تدور المناقشات وتنشر الكتابات هذه الأيام على عدة محاور بصدد العراق، والحرب على العراق وتغيير حالة العراق ومستقبله بعد التغيير. كما نسمع ونقرأ أطروحات السلام وكيفية إيجاد مخرج لتجنب الحرب على العراق والعمل من أجل الديمقراطية بعيدا عن الإحتلال. كل هذه المحاور مع الأسف هي نتائج، والتأكيد هنا على النتائج جعلت الأسباب شبه منسية، وكأننا فقدنا الوعي بالتاريخ كليا.
ونظل نردد الأحداث المؤلمة التي تواجه شعبنا العراقي، في قلب العالم العربي والإسلامي، والعقل في سبات عميق. والأصوات تتعالى، والحرارة تشتد، والحماس كالجمرة تلتهب وتحمر وتترك وراءها رمادا. فما أكثر هذه المشاهد المؤلمة والحزينة التي نقولها ويقولها الآخرون مثل الحرب العراقية الإيرانية بين أعوام 1980-1988، وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق أو عدم وجودها، حملات الأنفال ضد الكرد وحرق 4000 قرية وقتل 180000 مدني بين أعوام 1987-1988 وإستخدام السلاح الكيماوي في حلبجة الكردية وأهوار جنوب العراق،، تصفية المقاومة الفلسطينية وضرب البنى التحتية للسلطة الوطنية الفلسطينية، تعاون العراق مع أمريكا وإسرائيل أو معاداته لهما، الإعدامات المتلاحقة والمنظمة لأبناء العراق وتصفية رجال الدين الشيعة، إغتصاب آلاف النساء وخطف البنات لمتعة الجنود قبل إرسالهم إلى جبهات القتال، غزو الكويت بعد الإنتهاء من حربه مع إيران ونهب أموال الشعب الكويتي وقتل أسراهم، تعذيب الألاف من العراقيين والإيرانيين والكويتيين وإغتصاب أخوات وأمهات الشباب أمام أعينهم لإجبارهم على الإعترافات، وجود درع الجزيرة في السعودية أو في الكويت، دخول القوات التركية لإحتلال العراق ودعوتها بضرب التجربة الديمقراطية الكردستانية وتجريد الكرد من أسلحتهم ومنع قيام عراق ديمقراطي تعددي فدرالي برلماني، إحتلال أمريكا للعراق أو تحريره وتنصيب حاكم عسكري أو حاكم مدني أمريكي لنهب خيراته أو إعادة بناءه، وجرح الكرامة العراقية التي كانت شامخة في مقاومة الإستعمار من أجل التحرير، محاربة الإسلام وتشجيع عمليات الإرهاب وتمويل الإرهابيين في كل مكان لتشويه سمعة العرب والعراقيين، وكثير كثير.
نعم كل تلك النتائج وكثير غيرها حدثت ولا تزال تحدث أمام أنظار الأنظمة العربية, وبعضها بمباركة هذه الأنظمة، وبمباركة قوى تعتبر نفسها تحررية وتقدمية. وبعد ذلك كما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته معكم:
"ونقول بعد الآن فلتحيا العروبة
مري إذاً في أرض كردستان .. مري يا عروبة
هذا حصاد الصيف هل تبصرين؟
لن تبصري إن كنت من ثقب المدافع تبصرين".
نعم "عار على بغداد ما فيها مُباح" إلاّ دم العراقيين. وعار على كل الذين ساندوا ولا زالوا يساندون صدام حسين ونظامه في قتل الشعب العراقي. أين كان العقل العربي في هذه المأساة؟ وكيف كان العقل العربي يفكر من أجل الديمقراطية والأخوة في ظل الظلم والقهر والقتل والتشرد والحرمان في عراق صدام حيث الدم والحرائق في كل مكان؟
مرة أخرى أقول وبقناعة بأن كل تلك المحاور هي نتائج. وأؤكد بضرورة مناقشة النتائج للعمل على معالجتها، ولكن يجب أن لا تكون المناقشات على حساب الأسباب أو نسيان الاسباب، لأن الأسباب سابقة على النتائج، ولأنه لايمكن إيجاد حلول لهذه النتائج بدون إزالة الأسباب. لأن بقاء الأسباب تؤدي إلى نتائج أكثر مأساة مهما حاولنا عزل النتائج، لأن عزلها لاتعطي حلا للمشكلات المطروحة.
فما هي هذه الأسباب التي نكاد ننساها لنتعرض لنتائج أكثر مأساة وأعظم أثرا؟
أعتقد أنه يمكن حصرها نسبيا في ثلاثة خطوط عريضة. ومن أجل إمكانية فهمها لابد من ربط الماضي بالحاضر والنظر إلى المستقبل. وعليه نقرأ معا عبارتين مؤثرتين قالهما الرئيس المصري الأسبق الراحل جمال عبد الناصر. الأولى بعد فشل الوحدة المصرية السورية بين أعوام 1958-1961 بما معناه: كنا نعتقد بأن العدو الحقيقي هو الإستعمار ولم نكن نعلم بأن الرتل الخامس هو العدو الأول. والثانية بعد نكسة حرب حزيران عام 1967، قال: "عشرون عاما نعمل من أجل السلام ونتحدث عن الحرب، وعشرون عاما تعمل إسرائيل من أجل الحرب وتتحدث عن السلام فكانت النكسة".
يمكننا تحليل العبارتين على ضوء الأحداث الراهنة.
- الإشكالية الأولى لكل هذه النكسات هو نظام صدام حسين والدائرة التي حوله كقوة عدائية تمثل الرتل الخامس الذي حطم إستراتيجية الأمن القومي العربي، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام القوى الأجنبية في إحتلال منطقة الشرق الأوسط، وبناء القواعد العسكرية، وتخدير العقليات العربية.
- الإشكالية الثانية هي إنعدام الديمقراطية في العالم العربي عموما، وكبت الحريات، ومنع الجماهير في التعبير عن إرادتها في المساهمة في صنع القرار. فلا يمكن تحقيق مجتمع الوحدة بمعزل عن الديمقراطية.
- الإشكالية الثالثة هي العقلية العربية التي عجزت وتعجز في مواجهة طغيان صدام حسين، وإرهابه بحق الشعب العراقي بعربه وكرده واقلياته. وهزيمة العقل العربي أمام هذا الإرهاب بعدم صده في ظلمه للشعب العراقي، وتحطيم المثل الإنسانية الخيرة في الجود العربي والتفتح العربي والكرامة العربية، وإظهارهم بمظهر الإرهابيين أعداء الحرية والسلام، في حين أن العرب هم أكثر الأقوام عزة وتسامحا بإستثناء المتطرفين الشوفينيين أمثال صدام وحلقته وشاكلته. ومن هنا تجلى عجز العقلية العربية في مقاومة الإحتلال الأمريكي والإسرائيلي لمنطقة الشرق الأوسط، ودخول العرب في صراعات داخلية قاتلة.
هذه الإشكاليات الثلاثة متلازمة ومتلاحقة ومتممة ومكملة لبعضها البعض, ففيما يتعلق الأمر بصدام حسين، فلا بد من تنحيته وعزله وإسقاط نظامه، وحبذا لو حدث ذلك بوسائل سلمية، لبناء عراق ديمقراطي فدرالي تعددي برلماني، وأهمية أخذ العراق موقعه اللائق في نظام العلاقات الدولية. وهذا أمر يتوقف على قوة الإرادة العربية في مواجهة الأحداث.
أما فيما يتعلق بالإشكالية الثانية وهي إنعدام الديمقراطية ، فإنها تدخل في الإشكالية الرئيسية الثالثة والتي هي طريقة التفكير العربي بالمعنى الكبير للكلمة. فلا زال هناك مَن يدافع عن ظلم صدام حسين ودوره في تشويه سمعة العرب والمسلمين. الإشكالية هي، بصراحة متناهية، أن العقل العربي في إستراحة. والإشكالية هي أن العقل العربي لا يفكر بأسباب هزيمة العرب مرة تلو مرة، ولا يفكر بكل هذه الجرائم اللاإنسانية التي إقترفها نظام صدام حسين، بدعم هذه العقلية حينا ونبذها حينا.
إذن العقل العربي في كسل وسبات عميق. ففي الوقت الحاضر هناك هزيمة واحدة وهي هزيمة العقل العربي. ويبدو أن إستراحة العقل العربي بعد الهزيمة مستمرة حتى إشعار آخر لأن أصوات الدفاع عن صدام حسين وإن كانت ضعيفة لازالت حية.
ما ينبغي دراسته وتحليله هو لماذا يستمر العقل العربي في إستراحته التي دامت ما يقارب العشرين عاما؟ السبب الرئيسي هو مساهمة العقل العربي كقوة عدائية بين العرب أنفسهم، وضعف هذه العقلية في تقبل الديمقراطية، وجعل الإسلام مزاجيا قائما على التكفير والقتل، وعدم القدرة على إيجاد حل واحد لأية مشكلة أثنية أو طائفية تحكم المنطقة، مما أجبر الأخرون بالتوجه نحو الأجنبي، وجعل العرب أنفسهم يعتمدون على الأجنبي. وكل هذه العوامل حطمت إستراتيجية الأمن القومي العربي، وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام القوى الأجنبية في إحتلال منطقة الشرق الأوسط، وبناء القواعد العسكرية، وقيادة الأنظمة العربية؟
كان عقل الشيخ محمد عبده قبل ما يقارب القرن من الزمان أكثر علمية وبراكماتية بالمقارنة مع ما يعانيه العرب من إنقسام اليوم. كان عبده يدعو إلى تجديد الفكر بتجديد الدين، وحدد هدفين إثنين في مطلع سيرة حياته وهما "الأول تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف ... وأما الأمر الثاني، هو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير" (أنظر البرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص 175). أما اليوم فأصبح الدين سياسيا بشريا قابلا للعداء والتعاون مع أعداء الإسلام من اجل المصلحة الذاتية على حساب الدين مثل حزب العدالة والتنمية ذات الجذور الإسلامية.
وكان طه حسين عميد الأدب العربي، من دعاة الفكر العقلاني، دعا إلى عدم التسليم بفكرة قبل دراستها وتمحيصها، مستثنيا بذلك الوحي الإلهي، لكنه أُتُهم بالكفر ولم يكن كافرا، فوجد نفسه في نكبة كالإمام إبن حنبل. أيقظ طه حسين العقل العربي من غفوته وكسله في العشرينات من القرن العشرين. دعا إلى النقد العقلاني ، وعدم قبول فرضية إلاّ بعد التحقق منها بدلا من بناء فرضية على فرضية أخرى ومناقشة الفرضيات دون نقد وتحليل (أنظر طه حسين، في الأدب الحاهلي، ص 66-69). أما اليوم فنادرا ما نجد مَن يقرأ ليستوعب إنما يقرأ على سبيل الهواية. ومن هنا قال عدو العرب والمسلمين موشي دايان الصهيوني في معرض جوابه على سؤال عن أسباب هزيمة العرب: "العرب لا يقرؤون".
العقل العربي كان في سبات عميق حين كشف النظام الصدامي العراقي عن هويته المعادية للأمتين العربية والإسلامية والشعب الكردي والأقليات العراقية والإنسانية منذ أن أصبح صدام حسين رئيسا رسميا للنظام بعد عزله لسلفه أحمد حسن البكر عام 1979. وتجلت الهزيمة بأجلى صورها في الأحداث الثلاثة التالية:
1- غزو القوات العراقية لإيران عام 1980، وتأييد جميع الأنظمة العربية ومنها الكويت وفلسطين بإستثاء سوريا، لذلك الغزو، وإدامة الحرب ثماني سنين. وكان صدام حسين قد منح أمير الكويت في حينه وسام الرافدين من الدرجة الأولى لدعمه السخي لتلك الحرب.
2- الهزيمة الثانية والأمَر هي إستخدام النظام العراقي للسلاح الكيمياوي ضد المدنيين العزل من أبناء الشعب الكردي في كردستان العراق في آذار عام 1988، والشيعة في جنوب العراق، وسكوت الأنظمة العربية عن ذلك العدوان، حتى أن جامعة الدول العربية في إجتماعها المنعقد في تونس في أيلول 1988 وبدعم مباشر من منظمة التحرير الفلسطينية، بتأييد إستراتيجية العراق معتبرا بأن ما يُقال عن إستخدام السلاح الكيمياوي من قبل النظام العراقي حملة أمريكية مستهدفة ضد الأمة العربية.(أنظر صحيفة السفير اليومية، العدد 5075 في 41 أيلول 1988 ). وأكدت منظمة التحرير الفلسطينية التي تسعى لتحرير فلسطين أو أجزاء من فلسطين في تصريحها يوم 20 سبتمبر 1988 بأن الحملة المعلنة من قبل الكونكرس والإدارة الأمريكية تهدف إلى إرهاب العراق وإبتزازه، ونفت إستخدام النظام العراقي للسلاح الكيمياوي ضد الكرد. (أنظر كتابنا، موقف المنظمات الفلسطينية من الكرد وكردستان، ص 45-46). كما شمل السكوت العربي تهجير آلاف الكرد الفيليين وتجريدهم من ممتلكاتهم، إضافة إلى حملات الأنفال الصدامية وحرق آلاف القرى الكردستانية ودفن سكانها أحياء في مقابر جماعية.
3- الهزيمة الثالثة هي غزو الجيش العراقي للكويت وإحتلالها كاملة في أغسطس عام 1990، وبتأييد من المنظمات الفلسطينية واليمن والأردن والسودان . وهنا بلغ الجرح العظم، واستراح العقل العربي، ودخل سجنا دوليا ضيقا، ولم يبق له منفذ إلاّ باللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليدفع ضريبة إستراحته. وفتح كل المنافذ التي تؤدي إلى الشرق الأوسط أمام أمريكا لبناء قواعدها العسكرية، وتنشيط غزوها الفكري للعقل الشرق أوسطي بشكل عام.
الدعوة لعقد مؤتمر قمة عربية إستثنائية أو إعتيادية في الأول من آذار، دعوة لتبرير مواقف الأنظمة العربية في خذلانها من إيقاف عدوان النظام العراقي على شعبه، ودعوة لفشل هذه الأنظمة في صنع السلام. فقد كان العقل العربي في إستراحة منذ حرب الخليج الأولى، والعقل العربي يساهم في العدوان العراقي على حرية إيران والعرب والكرد والإنسانية. والإنسان العربي أصاب بالإحباط, وهو يقاوم النوم ويريد أن ينهض لكنه عاجز لأنه يتعاطى حبوب النوم من الأنظمة التي لا تزال في إستراحة. فالخوف يغزو الإنسان العربي وهو يتحدى أمريكا بصوته، ويخشى من ممارسة الحرية بعقله في ظل القهر. لا زال هناك مَن يؤيد ممارسات النظام العراقي وإستبداد حكم صدام من جهة أخرى. هذه التناقضات حتمية في مواقف متناقضة تجاه ضرب العراق وعزل صدام حسين من السلطة أو تنحية صدام وذهابه إلى المنفى وبناء عراق يعجز فهم مستقبله في خضم الموجات المتناقضة التي تهجم عقله.
في هذه الحالة الإستسلامية نقرأ سؤالين إثنين، أولاهما:
أين هو المثقف العربي؟
وثانيهما: أين هو الإسلام؟
الجواب على السؤال الأول هو أن المثقف العربي يعجز عن ممارسة الإرادة الحرة لأن المثقف يرفض أن يكون تُرسا في آلة. فالمثقف بشكل عام هو غاية بحد ذاتها وليس وسيلة، وإذا ما تحول المثقف إلى وسيلة فإنه يفقد مصداقيته، ويعجز أن يفكر بحرية، وينضم إلى قافلة حراس السلطان.
أما جواب السؤال الثاني فهو أن الإسلام الذي دعى إليه الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وسلم قد تراجع إلى موقع الدفاع بعد سيطرة الإسلام السياسي الذي هو بشكل عام إسلام مزاجي، يدعو إلى التحزب وممارسة العنف والتكفير وما شابه.
وعلى أي حال لابد من نهضة فكرية، وتحرير الفرد العربي من العبودية، والجرأة على ممارسة الحرية بمسؤولية فردية وإجتماعية. ولابد من إنهاء نظام صدام وحكمه، ولكن لا لقتل المدنيين الأبرياء، ولا للأحقاد والضغائن والعداوات.
ولابد من حرية الشعب، ولابد من عراق ديمقراطي فدرالي تعددي برلماني ينعم فيه الشعب العربي والشعب الكردي والأقليات القومية والدينية بحريتهم، ولكن لا لإحتلال العراق والشرق الأوسط. ولا لحكم حاكم يرفض إرادة الشعب ولا للتدخل التركي السافر، ولا لتبديل دكتاتور بدكتاتور آخر. كلنا عراقيون، عراقيون أحرار حتى النهاية.
"نعم للديمقراطية والتحرير وإنتخاب قيادة تمثل إرادة وضمير الشعب. فإلى الحرية نسير بوعي ومسؤولية لتحرير الذات من العبودية، وتحرير الأرض والإنسان العراقيين من الذل والعبودية".
* باحث وكاتب صحفي عراقي