|
الأزمنة الصعبة - قصة قصيرة
فارس حميد أمانة
الحوار المتمدن-العدد: 6474 - 2020 / 1 / 27 - 11:54
المحور:
الادب والفن
"الأزمنة الصعبة"
(1)
دفعت الباب برفق فقد كان مفتوحا .. نفس المدخل الذي لم يتغير منذ أن اعتقلت قبل سنوات .. نفس قطع الأثاث التي تركتها آخر مرة لم تغير زوجتي حتى أماكنها .. أما على حائط الممر الصقيل فقد علقت صورة زفافي التي كانت على منضدة قرب سرير نومنا .. كان هذا هو التغيير الأول الذي ألحظه .. حدقت في الصورة طويلا فخيل إلي إنني أطالع فيها صورة شبابي وأنا أقفز في أركان البيت سعيدا كأنني طفل .. على الكرسي لاحت لي هناك منشفة حمام رميت بإهمالٍ غيرِ متعمد فامتدت يدي إليها برغبةٍ مبهمة .. تحسستها برفق .. لا تزال مبللة .. رفعتها إلى أنفي ببطء فعرفت رائحة بشرة زوجتي وهي تعبق منها بوضوح .. التفتٌ إلى الجانب فالتقت عيناي بجسد صغيرٍ مسمرٍ قرب كرسي معدني .. كانت نظرة الطفل مزيجا من الخوف والاستغراب من هذا القادم الغريب .. تسمرت مكاني أيضا .. حدقت في عينيه .. إنهما عيناي الكبيرتان نفسهما .. وهذا الأنف الكبير أيضا هو أنفي .. هذه جبهتي العريضة .. شعري .. هذه طفولتي كما نقلتها لي صوري القديمة . تسلل خلال دمي شعور فرح طفولي غامر ممزوج بدهشة كبيرة .. فار مزيج مشاعرٍ مبهم عندما ركعت أمامه وتركز في عيني المتوهجتين ثم تسلل عبر أصابعي المرتعشة الممتدة نحو شعره وهي تربت عليه وتتلمسه بحنان مفرط .. فوجئ الطفل بحركة يدي نحوه فازداد التصاقا بالحائط وعيناه تدوران بقلق شديد باحثتين عن منقذ .. التفت يساره ثم ركض باتجاه غرفة نومنا متعثرا بلعبة مرمية على الأرض .. أحدث سقوطه صوتا فلفظ باب الغرفة جسدا ملتفا بثوب منزلي بارد اللون . آهٍ .. يا الهي .. كم مر من زمن وأنا أجتر شوقي إليك .. وتضج اللهفة في فؤادي .. وهذا قلقي المختلط بنزيف آلامي وحنيني لعينيك .. حنيني الذي تفجر في هذه اللحظة المجردة بشدة حتى أضحى ألماً يعتصر الحنجرة .. والآن .. تقفين أمامي مبهوتة .. ملتاعة .. ضعيفة .. مبذولة .. فاتنة .. تتسرب رطوبة جسدك الناعم ناضحة من خلال ثوبك المنزلي .. وشعرك بلون التمر يتكوم فوق جبينك خصلا مهملة يقطر منها الماء . تماسكت والكلمات تتحجر فوق شفتي المتيبستين .. وقفت زوجتي تحدق بعيني وشهقة ميتة تتجمد فوق شفتيها الكرزيتين الرطبتين .. توقف كلانا عن الحركة تماما .. قدماي ملتصقتان بالأرض ويداي كتلتان معدنيتان ثقيلتان .. عندما هوى جسدها إلى الأرض .. كان طفلي يصرخ برعب .
(2)
همست بي زوجتي وبصوت خفيض : " دعه يلعب .. انه لم يرك مطلقا وسيعتاد وجودك شيئا فشيئا " وعندما لم أرد ولاح القلق على قسماتي أردفت : " سيتقبلك .. أنا متأكدة من ذلك .. اترك ذلك للأيام وسترى " .. حدقت فيه وهو يلعب بلعبته المفضلة موليا ظهره إياي .. هذه أجمل نبتة في الكون .. انه ظلي .. امتدادي وبقية وجودي . أحسست بلمسة رقيقة على شعري .. كانت يد زوجتي تمر على شعري وتتخلله بكل رقة وحنان تسرب إلى كل خلايا جسدي .. رفعت عيني فالتقت بعينيها الصافيتين العميقتين الممتلئتين حبا ورغبة في الحياة .. سبحت في العينين طويلا .. وعندما عدت للشاطئ نظرت إلى عينيها كرة أخري .. كانتا تمتلئان ماءاً رائقا ما لبث أن عبر حافة أحد الجفنين ليسيل على طول خدها وحتى أسفل ذقنها مختلطا بليل كحل عينها .. كان أمطاراً سوداء تثير الرغبة .. والحب .. والحنان .. لمست يدها التي كانت تربت بها على شعري .. قربتها من شفتي .. فلثمتها . انزلق رداؤها عن عنقها عندما جذبتها إلي برفق .. ملت بشفتي على عنقها الأبيض الناصع .. كان عنقا ناعما .. دافئا .. عطراً .. زايلني قلقي رويداً رويداً وأنا أتنشق رائحة جسدها التي تسللت إلى دمي وهي تصعد إلى رأسي كالخمر .. هويت بشفتي الظامئتين فوق شفتيها الطريتين فوجدتهما مرتعشتين .. محمومتين .. أحاطت عنقي بذراعيها فجذبتها إلي ويداي تحيطان بخصرها .. وعندما ألصقت نهديها على صدري أحسست بارتعاشهما فوق أضلعي الحرّى .. تسللت بشفتي إلى أسفل عنقها كرة أخرى فشعرت بالتوهج .. راودتني في تلك اللحظة المجردة رغبة عنيفة بالبكاء .. قاومت تلك الرغبة بكل ما أوتيت من قوة .. شعرت باقتراب وجداني من حافة الانهيار فتفجر وجعي لحظتها أمطارا ساخنة سالت على نهديها الفائرين مختلطة بعرق جسدها .. ربتت يداها الاثنتان على رأسي .. وصدري .. ثم ضمتني لصدرها محتضنة رأسي بقوة ممزوجة بالحنان والعطف .. دفنت وجهي في نهديها كطفلٍ خائف فتسلل الهدوء لنفسي شيئاً فشيئاً .. شعرت بقطرات ساخنة تنزلق من عينيها منسكبةً فوق شعري .. هدأت أكثر .. ثم .. شعرت بأنني متعب .. متعب جدا .. فرحت في إغفاءةٍ عميقة .
#فارس_حميد_أمانة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شجرة اللبلاب
-
الوصية
-
أضواء على رواية غصن الزيتون لمحمد عبد الحليم عبد الله
-
هكذا كنا ٳ--------ذن
-
بين سيوفنا ودروعنا .. ضاعت لحانا
-
صديقي
-
ما جدوى أن تزرع ورد الليلك ؟
-
في المقهى العتيق
-
تساؤلات
-
هكذا .. أكتبُ فيك قصائدي
-
الطريق
-
اليوم خمر .. وغدا أمر
-
قصة حب
-
أطفال داعش .. اندماج .. أم قنابل مخبأة
-
هدى جرجيس سعيد .. المسيحية -الكافرة-
-
أنا .. ارهابي ( الجزء الثالث والأخير)
-
أنا .. ارهابي .. الجزء الثاني
-
أنا .. ارهابي
-
الرحيل بعد صعود الجلجلة
-
احتراق
المزيد.....
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|