|
سارة في توراة السفح: بقية الفصل السابع
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6445 - 2019 / 12 / 23 - 23:46
المحور:
الادب والفن
3 وصلت الأخبار إلى الشام، قبل وصول الوزير بمدة جيدة؛ وهيَ مدة، كانت كافية للأعيان وقادة العسكر كي تجتمع كلمتهم على الوقوف بوجهه في أول مناسبة سانحة. في حقيقة الحال، أنهم زعماء الانكشارية مَن ضغطوا على الآخرين لاتخاذ ذلك الموقف المتشدد والمنذر بعواقب جمّة، وكان سبب ذلك نقمتهم على الوزير بسبب واقعة جرت قبل نحو أربع سنوات. بإيجاز، أن السلطان أوعز آنذاك للصدر الأعظم بالقضاء على الانكشارية وكانوا في بداية القرن قد ثاروا على الإصلاحات الجديدة، المفترض أن تُجري دماء جديدة في الخلافة المنهوكة القوى، ما أدى إلى حريق كبير كاد أن يلتهم العاصمة برمتها. منذئذٍ، عمل السلطان بنصيحة الصدر الأعظم على إنشاء وحدات عسكرية موازية تكون قادرة في الوقت المناسب على توجيه ضربة مميتة للانكشارية. وهذا تحقق عام 1826، بهجوم مفاجئ وشامل على معسكرات أولئك المتمردين، تبعه حملة وحشية على عائلاتهم في العاصمة بغيَة زرع اليأس في نفوسهم؛ فتم اغتصاب النساء وسبيهم أو إغراقهم في البوسفور، وقتل الأولاد أو استعبادهم، علاوة على إحراق وتدمير الدور على رؤوس المتحصنين داخلها. الخلاصة، أنّ مَن يدعوه زعماءُ الانكشارية الدمشقية ب " الفاسق "، قد عُيّنَ والياً؛ ولعله جاء ليبيد هذه المرة قواتهم في الولاية السورية، أسوةً بما فعله برفاقهم في الآستانة والأناضول والروملي. على المنقلب الآخر، كان ثمة من يراقب الوضع وعينه على تلك الولاية، المعدة بموقعها الاستراتيجيّ بمثابة الجسر بين بلده ومركز السلطنة: إنه عزيز مصر، محمد علي باشا، الذي كان من الطموح أن يعتبر نفسه أحق بالخلافة من سلالة العثمانيين، بالأخص مع هزائمهم في بلاد المورة والبلقان، لدرجةٍ تجرأت فيها فرنسا على اجتياح الجزائر؛ الواحة الأهم في شمال أفريقيا. وكانت فرنسا تفضل عزيزَ مصر، كعاهلٍ على كرسيّ تاج الآستانة، كونه حليفها التقليديّ، وما ستجني من خلاله من المكاسب على حساب انكلترا، العدوّ اللدودة: صاحبُ العين اليقظة، المراقب للوضع في الولاية السورية، ما لبث أن أوحى للابن، وليّ العهد المأمول، بكتابة رسائل سرية إلى بعض أعيان الشام، يحثهم فيها على التمرد والعصيان مع وعدٍ بالدعم العسكريّ العاجل.
*** لم يكد الوزيرُ، الوالي الجديدُ، يُصدر ضريبة جديدة على التجار، أسماها " رسم الحراسة "، إلا وصبر الأعيان قد نفد. كانوا في انتظار إشارة من زعماء الانكشارية، عندما عجّل توالي الأحداث على الثورة. استُهل الأمر، بشروع عسكر الوالي في اعتقال كل من يرفض الضريبة ومن ثم تجريسه في السوق كي يكون عبرةً لغيره قبل سوقه إلى السجن. في حارة القنوات، المتكئة عليها سرايا الوالي، هاجم العامّة موكبَ التجريس وأطلقوا سراح التجار، ثم ما عتم أن انضم لهم فتية من الحارات الأخرى ليتجهوا جميعاً إلى السرايا ويحاصروها. الوزير، الموجود في السرايا، رد على الغوغاء بقصفٍ مدفعيّ من القلعة طال تلك الحارات. عندئذٍ، وكما كان متوقعاً، اشتعلت الثورة في البلد كله. لما وصل الحال إلى ذلك المآل المطلوب، قام الانكشارية بتوزيع السلاح على كل دمشقيّ قادرٍ على حمله واستعماله. في الأثناء، دبّ الحماسُ في مشايخ الجامع الأموي، وهم يرون الحريم يلتجئن إليه وحداناً وزرافات، فما كان منهم إلا أن اعتلوا المنبر واحداً بأثر الآخر ليحضوا الناسَ على عصيان الفاسق؛ عدو الله ورسوله. بينما حارات الشام قد أضحت جبهة حرب، كانت الأخبار تصل بشكل متواتر إلى الحي الكرديّ. لحُسن حظ حسين، أنّ اليوم جمعة، وإلا لكان من بين المحاصرين في السرايا. مع ذلك، وفيما الرأي العام حوله متحفّظ على ما يجري، بوصفه عصياناً على إرادة خليفة رسول الله، لم يجد هوَ ما يقوله سوى التمتمة من بين شفتيه: " خليفة رسول الله، مَن جعلكم تتركون بلادكم الأشبه بالجنة، لتتوهموا أن القيامة ستحصل في الشام وإليها المُجتبى! ". صديقه وابن عمه، " نيّو "، كانَ منتصباً مثله ووجهه إلى ناحية البلد، أينَ تصاعد دخان الحرائق بفعل القصف. كان هذا دركياً في حامية القلعة، وقد أذعن لمناشدة قريبه ألا يلتحق بالخدمة. لكنه سمعَ ما جدّفَ به هذا الأخير، وكان معتاداً على آرائه. عقّبَ بالقول، محاولاً ألا يبدو رداً: " الأفضل ألا نتورط مع أيّ من الجانبين، وإلا سيحيق بنا نفسُ أسباب الخراب والتي كانت دافعَ هجرة غالبيتنا إلى الشام " " ولكن بشرط أن يبقينا الحيادُ على قيد الحياة، لا أن يحاربنا كلا الطرفين! "، قالها الآخرُ ساخراً. " ليست هذه المرة الأولى، تنشب فيها ثورة على الوالي، بحسَب ما أذكره من حديث قائدنا الطاعن في السن. لكن الوالي اليومَ وزيرٌ، وكان الساعد الأيمن للسلطان في تدمير قوة الانكشارية في عاصمته إلى الأبد. فلو تأخر عن مد وزيره بالدعم العسكريّ، فلن يعدم هذا المساندة من باشاوات الولايات المجاورة " " أنا أيضاً، بدَوري، وصلتني معلوماتٍ ولو أنها من أشخاص لم يشهدوا الثورة الأولى. إلا أن هؤلاء يعتقدون، بأن الوزيرَ لن ينجو من براثن الوحوش الانكشارية؛ كونه جاء على قدميه إلى عرينهم "، تكلم حسين عن يقين محاولاً أيضاً تقمص نبرة معتدلة وموضوعية. وفيما كان السيّدان، القريبان، يتبادلان الحديث، كانت تُسمع من جهة المدينة أصوات الانفجارات. كون الوقت أضحى على شفا المساء، صار بالوسع رؤية النيران تتلظى من تلك الناحية. كل ذلك، بينما أصوات الرجال تتصاعد من مواقفهم على أسطح البيوت، وكانوا يتخاطبون بحماسة على أثر كل قذيفة تسمع أو شعلة نار تُلمح. 4 في ثاني أيام الثورة، كان حسين قد اجتمع مجدداً مع قريبه نيّو عند مدخل الزقاق، المفتوح على الجادة. كان الوقتُ صباحاً، وقد هدأت في خلاله وتيرة القصف مثلما بيّنَ خفوت أصوات الانفجارات، الآتية من جهة المدينة. في الأثناء، كررَ حسين على مسامع نيّو نصيحة الأمس؛ أن من الخطر الذهاب إلى الخدمة فيما الغوغاء منتشرون في الشوارع والسلاح بأيديهم. هما على ذلك، وإذا بفتى حمّال آتٍ على بغلته من ناحية الغرب، يصرخ كمن أصابه مسّ: " الخلق متجمهرون أمام منزل الزعيم شمدين آغا، يطلبون خروجه إليهم كي يطمئنوا إلى سلامتهم ". على الأثر، التقت نظرات القريبين على فكرة واحدة؛ وهيَ أن يُهرعا بدَورهما إلى منزل الزعيم لتبيّن الأحوال. في تلك الحقبة، كان من النادر سيرُ عربة تجرها الخيل في الحارة، وفي مقابل ذلك، اعتاد الناس على استعمال الحمير والبغال في سبيل التنقل إلى الجهات البعيدة؛ بالأخص أسواق المدينة القديمة. كون دار شمدين آغا قريبة نسبياً، والشمس الربيعية مشرقة دافئة، مشى القريبان سيراً على الأقدام إلى تلك الناحية. كان الحال على ما أفاد به ذلك الحمّال، ثمة عند مدخل منزل الزعيم، المحروس من لدُن فتيَة أشداء شاكي السلاح. الساحة، المشكّلة نصف قوس حول المنزل المنيف، كانت مكتظة بأهالي الحي وكذلك جيرانهم الصوالحة؛ كما يُمكن للمرء تمييزه من ملابس كلا الجماعتين. الأصوات أيضاً، كانت متنافرة، لكن غلبَ عليها النطق الكرديّ. بعد نحو نصف ساعة، خرجَ شمدين آغا ليلقى الناس من موقفه على عتبة منزله. وسط الصمت الشامل، الملفوف بالقلق والترقب، حدثهم باللهجة الشامية، وبنبرة هادئة، عما دهمَ البلد من أحداث على خلفية فرض رسم الحراسة ثم وعدهم ألا تتأثر الصالحية بما يجري، مختتماً قوله بذكر آية قرآنية تحض على عدم معصية أولي الأمر. عقبَ ذلك صرخَ عدة أشخاص بالكردية، عن كيفية تأمين الحي ولا سور يحميه ولا أسلحة ثقيلة بحوزة سكانه يردون به أيّ اعتداء محتمل. رفع الزعيم رأسه في أنفة، للرد على تلك الأصوات بنفس اللغة: " داري هي سور الحي، وحراسي مكلفون بحماية كل فرد منه وكما لو كان من أهلي. فاذهبوا إلى أعمالكم وتوكلوا على خالق السموات والأرض ". ثم استدرك بالقول: " أيّ منكم لديه عمل ما في المدينة، ليؤجل السير إليه كي لا يتعرض للأذى من قبل الغوغاء. انقلوا كلامي إلى الآخرين، ولا تشيعوا البلبلة والفوضى لو كنتم حريصين على سلامة الحي ". أراد البعض الكلام، لكن أصواتهم ضاعت مع تصاعد موجة من التهليل والهتافات، المحيية الزعيم شمدين آغا. قال حسين لقريبه، وهما عائدان إلى الحارة: " حسنٌ أنه بهذا الاطمئنان، وهوَ المفترض أن يخشى على أملاكه وثروته ومركزه. أما أولئك الفقراء، فلا شيء يخسرونه ما لو وضعنا موضوعَ الشرف إلى جانب ".
*** الأيام التالية، كانت الأطول في تاريخ المدينة، اختلط فيها الواقع بالتوهم، الرجاء باليأس. ثم كان لظهور النجم المذنب، لعدة ليالٍ، الأثرَ الأكبر في عودة اللغط بشأن القيامة، الموشكة على إنهاء العالم انطلاقاً من الشام الشريف، وذلك بحسَب أحاديث نبوية لم يكن أكثر المواطنين يعرفون شيئاً عنها من قبل. الوالي، أصل المشكلة، كان من سوء حظه أنّ السرايا غير محصنة مثل القلعة، علاوة على قلة المؤن فيها؛ ما أجبره على التفاوض مع الثائرين. الدالي باش الكرديّ، " أجليقين "، كان هو الوسيط بين الطرفين وما لبثَ أن انضم إليه قبجي السلطان، الذي أرسلَ على عجل من الآستانة. أعيان المدينة، وقد تأكدوا من عدم وصول إغاثة للوالي من قبل عسكر الباب العالي أو قوات الباشاوات في المدن الأخرى، اتفقوا على إنشاء سلطة بديلة تنظّم أمور العامّية كما وتسيّر شؤون البلد. لكن حقيقة أخرى، لا يعلم بها سوى نفرٌ من أولئك الأعيان، كانت وراء الخطوة تلك، الجريئة والخطيرة: إبراهيم باشا، ابن عزيز مصر، أوصل لهم بصورة سرية رسالةً تؤكد قرب زحفه مع جيش عرمرم إلى البلاد الشامية لتخليصها من بني عثمان. لعل علاقة الصداقة بآل شمدين، التي ستجعل " موسي "، ابن الحاج حسن وسارة، يعمل وكيلاً لأملاكهم قبل انتقاله لخدمة حسين بك الإيبش ـ كان مبتدأ خبرها في تلك الأيام العاصفة. وكنا نوهنا قبلاً، بكون الزعيم شمدين آغا واسطة حسين في الوظيفة بديوان السرايا. الزعيم، وربما رداً على خطوة الأعيان بتأسيس مجلس العامّية، بادرَ إلى خطوة مماثلة. هكذا وجدَ حسين نفسه عضواً في مجلسٍ، ضمّ شخصيات حي الصالحية من الوجهاء ورجال الدين وقادة العسكر؛ وكان هوَ ممثلاً عن القسم الشرقيّ من الحي. من خلال المجلس، أو بعض أعضائه، نم إليه خبر رسالة إبراهيم باشا المصريّ: نسخة منها، وصلت لشمدين آغا. وكان المرسلُ، بحَسَب ما تبين من تطوّر الأوضاع، قد عوّل على الزعيم الكرديّ في أمر حشد الدعم لغزو بلاد الشام. أما الأحداث التالية، فإنّ الناس أجمعين ألموا بها: الوزير، ما عتمَ أن سقط صريعاً؛ وكان قد سلّم نفسه للمتمردين بحماية الدالي باش الكرديّ وبشرط ضمان سلامته لحين أن يتم ترحيله إلى الآستانة. لقد هاجم الرعاعُ المنزلَ، المحجوز فيه الوالي والقبجي، ثم أضرموا فيه النار. كما تسربت إشاعة زادت من بث الرعب في المدينة، وأفادت أن خال السلطان كان موجوداً في المنزل ووقع ضحية الهجوم مع القبجي والوزير: لقد اقترب قيامُ الساعة حتماً، وفق اعتقاد الخلق، وسيكون إيذانها دمار الشام الوشيك على يد عسكر الباب العالي. 5 " المصريون غير الأتراك، الذين يعاقبون من يقف بوجههم في قسوة لا متناهية "، خاطبَ الزعيمُ شمدين آغا أعضاءَ مجلس الحيّ، ثم أوضح بالقول: " وهذه عكا، أكثر المدن تحصيناً، سقطت بيد إبراهيم باشا بعدما امتنعت عليه مدةً، فلم يكن منه سوى أن عفا عن حاميتها وأعيانها. بل إنه سيّرَ واليها، وكان لسنوات عدوَ المصريين اللدود، إلى القاهرة معززاً مكرّماً، ليبقى في ضيافة أبيه محمد علي باشا ". حديثه هذا، سبقَ أن كرره أمام أعضاء مجلس العامّية، وكانوا قد دعوه للتشاور بشأن وقوع الشام بين كماشتيّ المصريين والعثمانيين. هؤلاء الأخيرين، أذهلهم السقوط السريع لعكا ـ هيَ مَن ردّت نابليون نفسه ـ فحشدوا قواتهم من جميع الولايات السورية. لم يبقَ إذاً أمام الأتراك سوى إخضاع دمشق المتمردة، عنوةً أو برضا أعيانها وعسكرها. عام 1830، انتهى مع تلك الأحداث المثيرة والمستطيرة، التي شهدها حسين إن كانت خيراً أو شراً. ففيه كانت فرحته بشريكة حياته، وحزنه على رحيل أبويه بجائحة الوباء. ثم كانت الجائحة الأخرى الأشد هولاً، بانتفاضة العامّة وما تبعها من مقتل الوزير، حتى قيل إنها من علامات قرب ساعة القيامة. بيد أنّ العام الجديد، وعلى غير المتوقع لدى أكثر الدمشقيين تفاؤلاً، جاء مع علامات السلام والطمأنينة: دخل الغازي المصريّ إلى الشام، ليعلن على الأثر بدء مرحلة جديدة قوامها العدالة والمساواة. لكن إبراهيم باشا لم ينسَ ما فعله الزعيم الكرديّ، بإقناعه أعيان الشام وعسكرها الوقوفَ بوجه جيشه. دار شمدين آغا، أشعلت فيها النيران بأمر الغازي، وكان صاحبها فاراً إلى جهة العثمانيين مع فلول جيشهم المنهزم على أبواب دمشق. لم تمض سوى فترة قصيرة، وفيما انتصارات المصريين تتوالى في وسط سورية وشمالها، إلا وشمدين آغا اقتنعَ بعبث استمراره في صفّ الباب العالي، الضعيف. لما عاد الرجل ليصالح الغازي المصريّ، قال له هذا معتذراً: " مسألة دارك، تعدّت العقابَ. لأننا في حرب؛ ولن يربحها سوى من يُظهر الشدّة والقليل من الرحمة ". مع ذلك، كوفئ الزعيم الكرديّ على ولائه بترميم داره على حساب الغازي، بحيث أضحت أكثر فخامة عن ذي قبل.
*** لأول مرة منذ أشهر عديدة، تنفسَ أهالي الحي الكرديّ هواءً قادماً من جهة المدينة، خالياً من رائحة الدم والبارود. كذلك منظر الشام من علو سفحهم المأهول، وقد صار نقياً من سحب الدخان ولظى النيران، المتسبب بهما انفجار قنابل المتنازعين. أما حسين، فقد آبَ إلى وظيفته بعد إجازة طويلة، شهدَ فيها لأول مرة في حياته واقعتين مثيرتين؛ الثورة والحرب، وإن كانت مشاركته فيهما شبه معدومة. مع موسم حج العام الجديد، وصلته من بعض حجاج موطنه الأول أخبارٌ عن تحالف الأمير بدرخان، أقوى حكّام كردستان، مع الغازي المصريّ. أحدهم، وكان من قريته في مازيداغ، تكلم بطريقة ساذجة عن الموضوع: " بمقابل إمداده لجيش عدو جلالة السلطان بالماشية، حصل الأميرُ على مدفعية يُمكن أن تصل قنابلها إلى الآستانة! ". من هذه الناحية، حتى وإن كانت الأخبار غير مؤكدة تماماً، فإن حسين لا بد واستعاد عندئذٍ نبوءة مفكّري أوروبا، المنقولة على لسان أصدقائه النصارى، من أن الخلافة العثمانية ستندثر بفعل انتفاضات مللها ونحلها مع عوامل اقتصادية بدرجة أساسية. بينما كان الوضعُ في ذلك العام يبدو للجميع مشرقاً بالآمال، فقدت أمّو ابنها الأول وكان جنيناً بعدُ. كأنما هذا الأسى الشخصيّ سيكون مقدمة لمأساة عامة، لن تتأخر في دهم البلاد الشامية برمتها. إذ ما كاد الأهالي يتنفسون الصعداء، بنيلهم الحرية بعيداً عن جور ولاة آل عثمان، إلا والحاكم المعيّن من لدُن المحرر المصريّ يبدأ بالتجنيد الإجباريّ والسخرة إلى جمع السلاح ومصادرته، وذلك تحت طائلة عقوبة الموت للممتنعين. الحاكم، وهوَ أحمد بك اليوسف، مع كونه كرديّ الأصل، أصدر أمراً بحل كافة التشكيلات العسكرية غير النظامية والتي كان قوام أكثرها من أبناء جلدته. مسألة أخرى، سيلعب العثمانيون على وترها الحساس؛ ألا وهيَ العلاقة بين مسلمي البلاد ومسيحييها. لقد مُنحَ هؤلاء الأخيرين، في ظل الهيمنة المصرية، الحريةَ أسوةً بالآخرين، فلم يعُد مسموحاً لأحد إذلالهم عن طريق تمييزهم بالملابس السوداء وركوب الحمير. كون مواكبهم الدينية ممنوعة على مدى قرون، استشاط متعصّبو المدينة غيظاً وسخطاً مع السماح لها بشق شوارع الحي المسيحيّ مع الصلبان والإيقونات وتماثيل المسيح والعذراء. ردة فعل إبراهيم باشا على الحركات المعادية لسلطته، وكانت إرهاصاتها قد ظهرت بين دروز لبنان وحوران، كانت عنيفة للغاية. لقد اعتبرَ أفرادَ كلا الجماعتين، المسلمة والدرزية، بمثابة ناكري جميل بل وعملاء للعثمانيين وحلفائهم الأوروبيين وبالأخص الإنكليز: كناشات المدوّنين الدمشقيين، اتفقت على أنّ الغازي المصريّ كان محقاً، على الأقل فيما يتعلق بالمسلمين، وذلك بمثال الزعيم شمدين آغا. لأن هذا ما عتمَ مع انتشار الثورة على المصريين، أن اتصل بقائد الجيوش العثمانية في موقعه بالشمال كي يُعلن مجدداً الولاء للباب العالي. كان يجب أن يمر ربع قرن على بدء الأحداث تلك، قبل أن تحظى أمّو بمولود آخر بعدما كانت قد فقدت الأمل تقريباً بإمكانية الإنجاب. سنعتمد هذه المرة على كناش الحاج حسن نفسه، لتحديد تاريخ ولادته؛ وهوَ عام 1855. كانت والدته آنذاك في حدود الأربعين، والأغرب أنها وضعت طفلتها، " زَري "، بعد ذلك بنحو عشرة أعوام.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سارة في توراة السفح: الفصل السابع/ 2
-
سارة في توراة السفح: الفصل السابع/ 1
-
سارة في توراة السفح: بقية الفصل السادس
-
سارة في توراة السفح: مستهل الفصل السادس
-
سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 5
-
سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 4
-
سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 3
-
سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 2
-
سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 1
-
سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 5
-
سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 4
-
سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 3
-
سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الرابع
-
سارة في توراة السفح: الفصل الثالث/ 5
-
سارة في توراة السفح: الفصل الثالث/ 4
-
سارة في توراة السفح: الفصل الثالث/ 3
-
سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الثالث
-
سارة في توراة السفح: بقية الفصل الثاني
-
سارة في توراة السفح: الفصل الثاني/ 3
-
سارة في توراة السفح: الفصل الثاني/ 2
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|