|
عالم الصور الإفلاطوني
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6393 - 2019 / 10 / 28 - 12:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إفلاطون في كتاب "الجمهورية"، في تحليله لفكرة الخير، يبدأ أولا بالتأكيد على كثرة الأشياء في العالم، كثرة من الأشياء الجميلة ، كثرة من الأشياء الخيرة، وكثرة من كل الأشياء الأخرى. ولكن هناك من ناحية أخرى "الجميل في ذاته، والخير في ذاته، وكذلك الحال في جميع الأشياء الكثيرة، والتي يكون لكل منها مثاله الواحد، وهو الذي نسميه بماهية الحقيقة (…) ولنضف إلى ذلك أن الأشياء الكثيرة تُـرى ولا تُعقل، على حين أن المُثل تُعقل ولا ترى". هكذا يقدم إفلاطون عن طريق التفرقة بين الأشياء والمُثل تحليله لما يرى وما لا يُرى، حيث يشرح حاسة البصر وكونها الحاسة الوحيدة التي تحتاج إلى شيء ثالث غير العين والموضوع الذي تبصره، وهذا العنصر الجديد هو الضوء. فالرابطة التي تجمع بين حاسة الإبصار وإمكانية رؤية الشيء هي رابطة أرفع قيمة بكثير من كل الروابط التي تجمع بين بقية الحواس وموضوعاتها. المرء عندما ينظر إلى أشياء لا ينيرها ضوء النهار، فإنه يبدو كالأعمى ويفقد القدرة على التمييز بين الأشياء، وكذلك الأمر بالنسبة للنفس، فعندما تثبت نظرتها على شيء تنيره الحقيقة ويضيئه، تدركه في الحال، وتعلمه وتعقله. أما إذا وجهت نظرتها إلى عالم الأشياء المعتم، عالم الكون والفساد، فإن إبصارها يظلم ولا يعود لديها إلا الظنون، وتروح بها الآراء وتغدو بلا إستقرار، وكأنها قد عدمت كل عقل. "مثال" الخير إذا هو علة العلم والحقيقة، وهو ما يضفي الحقيقة على موضوعات المعرفة، ويضفي ملكة المعرفة على العارف. و"مثال" الخير يتجاوز الحقيقة والمعرفة ويسمو عليهما. فكما أن النور والإبصار في العالم المحسوس ليس هما الشمس ذاتها، فكذلك في العالم المعقول، العلم والحقيقة شبيهان بالخير ولكنهما ليس الخير ذاته، إذ أن طبيعة الخير تسمو حتى على مكانة العلم والحقيقة. ثم يعود إفلاطون إبتداء من فكرة الخير إلى تحديد أربعة مراحل للمعرفة حسب هاتين القوتين، قوة الخير التي تتحكم في عالم أو جنس المعقولات، والقوة الأخرى التي تتحكم في العالم المنظور أو المحسوس. ويقسم كلا من العالم المنظور والمعقول بدورهما إلى قسمين حسب درجة الوضوح والغموض. "وهكذا يكون لديك في العالم المنظور قسم أول يعبر عن الصور: وأعني بالصور الظلاال أولا ثم الإنعكاسات والأشباح المنطبعة في المياه وعلى أوجه الأجسام المعتمة المصقولة اللامعة، وكل التمثلات الأخرى المشابهة" أي كل ما نسميه اليوم بالصور Images. أما الجزء الثاني من عالم المحسوسات، فهو يشمل بطبيعة الحال كل الأشياء الواقعية - التي كان الجزء الأول يمثل صورها - أي كل الكائنات الحية وكل ما صنعته الطبيعة والإنسان. أما العالم المعقول فهو بدوره ينقسم إلى جزئين، عالم الصور أو المُثل، حيث يتخذ الذهن الأشياء الواقعية التي كانت أصولا في العالم المحسوس على أنها صور ومثل ولكنها تعد أوضح من الظلاال والإنعكاسات المحسوسة، لأنها صور ذهنية ومسلمات ولكنها لا تستطيع الرقي إلى المبدأ الأول. وهذا الجزء يخص عالم التجريد كالهندسة والعلوم المتصلة بها. أما الجزء الثاني من عالم المعقولات فهو المعرفة العقلية الديالكتيكية المباشرة، "بحيث لا ينظر العقل إلى مسلماته على أنها مباديء، وإنما مجرد فروض، أشبه بدرجات ونقاط إرتكاز تمكننا من الإرتقاء إلى المبدأ الأول لكل شيء، والذي يعلو على كل الفروض. ويقول إفلاطون في النهاية مخاطبا غلوكون "والآن، ففي وسعك أن تجد ما يطابق هذه الأحوال الأربعة في الأحوال الذهنية الآتية: فالعقل أرفعها، والفهم هو التالي له، والإعتقاد أو الإيمان هو الثالث، والتخيل هو الأخير". عالم "العقل" هو عالم المعرفة الدياليكتيكية المباشرة والتي لا تستند إلى أية مسلمات حسية، وهو العالم الأكثر يقينية، ثم عالم "الفهم" وهو عالم التصورات المبنية على تجريد العالم الواقعي من طابعه الحسي، كالهندسة والرياضيات، ثم عالم "الإدراك الحسي" للأشياء المحيطة بنا بواسطة الحواس، وهي معرفة مشكوك في وضوحها ومصداقيتها نتيجة إعتمادها على الحواس المتغيرة والتي يمكن أن تخدعنا لأنها تعتمد على العديد من العناصر الخارجية والذاتية التي يصعب التأكد منها، وأخيرا عالم الصور والخيال والأحلام والظلال، وكل ما يتعلق بالفن والشعر وهو عالم الأوهام ولا يمدنا بأية معرفة يقينية.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحجر المجوف
-
خارطة القبور
-
بلد العميان
-
العين وآلية الرؤية
-
إنتحار إنكيدو
-
الأشباح، وظاهرة الشخص الثالث
-
أفيون الفقراء
-
العار والمحبرة
-
والتر بنيامين وتجربة الحشيش
-
مقبرة الكلاب
-
بذور القلق
-
الفن والحشيش
-
الوجه المثقوب
-
العقل المخدر
-
شكسبير والحشيش
-
تصفيف أولي
-
اللسان المقطوع
-
ساندويتش من الضوء والمطر
-
الجسر الوهمي
-
عودة إنكيدو
المزيد.....
-
اكتشاف ثالث حالة إصابة بجدري القردة في بريطانيا خلال أقل من
...
-
حضور روسي مميز بمعرض ليبيا للأغذية
-
ترامب يتحدث عن -مشاورات جادة- لإنهاء الحرب بأوكرانيا
-
حسان دياب يكشف خفايا مهمة عن انفجار مرفأ بيروت
-
تحالف دجلة والفرات.. أفكار كاراكوتش تعود للواجهة
-
الشركات الأهلية حلقة من حلقات البناء القاعدي الشعبوي
-
بوعز.. تفاصيل جديدة عن الإيراني الذي اصطاد جنديين إسرائيليين
...
-
تبادل إطلاق نار في المنطقة العازلة بين إسرائيل وسوريا
-
-حماس- تصدر بيانا بشأن فلسطينيين تتوقع الإفراج عنهم مقابل 3
...
-
عمدة مدينة اسطنبول أمام القضاء وسط هتافات المؤيدين ودعوات لا
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|