|
تجليات الزمن في مرايا النار لحيدر حيدر
سعاد سحنون
الحوار المتمدن-العدد: 6431 - 2019 / 12 / 7 - 19:26
المحور:
الادب والفن
تجــــــــليـــــــات الـــزمن في "مرايا النار" لحيدر حيدر
لطالما أخذت المرآة بؤرة اهتمام المفكرين والأدباء عبر العصور .لكن المرايا تتنوع من زاوية لأخرى فهناك المرايا المحدبة والمقعرة والمسطحة، لكننا اليوم أمام مرايا مختلفة تماما هي مرايا للهب النار المشتعلة لذلك فيحيلنا العنوان إلى اشكالية فحواها أين تكمن العلاقة بين انعكاس واقع المرايا وألسنة النار الملتهبة ؟ واذا كانت تلك النار التي تشعل فتيل القلوب العاشقة والخائنة سواء في حالة الحب أو الحرب فهل منبع الاشتعال واحد؟ يبدو العنوان نوتة سحرية جمالية تجعل القلب يخفق من رهبة النار التي قدسها الانسان عبر عصور ولّت اذ كانت وتزال النار تشكل مصدر انبعاث الخوف والهلع . سيميائية الغلاف : أما الغلاف فقد جاء معبرا عن ألسنة النار الزرقاء التي احتلت وسط الكتاب لتثبت هيمنتها ، فوضع العنوان كبيرا واضحا . ارتسمت وجوه وأرواح تبدوا كأنها شظايا نارية ملتهبة ، تعكسها سواد أزمة أحرقتها الشرور السائلة .فبدت الصورة التي تتوسط سماء الكتاب ككتلة نارية حمراء تميل أحيانا الى الصفار وأخرى للسواد.الصفار الذي يرمز عبر العصور للغيرة و الأمراض والأورام والشحوب البشري ثم يميل الالتهاب للسوداوية وهي الشق المظلم أيضا من الانسان .فمن توهج الصفار الى السواد.يجمعهما احمرار الاشتعال . في قطار الذكريات السريع ، كانت رياح الذكريات تعصف برأس الرجل عصفا،إضافة لضوضاء وثرثرة الأطفال والعجائز .تجره الأحداث إلى بلدة شبه منسية تلك العناية التي كانت تلفه كرضيع في حجر أمه ، كانت تُدلله تلك المرأة العاشقة التي ابتليت بزوج كسيح يجر عربته في بؤس . كان هو الغريب ناجي العبد الله وهي تدعى دميانة. كانت أبواب الشك تدخلها متاهة من التساؤلات حول هذا الرجل المغلف بأظرفة الغموض الغريب ،فهل هو فار من ويلات الحرب في لبنان فعلا كما قدمه العم الصديق لأول وهلة ؟ أم أنه يحمل معه حقائب اسرار لا أحد يعرفها غيره. يتسائل الغريب بينه وبين نفسه «أية فائدة من استرجاع الماضي ؟ ليمت وأبدأ من جديد . أين هي نقطة البداية في الزمن الأعمى؟»(1) تساؤلات فلسفية عميقة تسقطنا في هوة سحيقة من التمعن في خبايا الوجود «أتبدأ أنت الاشياء أم هي التي تبدؤك في اعتراضاها المباغتة واللامعقولة»(2) أجده تساؤلا انطولوجيا عميقا يندرج تحت ما يسمى بثنائية الذات والموضوع ، أو الطرح الكلاسيكي المعروف هل معارفنا نستقيها من ذواتنا الداخلية أم من الخارج وهنا تحوي جدلية أسبقية الوجود المادة الجامدة او الحية . لذلك فلقد أدخلني الكاتب في حالة انهمار للاستشكالات العويصة التي تبحث عن حل. لكن وحده قطار الذكريات المحمل بأعباء الحياة يصفه حيدر ب«ثرثار هذا القطار الذي يشق السهب والهضاب والأودية » (3) ولقد قسم حيدر روايته لعدة أزمان منطلقا من زمن الحكاية مرورا بزمن الورد منتقلا الى زمن العار الذي أوصله الى زمن الهروب و زمن الغيرة ، وفي الحقيقة فأزمنة حيدر ليست هي الازمنة التقليدية التي نعرفها بل هي أزمنة ناطقة بكل أنواع الخزي العربي الذي يمكن تخيله لذلك فقد بدت أزمنته مشحونة بعواطف جياشة عمقها من عمق العربي الجريح ونابعة من محاكاة للواقع المر الذي نعيشه ، لذلك فهي صادقة بعيدة عن التخيل ، فحيدر قد نسج روايته على مخيال الحاضر الذي تمر به الأوطان العربية من تشرذم وتفكك وانقسام.لكن رغم هذا فالشيئ الوحيد المؤكد أن أزمنته تصب في نهر واحد وهو الزمن المعاصر بكل حيثياته الايديولوجية وهمومه ومآزقه. يعود بذاكرته الى الرجل وزوجها وهما يراجعان فواتير نفقات البيت، دوميانة رهينة لنوتة موسيقية تطرب فؤادها المحروم بلهيب نظرتها المفعمة بالرجاء والهوى لتسكب شعلتها في قلب الغريب تراوغه لتشعل فتيل الاغواء وانسكاب عطر الخيانة العظمى، ترتفع أصوات الموسيقى بقدر ضبابية هذه المشاعر المزدحمة «ثمة فرح طفولي جديد في محياك يا دميانة » (4)هكذا تخبرها صديقتها المقربة روزا بان فضح ماء العشق الذي يسري في عروقها ،لم تكن لتخفي عليها سرها الفاضح بأن ابنتها بوران كانت ثمرة فاسدة لخطيئة وتمرغها في وحل القذارة وهي سبب زواجها المبكر من هذا الكسيح الذي أراد ستر فضيحتها مع أخيه.فما عساه أن يقدم هذا الرجل البائس لامرأة أكثر بؤسا وتعاسة أو لهكذا امرأة هاربة من ماضيها الداعر زمن الورد : تترك روحها تعانق الغريب الذي استأجر غرفة لديهم ،يخفق قلبها كقنبلة عندما تكون بين ذراعيه «قل لي هل بين أضلاعك قلب ام قنبلة موقوتة»(5) تتسائل دميانة تمر حلقات ذكرياته مسلسلة على متن ذلك القطار وفي المقصورة المجاورة له أحول بشر يأكل من أضلاعهم الحزن والبؤس والمرض ، طفل صغير ينازع خراب الكريات البيضاء ونقص الأوكسجين في الدم كما تصفه أمه ذلك عن جهل بمرضه الحقيقي إلاّ بعد تحول المشهد إلى مأتم ، راح يهرب من طنين الرّكاب ومرض الطفل المزمن حتى غطّ في نوم ولو للحظات قصيرة بين اليقظة والنّوم . داهمته صور أمواج المدن المحترقة وأصوات الاستغاثات ، وأسرته التي أبيدت بالقنابل اليدوية .يصف كل ذلك الخراب « وحش الشرق الذي تشرق منه الشمس »(6). بروح معطوبة تترجاه المرأة العاشقة للرجال أن يطيل البقاء بجوارها وأن لا يرحل .ولكي يخفف من عبئ ذاكرته المثقلة المتلاطمة بين الهروب من طائر الموت والخراب يرمي بنفسه إلى زاوية من البار فتنتعش ذاكرته برائحة الماضي البعيد وعبق ورود دميانا والأرض التي تبلل عشبها مع زخات الأمطار ، لكن بعد كل تلك الأهوال والرماد تغيب شمس الأمل وتتعالى أصوات البار وضوضاء الوجوه الهاربة من الواقع المر ، لا شيئ يفوح دخانه سوى الألم المكلل بالعطب وبقايا مدن باهتة «شبيهة بألف ليلة وليلة من حكايا شهرزاد»(7) وروائح أسواق غير منعشة والتي باتت شبه صحراء قاحلة تعج برائحة النابالم . بدأت تظهر الأعراض الأولى للفيروس على شكل وساوس وهلاوس .في بلده الصغيرة تمخضت من رحم الكآبة والضجر ، تمازجت فيها أنغام الرتابة والملل والثرثرة الفارغة .وفي حلكة كل هذا الظلام والبؤس لا يعني شيئا حب امرأة لرجل يصفه الكاتب «حب في الزمن الكلبي » (8) يواصل تشاؤمه البودليري ، يستحضر كل أزهار الشر ويسكبها في مزهرية خزفها الوجع اللامتناهي «سلام حزين ، كما الضباب في غروب خريفي »(9) هكذا كان سلامه يغرق في سماء ضبابية وبنزعة أكثر شؤما من المعري وابن الرومي يصف المذابح التي جرت عن الطائفية والتشتت الأعمى في الدول العربية «وقال للجثث التي ردمت في المدائن الجماعية نامي أيتها الرمم المغدورة بهدوء» (10) لا يتوقف عند هذا الحد من وصف للحزن الذي يطوق الأمكنة «حزن قادم مع أجيج البحر كنواح طيور فقدت فراخها في غمرة عاصفة » (11) .ففي غمرة كل هذه السحب الطوفانية وزفرات الآلام الحادة ، والجثث المرمية وصفعات الرياح القاسية دميانة لا ترى نفسها سوى حشرة أو مومس في عين صاحبها .لكنه لا ينكر ذلك بأنها "امرأة قديسة في عصور العار"هي كذلك في زمن يفجر فيه الانسان بكل وحشية وغدر بقنابل بدائية . يصف أحداث سوريا في النصف الأخير من القرن العشرين أنها تغرق في عرس دم أحمر عربي فنلمس ترهينا للنص الشعري " في الحانة القديمة" ، وكأن بصمة روح مضفر النواب ترفرق في سماء المتن الحيدري حينما قال : فَلَمْ يتلوّث منك سوى اللّحم الفاني فالبعض يبيع اليابس والأخضر . ملهم أنت يا مضفر لأحسن وصف لكشف المستور العربي ، فأي عهر وسادية وتوحش أكثر من أن تفجر أشلاء انسان وتضج رائحة جنون القتل وسفك الدم من زمن يفوح بالفساد والعفن والبوهيمية وتغيب فيه كل معالم الهيومانية «بدت جراثيم الشك تنمو وتتجسم في خلايا الرجل المخدوع »(12) من بين مراياه المحطمة التي تشوه وجه هذه الأسرة الغارقة في ضباب الخيانة وهذه الطفلة اللقيطة ، وذات نقاش دار بين ناجي وعبد الرحمن عن المرأة صرح عبد الرحمن أن تلك «المرأة هي الشر المطلق» (13)في حين أن ناجي يرى أن المرأة "الحاملة للدكتوراه لا تختلف عن راعية الغنم" لكن الرجال هل هم ملائكة ؟ . تلك المرآة المهشمة لا توضح إلا تقاسيم حوار يبتعد عن ملامح الموضوعية . ولا يزال القطار يبعث بعجلات الماضي السحيق تحت أفئدة الزمن الوحش ، تقبع السحب السوداء التي تخفي تهاليل الأمجاد والهتافات الزائفة .اشعة الليل تواري نواح العزلة .هي ليلة ستفضح فيها كل المكبوت وخلاصتها ليلة التمني لو التقيا في زمن آخر ، فهذا الزمن الموبوء بالهستيريا وصراخ الأموات .زمن مخضب بالدم والقذارة .لينتهي بعدها حيدر الى وصف فينومولوجي بأنه «زمن العار» زمن يشيئ فيه الانسان وتموت فيه الجمل والعبارات .هاهي ذاكرته تطل مجددا على مشهد مرعب لصديقته التي انتهك عرضها ثم قذفت كنفاية في النهر مشهد فولتيري شبيه ببطلة كانديد وهي تحت وطأة البلغار الذين تفننوا في قتل الأب وتقطيع الأم الى أجزاء صغيرة «مشهد مرعب من الفتك البربري والوحشية والاغتصاب لمدينة تحولت الى خرائب وأنقاض»(14).لذلك فلا بد من زمن آخر يهرب فيه الانسان من نفسه زمن جنون وتوحش الآخر ، لذلك يلج حيدر زمنا آخر وهو : زمن الهروب : إنه زمن الفرار من الطغاة والبغاة ومن أصحاب الضمائر المغتالة ، لكنه حتى في هذا الزمن المنفلت من الكون فلا مفر من شبح الموت ، لقد فارق الطفل هذه الحياة لكن وبالرغم من موته المؤكد إلا أن أمه ظلت تهدده وتصبر نفسها بأنه قد أخذ قيلولته فحسب ، هو مشهد درامي آخر يصور وحشية هذا الزمن الحيواني الغارق حتى النخاع في بحر الكآبة ، وصورة لتشوه الانسان في حالة الاظطهاد والحروب ، صورة أم تلطم وجهها وتضرب صدرها بكفها .تصرخ وتندب فلذة كبدها المغدور ، تنشج كلبؤة جريحة «نادهة بأصوات لا بشرية عبر مزيج من الفحيح والعواء والثغاء والنشيج والأنين المثكول » (15) وبعد عاصفة النواح والموت ، فالكل ميت وعلى حد تعبيره "جميعنا موتى في هذا الوقت الغارب..وما جراح الميت بمؤلمة "هنا تظهر فلسفته العدمية والتي تتسم بمسلمات أساسية وهي العزلة –القابلية للفناء –تسرب الزمن-تحلل الجسد وغيرها من السقطات في اللامعنى .انه زمن التشظي وتفكك الانسان وانسلاخه من جلد الانسانية وتفريغ محتواه إلى مجرد كينونة شبحية تطل من أدغال الجحيم . وكحوار عقلاني بعيدا عن شهوة الجسد فلا معنى لأي علاقة إلا بعد إبادة هؤلاء الوحوش الضارية التي تلبس أقنعة الانسان «أي شيء لا معنى له قبل ابادة هذه السلالة البربرية .سلالة البدو والرعاة .همج القرن العشرين » (16) أي لا حب ولا سلام إلا بعد تنصيب مقصلات تقطع رؤوس الطواغيت الذين يتحكمون بمصائر الشعوب فهم مجرد «وباء وطواعين وجراثيم عصية على الاستئصال» (17).يخاطب حبيبته دميانة:«نحن الآن ياعزيزتي دميانة في عصر الزواحف بينما البشر الآخرون يغزون الكواكب » (18) مقولته هذه تكشف بؤس العالم العربي اننا نزحف كميدوسا برؤوس الأفاعي الرقطاء الزاحفة فوق جثث متحجرة ولا زلنا نبني قلاعا من الدم كالوحوش الضارية ونقتلع الأمل من جذوره ونستئصل كل يمد بصلة للانسان «وبينما نحن نتناحر من أجل الخبث والجبروت العربي الآخر الغربي قد اخترق أقطاب الأرض ونفذ الى أقطار ماوراء الكواكب.هل فهمت ما أعنيه عن موت الحب وموت الانسان فينا ؟»19 وقد كان تساؤلا عميقا يحمل عدّة اشكالات أهمها كيف أفرغ هذا الانسان من محتواه البشري ليحل مكانه الخراب الروحي ؟ ومن سيمتص كل هذا الغضب والمرارة الطافحة إلا الحانات وأحضان بولينا الدافئة . لكن لم يحدث ذلك بقدر ما جمعهما حوار حول ما حدث في حرب لبنان والشرق وحول انحدار منظومة القيم ، وقد كانت أجواء البار مختمرة بكل ألوان الحقارة والانحطاط يحس الناجي بمرارة الحوارات في كل مكان وكأن الأماكن تكرر نفسها بنفس المشاهد المأساوية ، فالانسان هو الانسان سواء داخل البار أو خارجه إذ تعددت المشارب والسكر واحد . تتسائل بولينا في أسى «كيف يكون الانسان انسانا وهو جائع ؟»(20) وحده الجسد يتلطخ في الوحل والمهانة والقذارة ، لذلك فلقد حمل الناجي على عاتقه الاستجابة لاستغاثة الروح التي يكتسيها اللحم الفاني.هي بولينا هذا الوجه الهارب من ايقاع الفاسدين وأغلال الرغبة سائمة من المراوغة والكذب على نفسها تتوق لتغسل الروح من زيف الجسد. عند الثمالة بخمر البؤس تتكرر صور ذكرياته المزرية رغم مرارة القهوة ، تهلوس حمى الهذيان بكل قذارات العالم بالدود الابيض وماء النفط والمراحيض ، حمى الموت كإعصار يعتصر وجهه كحبة ليمون يستغيث كأنه داخل حفرة ضيقة يسقط فارس أحلامها من عينها فهل هو فعلا ذلك الرجل الذي كانت تحلم به أن يغطيها من صواعق البرد ونزلات الخذلان هو الآن يهلوس ويبدو كقشة هشة ينازع زفرات الحمى وأطياف الموتى.ورغم ذلك فالحب يرسخ أقدامه وتواجده خالد كالبحر لا يموت . هذا هو الزمن المائع الغارق في ضبابية الليل .زمن توارت فيه الاحلام واندثرت في المجهول ، زمن «تساوى فيه الأموات والأحلام» (21) .إنه زمن عدمي يقودنا الى العراء واللاشيئ . هي متاهة امرأة مدنسة لأنها أنثى في بلاد المسلمين تبحث عن أخذ ثأرها من مرايا محترقة الأجواء لا تعكس سوى انكسارات لأزمنة مشوهة الملامح وبشر تحولوا أشباحا ورمادا تحت الانقاض وجثث مرمية تدك في مقابر جماعية ودنس وعهر واغتصاب وتنكيل وأجساد مرمية في البحر كنفايات كلاب . في كل هذا البريق الشيطاني تومض شرارة النار الملتهبة من قلبها المسجى بالخطايا والأنين .تنتابها الرغبة للانتقام من عهرها ومن سخطها على الزمن الذي لا يرحم، وبكامل قوتها تضغط عليه بالوسادة لا لتنهي أنفاسه فحسب بل ليتخلص منه ومن تاريخه المشؤوم المضرج بالموتى «إلى الجحيم أيها الرجل البائس أنت وموتاك وتاريخك» (22) لكن وحده الحب بإمكانه إنقاذ أرواح الموتى. بدت تلك الليلة كمعجزة ليلة القدرعلى حد تعبيره ولكن رغم ذلك الحب المحرم الكبير فلقد جهز نفسه للرحيل والابتعاد . لا يزال يشق طريقه على متن القطار ولا تزال حسرة الأم على فراق فلذة كبدها يتمزق قلبها الملدوغ فترمي بنفسها تحت عجلات القطار السريعة لتلتحق بعالم الأموات. زمن الغيرة : بعد رحلة الهروب من الفضيحة والعار ، جاء هذا الغريب ليفضح المستور مرة أخرى ، جاء ليعكر صفو الحياة التي بدت كأنها ستستقر قليلا قبل أن يحل على الأسرة هذا الغريب كشيطان جاء ليوقظ الفتنة التي قد نامت من سنين ، جاء لينزع غطاء العفة على دميانة وعالمها المنحل وليدغدغ فيها المرأة الأنثى التي كانت نائمة في جوف الخيانة ليداعب أيامها المضمخة بالانحلال والفسق والفجور «عالم دميانة ، فتاة مليلة سليلة أكاديميات الفساد المعاصر» (23) يدخل الرّجل وزوجته في شجار عنيف تنعته وينعتها بأقبح الشتائم هو يصفها بالبغية وهي تنعته بالكلب المقعد وبالديوث العاجز. يسود الصّمت المريع إلا من عجلات القطار ولاسيما بعد النهاية المأساوية للعجوز وحفيدها .وبينما كان محنط ذكراه صوب الانتقام والثأر لأهله الذين اغتالوهم غدرا كانت هي تحدثه عن تجاوز تلك المحطة السوداوية من حياته ومسحها من مخيلته . تتهاطل الذكريات على رأسه من سحابة الماضي البعيد .يأتيه صوت ابيه قبل تسربله بالدم وكتابه المقدس يتذكر مجرى الحوار الذي جمعهما حول ارتحاله الى فرنسا ولجامعة السوربون تحديدا .كان الحلم يبدوا ورديا هو ذاته الحلم الذي جعله يخسر أحب الناس الى قلبه فتاته وأباه ، ذلك الحلم الذي جعل أباه المحمل بالمعتقدات والموروثات المعروفة اتجاه بلاد الغرب فكيف يذهب الى بلاد الأعداء والكفار ناهرا إياه في كل مرة يتجادلان فيها مزينا أدلته بأنه «لا ينبغي أن ترسخ في عقلك أن الشرق والإسلام هما ينبوع الحضارة »(24) فكان الصدام مع الأب يتصاعد لدرجة التهديد بالطرد من البيت ، ويتهم في النهاية بتأثره بخاله الذي كان رجلا مستنيرا مولعا بكتب الأدب والسياسة وقد زار أوروبا أكثر من مرة رغم أنه سجن وعذب إلا أنه كان دوما يرد أمنيته لأخته أنه بمثابة والد له ويتمنى أن يكمل دراسته بالخارج هروبا من التفكير البطريكي المتخلف كما كان يصف الأب بأنه لا يزال يعيش بتفكير القرون الوسطى «وخلايا عقله يحتلها الله والنبي والخليفة والشرطي ورب الأسرة أي السلطة الابوية والمركزية والتفكير» (25) ولقد كان يرى في ناجي طفلا ذكيا بل شابا ذو عقل مستنير منفتح على العالم ،يستطرد قائلا :«العقل هو الله في هذا الزمن الفاسد» (26) هذا الزمن المكلل بكل أنواع الهمجية والدوغمائية . لا يندم الخال على تشويه ملامحه ولا لعطبه الجسدي بقدر ما يفتخر بها كوسام وبصمة إمضاء دالة على جبروتهم وقمعهم للانسانية وللحريات ورمز ظلاميتهم التي سيدونها التاريخ الملعون .لكن نبرته لم تخلو من التفاؤل بمستقبل أفضل «نحن شمس العالم القادمة وهم الظلمة الراهنة وناجي الآن يتجه نحو الضوء » (27) لكن هل يوجد ضوء فعلا في خضم كل هذا الظلام المريع وهذا الاغتراب ؟. كمجرم طريد تتوعده الأقدار في كل المحطات وسائر إلى مدينة التيه لا يعرف أي أرض سيحط رحاله فيها .وهو مجرد رجل أعزل تشده أسلحة ظلامية الى عالم عدمي تحاصره أحلام آيلة للجحيم لكن دميانة كانت لا تفكر إلا بتلك اللحظات التي تجمع بينهما . تجره خريطة الذاكرة الى تلك المواجهة التي دارت بينه وبين عبد الرحمان الناجي زوج دميانة فيتهمه الزوج بتلويث الخبز والملح وخيانة العشرة، وبينما كان يحلق بذاكرته عاليا تلوح أسراب اللّقلق المهاجرة «وكأنها ترقص بدوائر إهليلجية يتمنى لو تأخذه معها » (28) كأن دورانها كقصته مع الزوج المغدور ودميانة العاشقة المطرزة بكل أنواع الاغواء كأفعى رقطاء ملساء تطالب بالمستحيل لتغرد خارج سرب الماضي وتحل هي في زمرة دمه تسري عبر ارتجاج في المخ وتناثر الآلام . فكل العواطف تدور في لجج من الضياع وزمن العمي والعري والتدجين والتهريج والتوثن تضن أن الحب سيوغل في الكون فيكونا بداية للكون ونهايته فهل للأنثى وهيجانات الروح والصراخ القادم من عالم يستغيث وجثث تشتعل ودوي للقنابل حيث تحاكم الأحلام وتغتال الرؤى وتحنط كالأصنام أن تنقذه من موته المؤكد والمحتوم . وهكذا التهمت النيران حيرة كل صفحات الرواية لتسطر نهاية اغريقية فتغلق شهرزاد حكايتها في زمن متعدد الرؤى فتنوع الاشتعال المؤدي الى طريق واحد وهو الموت النابع من أعماق مرايا تعكس أشعة الاحتراق الملتهب في قلب الوطن العربي. سعاد سحنون/ الجزائر . مراجع وهوامش : 1-حيدر حيدر ، مرايا النار (سوريا :دار الحصاد للنشر والتوزيع،ط3 ،2000)ص 26 . 2-المصدر نفسه ، نفس الصفحة . 3-المصدر نفسه ، نفس الصفحة . 4- المصدر نفسه ، ص28 . 5- المصدر نفسه، ص39 . 6- المصدر نفسه ، ص 40 . 7- المصدر نفسه ، ص44 . 8- المصدر نفسه ، ص59 . 9- المصدر نفسه ، نفس الصفحة. 10- المصدر نفسه ، نفس الصفحة. 11- المصدر نفسه ، نفس الصفحة. 12- المصدر نفسه ، ص 62 . 13- المصدر نفسه ، نفس الصفحة. 14- المصدر نفسه ، ص 73. 15- المصدر نفسه ، ص 84 . 16- المصدر نفسه ، ص 86. 17- المصدر نفسه ، نفس الصفحة. 18- المصدر نفسه ، نفس الصفحة. 19- المصدر نفسه ، نفس الصفحة. 20- المصدر نفسه ، ص89. 21- المصدر نفسه ، ص97 . 22- المصدر نفسه ، ص98 . 23- المصدر نفسه ، ص106 . 24- المصدر نفسه ، ص 116 . 25- المصدر نفسه ، ص117. 26- المصدر نفسه ،نفس الصفحة. 27- المصدر نفسه ، ص118 . 28- المصدر نفسه ، ص121 .
#سعاد_سحنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تجليات الزمن في مرايا النار لحيدر حيدر
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|