أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سارة في توراة السفح: بقية الفصل الثامن















المزيد.....

سارة في توراة السفح: بقية الفصل الثامن


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6448 - 2019 / 12 / 27 - 20:53
المحور: الادب والفن
    


3
بقيت سارة فترةً أخرى على نفس المنوال، تكتشف الأقارب أسرةً تلو أسرة، وغالباً في آونة النهار. في المقابل، كانت في المنزل تمرّ برقتها ولطفها، مثل طيفٍ بالكاد يشعر به الآخرون. أمّو، دأبت على التواجد في حجرة الضيوف أو الإيوان، تستقبل نسوةً بحاجة لمساعدة مادية أو عينية؛ وذلك لكون زوجها، الزعيم، هوَ المشرف على هذه الأمور. كما لم يكن يخلو الحال من مشورة، تتعلق بنزاع بين الجيران، أو مشكلة عائلية يُستأنس فيها برأيها. في الأثناء، تكون زَري في مملكتها بالمطبخ، لا تود أن يُنازعها أحدٌ على عرشه كائناً من كان.
الرتابة، تورّثُ السأمَ والسقم. فيما تلا من أشهر، لاحظ الحاج حسن مدى ضجر امرأته وهيَ لا تكاد تعمل شيئاً في خلال وجودها بالدار. شاء مناقشتها بالأمر مساء أحد الأيام، وكان الوقت على أعتاب الصيف. لاحت صامتة ساهمة، مثل فراشة جمّدها نورُ المصباح فوق زجاج شفاف. برغم هيبة الرجل وتجهّم وجهه، ما كانت طبيعة امرأته من النوع الوجل والضعيف. رفعت رأسها، حينَ تلقت سؤاله عمن يُضايقها، لتجيب بالقول في صراحة: " لا أحد من جهة نساء الدار، وهن ظريفات معي لا يقبلن أن أمد يدي لعمل من الأعمال اليومية ". ثم أضافت متنهدة، " لكنني لا أريد أن أعيش كالعالة على الآخرين، حتى ولو كانوا أهلي "
" أنتِ قلتها؛ إنهم أهلك. ما زلتِ صغيرة السن ورقيقة العود، لا يرغبون أن تتجشمي مشقة أشغال البيت. إننا أسرة صغيرة العدد، فضلاً عن أن زري يطيب لها القيام بكل شيء "، علّق الحاج بنبرة دافئة. لكنه أردف بعد وهلة تفكير، متسائلاً: " أم أنّ طريقة معيشتنا لا تناسبك، كونها جديدة عليكِ؟ "
" أبداً، لا شكوى لي من هذه الناحية "، ردت ببطء. وشاءت أن تكمل، بأنها لم تجد فرقاً كبيراً بين الريف وهذا الحي المنعزل عن المدينة، لكنها لم تفعل ذلك. ثم تغلبت على ترددها، مفصحةً عما يُسبب لها الغمّ: " لو أننا نقضي الصيفَ في الزبداني، أو جانباً منه على الأقل؟ "
" كان ممكناً ذلك، لو أنّ لدينا فيها منزلاً أو مزرعة "، أوقفَ كلامها بعبارة صارمة. رمقته بنظرة سريعة، وما لبثت أن أخفضت رأسها مستسلمةً للصمت: كان واضحاً، أنّ من العبث ثني الرجل العزيز النفس عن موقفه المتصلّب. عندئذٍ تذكرت بإشفاق كلامَ شملكان، والتي كانت قد أكّدت لها، أن زيارة الزبداني ستكون ممكنة لو جاء خبرٌ مفجع من تلك الجهة.

***
في ربيع العام التالي، وضعت سارة وليدها البكر وكانت السيّدة أديبة إلى جانبها. قبلاً وعلى فترات متقاربة، انتابت الحمى المرأةُ الصغيرة، الحامل، ما جعل رجلها يبعث شخصاً من قبله إلى الزبداني لاستدعاء الأم. كان تصرفاً حكيماً من الزوج، أثنت عليه الحماة كثيراً وذلك غبَّ انتهاء مخاض الابنة إلى النتيجة المرجوة. لكن هذه الأخيرة، وكانت تسبح في بحران الحمّى أثناء الطلق، لم تكد تنتبه لوجود الأم فوق رأسها. بحَسَب ما أفضت به بعد وقتٍ طويل، أنها كانت في الواقع قد غاصت في لجة كابوس رهيب، لعله دهمها قبيل الولادة مباشرةً.
شعرت بنفسها خفيفة، مثل ريشةٍ تتقاذفها أهون النسمات، تطير باتجاه مسقط رأسها عبرَ جبال ووهاد ووديان. ظلت متقلبةً، مرفرفة بلا أجنحة. إلى أن حملتها، على حين فجأة، مركبةٌ مشدودة إلى الخيل. راعها بشدة، أن مَن يقود المركبة لم يكن سوى حوريّة، أرملة جدها، التي وضعت على رأسها خوذةً ذات قرنين. فما لبثت هذه، صارخةً بجنون وعيناها تتوهّجان كحديدٍ محمّى بالنار، أن راحت تطعن بقرنيها بطنَ ابنة غريمتها، المتكوّر بالحمل: " سأخرج ما في رحمك وأرميه إلى أسفل، لينتشله النسرُ وهوَ ما يفتأ محلّقاً في الهواء. لكنك ستلدين غيره، وأنتِ في أرذل العُمر، ليخرج من نسله سلالةٌ كاملة من الأنبياء! ".
حالما عبرت سارة المخاضَ بسلام وفتحت عينيها، خيّل إليها على ضوء مصباح الزيت أنّ مَن يحطن بها هن من تضاعيف ذلك الكابوس؛ نساء بجدائل طويلة وملابس بيضاء، ناصعة ـ كما ريش أجنحتهن، المرفرفة حول المخدع، الملوث بالدم.

4
عامٌ على أثر الزواج، وكان التغيّر لدى سارة في صالح التلاؤم مع البيئة الجديدة، الغريبة. لكنها لم تكن غريبة، تماماً؛ كوننا نعلمُ، أنّ المرأة الصغيرة تجري الدماء الكردية في عروقها. وكانت دماءً زرقاء، إلى حد معيّن. أول من لحظ ذلك التغيّر من خارج العائلة، كانت صديقة الطفولة، فاتي، ابنة المرحومة فوزية خانم، التي أرضعت سارة حليبَ ثديها مع ابنة أخرى رحلت بدَورها عن الدنيا بصورة مبكرة. حدثُ الولادة، كان مناسبة للقاء بالصديقة القديمة، وكانت هذه قد قدمت مع شقيقتها الوحيدة برفقة خادمة نوبية: هذا الجنس من الخدم، النحاسيّ البشرة والفائق الظُرف، انتشرَ في الشام على أثر الغزو المصريّ قبل ما يزيد عن النصف قرن، وكان الناس يشيرون إلى أفراده ذكوراً وإناثاً بصفة " العبيد ".
فاتي، من ناحيتها، أدهشها منذ البدء طلاقة لسان صديقتها باللغة الكردية؛ هما مَن كانتا، فيما مضى من أيام الزبداني، تتخاطبان بطريقة طريفة وملتبسة بسبب ضعف الأولى بالعربية. كون الجو ربيعياً دافئاً، استقبلت سارة ضيفتها في الإيوان. ولم يكن لهذا المكان سوى الاسم، حَسْب. فلم يكن يزيد عن فسحة مسقوفة بين حجرتين، وقد مدت في أرضيته على طول جدرانه الداخلية الثلاثة بسطٌ حائلة اللون مع وسائد مطرزة بألوان حارّة. الضيفة، لم يكن في مقدورها أن تحبس في حلقها هذه الكلمات؛ فما لبثت أنّ أسرّت بها لصديقتها، فيما تلقي نظرة ازدراء على المكان: " يا إلهي، كيفَ يُمكن أن تعيشي في هكذا خرابة، وأنت ابنة العز والجاه؟ ". رداً على السؤال النزق، ابتسمت سارة ثم هزت منكبيها بحركة لا مبالاة. لكن كان يجب أن تمضي سنوات ثلاث تقريباً، قبل أن تستعيد امرأةُ النفاس سؤالَ ضيفتها وتذكّرها به: إذاك، ستكون فاتي على استعداد للعيش في البادية تحت خيم الأعراب، وذلك لخاطر مَن عشقته سراً ثم فرت معه ضمن ملابسات في غاية الغرابة.

***
إن التلاؤم مع مجتمع غريب، والقدرة على بث روح جديدة فيه من خلال المسلك القائم على حُسن المعاملة واللباقة، الصبر وغض البصر عن الأمور غير المجدية.. هذا كله نجحت فيه سارة، وحقّ لها أن تفخر بما أنجزته. ولو أنها لم تفخر بذلك مرةً قط، أو ربما لم تكن تعي تماماً أهمية انجازها. بالطبع، ما تحققَ عليه كان أن يأخذَ وقتاً أطول من ذلك العام، الذي قضته بين ظهراني أسرة رجلها في الحي الكرديّ؛ وهوَ الحي، المشابه لبطلتنا من ناحية التغريب، مع أنه لم ينجح بعدُ في التلاؤم مع جو المدينة الكبيرة وعلى قدم عهده فيها.
كان من نتيجة عودة علاقة سارة مع الصديقة القديمة، أنّ أبويهما صارا يتبادلان الزيارات سواءً بمفردهما أو صُحبة عائلتيهما. محمد آغا، لاحَ أنه استنكفَ عن الزواج مجدداً برغم أنه لم يطعن في السنّ كثيراً. كان في منتصف الحلقة الخامسة من عمره، وما انفك على حيويته وتمتعه بصحة جيدة. لعل توثق صلته بالحاج حسن، كونهما من منبت واحد. الآغا، كان أصلاً من ديريك مازيداغ، التي تبعد قليلاً عن مسقط رأس والديّ الحاج. علاوة طبعاً على مركز هذا الأخير، كزعيم للحي وعالم دين، إلى ما في طبعه من كرم وتواضع ودماثة وحياء.. وهيَ صفات، افتقدها محمد آغا على وجه العموم. لكن كثيراً من الأضداد تتآلف في هذه الحياة، وربما أن ذلك قانونٌ أساسيّ للتطور الإنسانيّ ـ كما يزعم علماءُ الاجتماع، وليسَ علماء الدين على أيّ حال!
فارق السن بين الرجلين، المقدّر بنحو ربع قرن، قابله هوّةٌ مماثلة بين ابنتيهما ولو بسنين أقل ولا شك. على ذلك، بدا غريباً أن تظل فاتي عزبة مع أنها فتاة جذابة، ناهيك عن غنى ووجاهة أسرتها. قد يكون هذا مصدر قلق الفتاة السمراء الناعمة، مثلما يُظهره حركة يديها وعينيها، المفعمتين بالتوتر. الطبع العصبيّ، انتقل إليها من دم أبيها. بينما خصال البساطة والتواضع والكرم، كانت معرّفة بها الأم الراحلة. بيد أنّ هذا، كما رأينا، لم يمنع الفتاة من إبداء مشاعر التبرم والازدراء حينَ زارت سارة ورأت مسكن أسرة زوجها، الرث البائس. فيما عدا ذلك، لم يخفَ على الضيفة، منذئذٍ، أن صديقتها تعيش في وئام مع رجلها وأسرته الصغيرة برغم أن حياتهم ليست في سِعَة وبحبوحة من ناحية المعيشة: محمد آغا، والد فاتي، مع كل غناه من ناحية الثروة والأملاك والعقارات، كان مشهوراً بالشح والحرص. ويُقال، أنه كان على عكس ذلك مع أسرته، الصغيرة بدَورها.

5
كان قد مر زمنٌ لم ترَ فيه ليلى، مع أنهما ارتبطتا بصداقة وثيقة مذ أن تعارفتا قبل عام مضى. سبب ذلك، ما اعترى صديقة سارة من كآبة مستديمة على أثر احتجاز الجندرمة لخطيبها، حينَ كان في الطريق إلى موطن الأسلاف في مهمةٍ كلّفه بها والده. وكان الزعيم قد أسعد قلبَ الفتاة، بمبادرته إطلاق اسم أبيها الراحل، موسي، على ابنه البكر، تأكيداً لما ربطته به من صداقة عُمر أكثر من مجرد القرابة.
في إحدى لقاءات سارة مع صديقتها فاتي، وكان الوقت على مشارف الصيف، دعتها هذه أن ترد الزيارة وذلك لقضاء نهار في مزرعة الأسرة جنوبي الحارة. عندئذٍ أومأت سارة رأسها بالقبول، قبل أن تضيف: " لو كان من الممكن، أود اصطحاب قريبة لزوجي. هيَ في مثل عُمري، تمر منذ فترة بحالة نفسية صعبة بعدما حُجزَ خطيبها لأجل قضاء خدمة الجندية "
" أجل بالطبع، يسرني أيضاً أن أتعرف عليها "، ردت فاتي. ثم تم الاتفاق بينهما، أن يكون صباح يوم الجمعة القادم موعدهما في المزرعة. سارة، كانت في هكذا أحوال تضمن بسهولة ويُسر سماح زوجها بالنزهة، طالما أنّ الأسرة المقصودة لا وجود للرجال بين أفرادها، باستثناء مَن كان يدعى من قبله ب " صديقي العحوز ". مع ذلك، أرسل شقيقته زَري برفقة امرأته بينما بقي طفلهما في رعاية الجدّة؛ هوَ مَن سبقَ وفطم مع بلوغه أربعة أشهر، بسبب شح حليب والدته.
قبلت ليلى فكرة قضاء النهار في البستان، ولكن ليسَ بدون اعتراض في بادئ الأمر؛ كونها لم يسبق أن عرفت المضيفة. امرأة العم الصغيرة، وكانت حاضرة، هيَ مَن حثت ليلى على أن تذهب وتروّح عن نفسها. ثم قالت شملكان، بينما تودع النسوة الثلاث عند باب الدار: " كانت فيّ رغبة بالنزهة، لولا أنّ طفلي يحتاج لمن يرعاه ". ثم أضافت مع ضحكة مجلجلة، " زوجي أيضاً كالطفل، لبس بمقدوره حتى شرب الماء لو لم أقدّم له الكأسَ بيدي ". وإذا بصوت العم أوسمان، يأتي من الداخل أشبه بالصراخ وهو يخاطب امرأته: " على رسلك، يا هذه..! ". ثم ظهرَ على الأثر، وكان بجلباب المنامة، ليضيف فيما نظرته المتناعسة تشمل النسوة الأخريات: " أمس ليلاً، كلّفني الزعيم بتوصيلكن إلى البستان في عربتي ".

***
كان لأسرة محمد آغا مزرعةٌ مزدهرة، تمتد على مساحة كبيرة من القسم الغربي لبساتين الحارة، يحدها مباشرةً أملاكُ آل شمدين آغا بما فيها مسكنهم الصيفيّ. أسهل طريق للمزرعة، كما ارتآه العم أوسمان ـ وهوَ الحوذيّ الحاذق ـ كان ذلك المنحدر من أسفل الزقاق عبرَ الجسر الخشبيّ، القائم على النهر. مع اجتياز العربة للجسر، واصلت من ثم السيرَ باستقامة إلى ناحية بستان المرحوم موسى، وبعدئذ عليها كان الاتجاه يميناً، أين تبدو عن بعد الغيضة؛ بأشجار حورها الصقيلة ومجاهلها الغامضة.
شملكان، كانت قد أخذت مكانها على مجلس الحوذيّ بقرب رجلها، بعدما سبقَ وضغطت عليه بشأن اصطحابها في مهمته ذهاباً وإياباً. كانت تطلق العبارات الطريفة طوال الطريق، فيما تلتفت برأسها إلى النسوة الجالسات في مقعديّ الزبائن كل زوج بمقابل الآخر. كونها الوحيدة المكشوفة الوجه، بملابسها الكردية الجميلة، فإنها دأبت على لفت أنظار المارين على الدرب أو المنهمكين في مشاغل أرضهم الزراعية. شكرت سارة ربها حينئذٍ، لأن الحاج حسن ليسَ من بين أولئك الرجال، المقدّر عليهم مشاهدة منظر شملكان وحركاتها العابثة مع تعليقاتها وضحكاتها الجريئة!
برغم الملاءة السوداء، المكتنفة كامل هيئة امرأة الحاج حسن، كان النسيم العذب يلمس عسل بشرتها ويتغلغل بين السبائك الذهبية لشعرها. عيناها، وكانتا كأنهما قدّتا من لازورد، طفقتا تتأملان الطبيعة الساحرة، المذكّرة بمثيلتها في مسقط رأسها، بالأخص روائح التربة والأسمدة الحيوانية والسواقي والنبات والأزهار البرية. كذلك كان ينفذ لأنفها الوخزُ الحرّيف المحبب لأشجار التين، المتناثرة هنا وهناك، أو لطيب أشجار الجوز، المتطاولة على طول الدرب بقاماتها العملاقة. فرسا العربة، تبادلا الصهيل مع أنداد لهما، تُركوا في أحد مساكب البرسيم يرعون فيها بكسل تحت شمس الصبّاح، الهيّنة المحمل. التفتَ العم أوسمان إلى النسوة، الجالسات في الخلف، ليقول مُشيراً بيده إلى بناء ريفيّ من طابق واحد: " ها هوَ منزل محمد آغا، وأعتقد أنّ ثمة من خرجَ لاستقبالكن ". بالفعل، ما أن توقفت العربة بإزاء المنزل، إلا وفاتي تندفع لملاقاة ضيفاتها، وكانت تتبعها شقيقتها الصغيرة والخادمة. تناولت عندئذٍ شملكان ابنها من بين يديّ زَري، ثم جلست بمكانها على المقعد. هنا، اقتربت ابنة الآغا من الحوذيّ وامرأته لتسلم عليهما. كونها تعرف شملكان من قبل، رجت الزوجَ أن يسمح لها بالانضمام لصحبتهن. رد العم أوسمان بنبرته الساخرة: " كما تشائين، يا صغيرتي، ولو أنني لا أضمن عواقبَ لسانها الثرثار والمهذار! ".
بيد أنّ بقية النسوة سبقنَ شملكان بالثرثرة، ما أن تلاقين بالأحضان مع الكثير من القبلات. غبّ تناولهن الفواكه، المقطوفة للتو، انطلقن في جولةٍ عبرَ المزرعة غشينَ في خلالها أولاً الأسطبلَ، الكائن على طرفها عند السور الغربيّ. هناك أخرجت فاتي حصاناً ذا لون بنيّ قاتم مع عرف غزير أسود: " حصلتُ عليه هديةً من أحد أصدقاء والدي، وكان ضيفاً لدينا في الصيف الفائت. وكنتُ قد تعهدت معالجة الحصان بنفسي، من جرح أصيبَ به في قائمته، وذلك أثناء قدوم صاحبه لزيارتنا ". ثم أردفت مع ابتسامة متخابثة: " لكن ممنوع على البنات ركوبَ الخيل، إلا بعد زواجهن! ". قهقهت شملكان بصوتٍ عال، وكانت أول من أدرك المقصود من العبارة. شاركت الأخريات بالضحك، ثم ما لبثن أن مشين جميعاً على طول السور، المصنوع من فروع الأشجار بطريقة هندسية جميلة.
" هذا المسكن الصيفيّ لآل شمدين، وبالوسع رؤية عبيدهم وهم يقومون بحراسة المكان أو بأشغال الخدمة "، قالتها المضيفة وهيَ تومئ إلى الناحية المحاذية للسور. لكن النسوة لم يرين العبيدَ بعدُ، بل تناهى لأسماعهن صراخٌ آتٍ من تلك الناحية. كانت فاتي ترتدي بنطلونَ ضيّقاً، وكان هذا النوع من الملبس غير مألوفٍ في ذلك الزمن بالنسبة للإناث. ما كان منها سوى القفز برشاقة من فوق السور الواطئ، قائلة لرفيقاتها وقد غلبها الفضول: " سأذهب لأرى ما الخبر، انتظرنني هنا ".
بحَسَب ما أفادت به فاتي لاحقاً، أن الأمرَ تعلقَ بمخاض إحدى النساء. لقد عادت لاهثة كي تقول لصويحباتها: " مضت ساعات دونَ أن تأتي القابلة، والمرأة تبدو على وشك الوضع. إنها فلاحة، تخدم مع رجلها في أرض جيراننا "
" إذا كانت فلاحة، فإنها تستطيع لوحدها إنزال وليدها من بطنها بلا حاجة لأحد! "، علّقت الخادمة النوبية بلكنتها الطريفة. انتهرتها سيدتها، بالقول: " اسكتي، ولا تتكلمي كمن فيه مسٌّ بعقله ". وإذا سارة تتكلم بصوت خافت، كالخجلة: " أعتقد أن في وسعي الحلول مكان القابلة، كوني قد سبقَ لي مساعدة مربيتي في ولادة متعسرة في إحدى القرى القريبة من بلدتنا ".
بذرة حياة بشرية، كانت تنمو إذاً في ذلك المنزل. على المنقلب الآخر، كانت هذه أول تجربة لسارة في إخراج طفلٍ إلى نور الحياة؛ وهيَ من قررت مستقبلها في العمل كقابلة شعبية.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سارة في توراة السفح: الفصل الثامن/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل الثامن/ 1
- سارة في توراة السفح: بقية الفصل السابع
- سارة في توراة السفح: الفصل السابع/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل السابع/ 1
- سارة في توراة السفح: بقية الفصل السادس
- سارة في توراة السفح: مستهل الفصل السادس
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 3
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 1
- سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 3
- سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الرابع
- سارة في توراة السفح: الفصل الثالث/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الثالث/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الثالث/ 3
- سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الثالث


المزيد.....




- حرب الروايات.. هل خسرت إسرائيل رهانها ضد الصحفي الفلسطيني؟
- النسور تنتظر ساعة الصفر: دعوة للثوار السنوسيين في معركة الجب ...
- المسرح في موريتانيا.. إرهاصات بنكهة سياسية وبحث متواصل عن ال ...
- هكذا تعامل الفنان المصري حكيم مع -شائعة- القبض عليه في الإما ...
- -لا أشكل تهديدًا-.. شاهد الحوار بين مذيعة CNN والروبوت الفنا ...
- مسلسل حب بلا حدود الحلقة 40 مترجمة بجودة عالية HDقصة عشق
- “دلعي أطفالك طوال اليوم” اضبط الآن تردد قناة تنه ورنه 2024 ع ...
- -لوحة ترسم فرحة-.. فنانون أردنيون وعرب يقفون مع غزة برسوماته ...
- ويكيبيديا تحسم موقفها وتصف حرب إسرائيل على غزة بأنها -إبادة ...
- في المؤتمر الثالث للملكية الفكرية بالمغرب.. قلق بين شركات ال ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سارة في توراة السفح: بقية الفصل الثامن