|
هارولد بنتر .. و الاستعادة المقدسة لتموز
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 1564 - 2006 / 5 / 28 - 10:38
المحور:
الادب والفن
في كلمته التي ألقاها أثناء تسلمه جائزة ولفرد أوين الشهيرة أظهر هارولد بنتر Harold pinter ( نوبل 2005) تنكره لحتمية المسار التاريخي و من ثم الهيمنة الحضارية أحادية الجانب على الثقافات الأخرى عن طريق الحرب و التدمير ، إنه إنكار للنزوع الهيجلي في فلسفة التاريخ وتوابعه الثقافية و السياسية و الأخلاقية ، فقد ولدت صدمة حرب العراق عند بنتر شعورا قويا بالاشمئزاز من هذا المنظور و انصرف إلى قراءته من منظور إبداعي ، يؤكد فهمه الجزئي لما يسمي بالتاريخ و يؤكد بوعيه و لا وعيه - مثل إليوت و باوند و غيرهما – اندماج الثقافات و تحققه الفريد ، المضاد للهيمنة الثقافية . إن حدث الحرب مولد مباشر للخبرات الثقافية الكامنة في اللا وعي الجمعي للكاتب ، بما تحمله من طابع نصي يتضمن عملية استعادة مقدسة و ضمنية لأساطير تموز في بلاد ما بين النهرين ، و لننظر إلى تلك العلاقة الخفية الوطيدة بين كلمات بنتر النثرية الجارحة و ما تحمله من مدلول إنساني مراوغ لأي خطاب يتخذ موقع السلطة ، يقول :" لكن قيل لنا إن " العالم الحرّ " مختلفٌ عن بقية العالم، لأن ما نفعله مقدّرٌ ومقرَّرٌ أخلاقياً إنه تأكيدٌ هائلٌ على القوة العسكرية المتسببة في مقتل وجرح الآلاف والآلاف من الناس الأبرياء ." إن هيمنة الخطاب حاضرة في صوته الخاص كأنها تجرحه هو و توقف توهج الحياة بداخله رغم أنها تسيره و تحدد ماهيته بوصفه حرا . لقد وقعت عملية استبدال هائلة للوجود البشري من خلال التدمير ، فانفلت الصوت الإبداعي لبنتر من الخطاب الذي يحاول أن يرسم مصيره إلى مجاز تدميري مضاد ، يقول في قصيدة القنابل : لم يعُد لدينا المزيد من كلماتٍ تقال كلُّ ما تبقّـى، القنابل التي تنفجر خارجةً من رؤوسنا التي تمتصُّ ما تبقّـى من دمنا (راجع – بنتر – ترجمة سعدي يوسف – عن موقع kikah ) لقد انفجرت صورة القنابل و تجسدت وحدها في المشهد الكوني بعدما تمت عملية استبدالها لطرفي معادلة الحرب على حد سواء ، إنها تصقل موت النزوع الثقافي المتطور في اتجاه واحد لتعلن أن فعل التدمير المتكرر في قصائد بنتر ، ما هو إلا عملية تعزيم خفية لاستعادة حياة تموز (dumuzi)، كنموذج للإنسان الذي يقبل التبديل و التحول في شكله الكوني بعيدا عن الاختزال المصاحب لمنطق القوة ، و يبدو أن التدمير العسكري يشارك دون وعى في تلك الاستعادة المقدسة التي – فيما أرى - تؤكدها علاقة أساطير العراق القديمة بإشارات بنتر النصية . إن القنابل التي تخرج من الرؤوس ، فتحولها إلى جماجم متطايرة تتوحد بالصمت الكوني الكامن في الأصوات البائدة ، لتفرغها من حضورها الطيفي عقب الموت ، كأنها تؤكده ، لتجعل منه نقطة بدء لدورة وجود قد تطهرت للتو من أشباح الألم ، هل كان العنف تمثيلا حيا لدائرة الوجود في بابل بالأساس ؟ فاستدعى تلك اللحظات الرهيبة في لا وعي بنتر لينتج ثقافة نصره الخاصة ؟ أم أن تموز لا يمكن أن يحيا إلا من خلال دائرة حلزونية من الغياب ؟ لا يمكن الفصل في هذه الاحتمالات الثقافية المتجددة ، لأنها لم تتم أبدا ، فعشتار مازالت تبحث في مخيلتنا عن حضور ملتبس بالغياب ، وبهذا الصدد يذكر جفري بارندر أن موت تموز يؤكد حتمية الموت و كآبة العالم السفلي ، كما يتجلى التدمير بوضوح في أقاصيص الطوفان و انهيار العالم المتواترة في ملاحم بابل ( راجع – جفري بارندر – المعتقدات الدينية لدى الشعوب – ت – إمام عبد الفتاح – المجلس الوطني للثقافة بالكويت سنة 1993 ص 26 و 27 ) دائرة الموت في بابل تعني حياة ... نصرا لاواعيا لوجود لا يمكن تصوره إلا بالقرابين و الاغتسال بالدم و التضحية ، ثم إقامة احتفالية جنسية مضادة للجنس الحامل لمعنى موت الإله و تدميره . إن تفريغ الوجود من المادة يحتمل بدء الاستعادة الكاملة في صورة نبتة جديدة و عودة للمدلول الإبداعي الأول للخبرة الجنسية . هكذا يبدأ بنتر طقوس التدمير و الاستعادة اللاواعية لتموز من خلال الجنس في قصيدة بعنوان الديمقراطية ( democracy ) يقول فيها أنه لم يعد هناك مفر ، فالضربات القاضية على الأبواب ، وسوف يجامع القادمون كل ما يقع عليه بصرك ، فلترقب ظهرك ( عن haroldpinter.org ) يكتب بنتر عن الديمقراطية بمفهومها المجازي الذي يعبث بأصلها ، فمضمون القصيدة يغيب الذات تماما في الفعل الجنسي بوصفه موتا . الجنس هنا شكلي تماما ، فهو يعلق المدلول الجنسي ، كأنه في حالة انتظار . هل هي لحظة الانفجار و الاندماج بالعالم السفلي حيث تبدأ الرحلة الوجودية لتموز ؟ أهو ملك الظلام المستعاد ؟ أم أن الجنس يحتمل الظهور القضيبي و الاحتجاب في وقت واحد ؟ و بصدد تعليق الجنس يكتب جيمس فريزر أنه في النسخة السومرية من تموز تنقطع عاطفة الحب من الشبوب في الصدور أثناء غياب عشتار في البحث عن تموز ، فينسى كل من الإنسان و الحيوان تكثير جنسه ، ويهدد الفناء الحياة أجمعها ( راجع – فريزر – أدونيس أو تموز – ت – جبرا إبراهيم جبرا – المؤسسة العربية للدراسات و النشر – بيروت ط 3 سنة 1983) إن الصمت المصاحب لانتظار الفناء عقب تدمير الإيروس بالإيروس المضاد و هو الموت القادم على أبواب قصيدة بنتر .. هو إنذار بقدوم تموز من خلال رمزية التعاقب الديناميكي للفصول ، كأن تموز في هذه المرحلة يحاكي الموت ليقاومه ، و هنا تبدأ النبتة في الظهور و تتهيأ أفرو ديتي للقاء العاشق ، و تظل هذه الصورة محتملة في عقل بنتر في قصيدة أخرى بعنوان تنبؤ بالطقس ( weather forecast ) يصف فيها جو ذلك اليوم بالغيوم و البرودة الرهيبة ثم حضور الشمس و سطوع القمر ثم رياح شديدة لا شيء بعدها ، لأن هذا البيان لن يحدث بعده شيء فهو الأخير ( عن haroldpinter.org ) تتماس المرحلة التي يصفها بنتر مع يأس عشتار و باقي الموجودات من العثور على تموز ، ومن ثم فالصمت العدمي في قصيدته يحمل حلما خفيا ببهجة الحياة ، التي يجب أن تتخلص تماما من ذكريات التدمير و العواصف الحاجبة لظهور تموز . البيان الأخير إذا يقطع علاقات الحياة و الموت معا في حيادية شعرية واضحة و لكنه يؤسس اعترافا ضمنيا بعملية التنبؤ و الاستعادة في البداية مما يعزز من عملية التعاقب و هي مؤجلة في النص لغلبة التدمير ، ولكنها حاضرة في الاستشراف الكامن في رغبة الذات الراصدة في معرفة ماذا سوف يحدث بعد ذلك ؟ هل كان الصمت التام تضحية لاكتمال الاستعادة ؟ يكتب فريزر عن عملية حلق النساء لرؤوسهن في هيكل عشتار الفينيقي العظيم كتضحية طقسية ، وعلى اللاتي لا يردن التضحية بشعرهن الجميل أن يستسلمن للغرباء في يوم معين من العيد ثم يوقفن ما كسبنه على عشتار ( راجع – جيمس فريزر – مرجع سابق ص 151 و ما بعدها ) التضحية هنا فعل يحاكي الألم لكنه يتضمن بهجة إيروسية كبيرة عند حضور تموز المحتمل و من ثم يمكن النظر إلى غيوم بنتر من خلال فراغ الطقس من حضور الحب ممثلا في تموز ، و يتضمن مسرح بنتر علاقات الحب المؤجلة ، فشخصياته دائمة التبديل و تبحث دائما عن استعادة خفية للماضي بكل مكوناته الحضارية اللاواعية ، فمسرحية الخيانة تتجه في عقل القارئ إلى الماضي من عام 1975 إلى 1968 ليعايش الحدث الأسبق بوعي يخون بكارة حدوثه ، فهو مستعاد في مستقبل محتمل و فيه نعاين عاطفة الحب متوقدة بين جيري و أيما بخلاف البرود الظاهر في بداية النص . إن الاستعادة تخون الماضي و الحاضر .... تقطع روابط الوجود الميتة لتحتفي بالحياة المتخيلة لعشتار في حضور جديد للإيروس يخون الفتور الميت لعبثية العلاقات الإنسانية رغم أن العبث ضروري لإتمام عمليات التضحية و التبديل الذاتي المستمر كأن شيئا لم يحدث أبدا . ذلك هو المدخل لقراءة هارولد بنتر .... صمت تام و نفي للصخب الذي كان يحتل المسرح للتو ... ثم إيحاء قوي غير واع بحضور آخر و بحث مقدس عن ما يملأ الفراغ السابق .
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فرح التفكيك .. قراءة في ديوان لك صفة الينابيع ل .. علاء عبد
...
-
التسامح الحضاري في سيرة نجيب محفوظ و أحلامه
-
الأدب يفجر أسئلة العمل و العمل الافتراضي
-
عبد الرحمن منيف ... الوجه الجمالي للشخصية العربية
-
ما بعد الحداثة... و جماليات التناقض..قراءة في الأشياء الفريد
...
-
مطاردة الفراغ... قراءة في ما بعد الحداثة و ما بعدها و الملام
...
-
الفكر النسائي من قضايا الهوية إلى تجاوز الواقع
-
تحولات المألوف .... قراءة في رقصات مرحة ل محمد حافظ رجب
-
صدمات سياسية ...قراءة في عرض مجاني للجميع لأحمد الشيخ
-
قضايا النشر و اليسار في الحوار المتمدن
-
موسيقى السرد .... قراءة في البغدادية لسعيد الكفراوي
-
تجليات التداخل و التجاور- قراءة في نثار المحو لجمال الغيطاني
-
الذاكرة و استشراف الحياة قراءة في عصافير النيل لإبراهيم أصلا
...
-
سيمفونية الروائح و الأمكنة - قراءة في مجموعة أوتار الماء لمح
...
-
الإنتاجية الإبداعية أهم شروط الإصلاح
-
من الذات إلى أنوثة النص
-
اندماج الثقافات في كولاج إدوار الخراط
-
أحلام نجيب محفوظ مضامين متجددة للتجربة الإنسانية
-
جماليات الإبداع تواكب طفرات البيولوجيا
-
فرجينيا وولف صوت إبداعي متفرد
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|