت تأثيرا كبيرا في تكوين الديانات التوحيدية أو ما يسمى بالديانات السماوية. بينما ظل البعض الآخر، كالأساطير اليونانية، في شكله الأسطوري كمصدر أساسي للإبداع الخيالي الفني والأدبي، يتمتع بشفافية ووضوح نسبي يسمح بالقراءة وإيجاد المعنى. ومن هنا يمكننا تتبع الثورة والتمرد الفردي الذي عالجته هذه الأساطير المختلفة لتقدم نماذج عامة وشمولية لهذه الظاهرة والتي لا يمكن إيجادها عند دراسة الحالات التاريخية الحقيقية، نظرا لتنوعها وتشتتها كما سبق القول. وربما يجب البدء من الحضارة اليونانية التي تتميز بتنوع إنتاجها الفكري ووفرته، بغض النظر عن الجوانب المدنية والعسكرية أو الإقتصادية للمدن اليونانية، لأن إنتاجها الفلسفي والشعري والفني يعتبر مصدرا لا ينضب للبشرية، يحتوي كل الإشكاليات والتساؤلات والقضايا التي تهم الفكر حتى يومنا هذا. والذي يهمنا في المقام الأول، ليس فقط ظاهرة التمرد وأسبابها سواء كانت ضد الآلهة أو الطبيعة أو القدر أو أية سلطة مطلقة تقهر الإنسان وتجبره، وإنما أيضا طبيعة العقاب الذي يناله المتمرد جزاء عصيانه، فهذا العقاب في حد ذاته دلالة وإشارة إلى طبيعة هذه السلطة وجوهر البنية الثقافية التي أنتجت هذا النمودج الرافض للخضوع. وسنبدأ بإلقاء نظرة على أسطورة بروميثيوس، سارق النار، والتي تعتبر واحدة من أهم الأساطير في الميثولوجيا اليونانية.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وتفقد الوردة حمرتها خجلا
-
الإرهاب والثورة
-
عودة إلى فكرة الحرية
-
غزة .. ترفض أن تموت
-
ثقافة التوكل
-
سريالية الأشكال
-
الأدب والمخدرات
-
فاغنر وسيمفونية الكلاشنكوف
-
محمد البوعزيزي
-
رموش الحجر
-
بؤس الكلمات
-
بؤس الكامات
-
مباراة الشطرنج الخاسرة
-
الهروب في الليالي الممطرة
-
جنون الوحي
-
فاغنر وحفتر وطباخ بوتين
-
نهاية اللعبة
-
الحرب القذرة في ليبيا
-
مرتزقة من روسيا لمسانده حفتر
-
اللامبالية
المزيد.....
-
تطورات الحادث الجوي في واشنطن.. طائرة ركاب اصطدمت بمروحية عس
...
-
مصادر لـCNN: اصطدام مروحية عسكرية بطائرة ركاب بالقرب من واشن
...
-
فيديو استقبال محمد بن سلمان وأداء صلاة الميت على الأمير محمد
...
-
كيف تتم عملية تبادل الرهائن في غزة؟
-
اصطدام مروحية عسكرية أمريكية بطائرة ركاب تحمل 60 شخصا بالقرب
...
-
يكثر استهلاكه في المنطقة العربية.. الحليب الحيواني الأكثر فا
...
-
إسرائيل: 11 رهينة محتجزين في غزة سيتم الإفراج عنهم هذا الأسب
...
-
تصادم طائرة ركاب مع مروحية عسكرية قرب مطار ريغان بالعاصمة ال
...
-
عاجل | رويترز: طائرة ركاب تابعة لخطوط جوية أميركية اصطدمت بط
...
-
ترامب يستعد لإعلان قرار يهم طلاب الجامعات المتعاطفين مع حماس
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|