أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود روفائيل خشبة - خواطر نحو نقد الدين















المزيد.....



خواطر نحو نقد الدين


داود روفائيل خشبة

الحوار المتمدن-العدد: 6390 - 2019 / 10 / 25 - 15:07
المحور: الادب والفن
    


داود روفائيل خشبة
(هذا ثانى الموضوعين المحذوفيت من الترجمة العربيى لكتابى "أبو الهول والعنقاء")

When we are born, we cry that we are come
To this great stage of fools.
King Lear
حين نولد، نبكى إذ أتينا
إلى مسرح الحمقى الهائل هذا
شكسپير، الملك لير

[ما يلى تخطيط هيكلى لدراسة نقدية للدين كنت فى وقت ما أرجو أن أكتبها. لا أظن أن من المحتمل أن أعيش حتى أفعل ذلك. إننى أهدى هذا التخطيط الهيكلى لمن يريد أن يستكمله. ألحقت بالتخطيط بعض خواطر غير مترابطة لكنها ليست منقطعة الصلة بالموضوع.]

1
ثمة أمر واقع بسيط جدا، وأساسى جدا، إلى الحدّ الذى يصبح معه من الصعب أن ننتبه له أو أن نلفت الانتباه إليه. إنه أمر أكدته مرارا فى كتاباتى، لكنى أراه يحتمل ما لا نهاية له من التكرار والتوكيد لأن من اليسير أن يفلت منا مغزاه العميق بعيد المدى. ذلك أننا، بأدقّ معنى حرفى للكلمات، نحيا حياتنا الإنسانية المميّزة فى عالم من الأفكار، أفكار من خلق الإنسان. ككائنات إنسانية، فيما يعطينا طبيعتنا الخاصة ككائنات إنسانية، نحيا فى عالم من معتقدات، أعراف، خرافات، مفاهيم ونظريات يدعمها العلم — نحيا فى عالم من الأفكار. فى نفس الوقت نعيش بيولوچيا كحيوانات ونوجد فيزيقيّا كأشياء فيزيقية؛ فى البعد البيولوچى والبعد الفيزيقى نخضع لكل ما تخضع له الأشياء الفيزيقية والحيوانات؛ لكن فى البعد الذى يعطينا طبيعتنا الإنسانية، نحن لا شىء غير أفكار. هذه الأفكار تتلاحم فى مجموعات من منظومات تربط بينها علاقات غير محكمة على مستويات مختلفة. سأعبُر دون توقـّف على أفكارى المتعلقة بالمسار الرتيب (‘الروتينى’) لحياتى اليومية، وبعملى، وبعلاقاتى الاجتماعية. سأتجاوز أيضا أفكارى عن احتمالات أن يستعمر الجنس البشرى القمر خلال، لنقل، خمسة عقود، وكذلك أفكارى عن فرصة أن يعمل الحزب الذى سيفوز فى الانتخابات القادمة على التصدّى لما أشكو منه من أوضاع. كل هذه أفكار تشكـّل، بأدق معنى للكلمة، حياتى اليومية. على مستوى آخر قد تكون عندى أفكار مؤدّاها أنى إذا صليت، بالشكل الصحيح، خمس مرات فى اليوم ومارست بعض الشعائر والطقوس فإنى عندما أموت سأذهب إلى الجنة حيث أنعم بملذات مدهشة؛ أو إذا تردّدت على الكنيسة، وحضرت القدّاس، وواظبت على المناولة، فعندما أموت سأذهب إلى سماء علوية حيث سأبقى بلا نهاية؛ أو أنى، أيّا ما أفعل، عندما أموت ستنتهى كينونتى وهذا الجسد الذى أسمّيه جسدى سيتحلل ويصبح جزءا من الأرض التى دُفن فيها. منظومات المعتقدات هذه تقف كلها مبدئيّا على قدم المساواة. (كثيرون سيهبّون لمهاجمتى لقولى هذا؛ لكن مهلا، قد تجد فى منتهى الأمر أنى أقف فى جانبك.) دعونى الآن أقدّم الفكرة التى طرحتها فى السطور السابقة فى صيغة أخرى. الكائنات الإنسانية، ككائنات إنسانية، يمارسون حياتهم من خلال، وبواسطة، وعن طريق منظومات من الأفكار، ومن بين منظومات الأفكار تلك، ثمة طبقة هى، لا أقول أعلاها، لكن أكثرها تجريدا وأبعدها عن المحسوسات، وهى التى نسمّيها أيديولوچيات. يمكننا أن نسمى تلك الأيديولوچيات ديانات، بمعنى خاصّ للكلمة، لكن كثيرين يجدون هذا غير مقبول. دعونا نقل إن عددا من تلك الأيديولوچيات تسمّى تقليديّا ديانات، مثل الإسلام، اليهودية، الهندوكية ؛ وقد نسمّى الأيديولوچيات الأخرى رؤى للعالم (Weltanschauungen)، تنقسم إلى عديد من المذاهب، بما فيها مذهب الشكّ scepticism واللاأدرية agnosticism، فكل من هذين المذهبين هو بالتأكيد منظومة فكرية ذات محتوى موضوعى.

2
الدين ظاهرة إنسانية. من الممكن أن نقول دون شطط إن الدين خاصّية property إنسانية، بالمعنى المنطقى للكلمة، صفة مميّزة جوهرية للجنس الإنسانى. يبدو أنه، مهما بعدنا فى السجلّ الأركيولوچى للأرض، فإننا لا نستطيع أن نجد آثارا لجماعة بشرية دون أن نجد آثارا مصاحبة لأعمال وأفعال تشير إلى أنهم بطريقة ما كانوا يرون أنفسهم على علاقة بالقوى التى كانوا يستشعرونها أو يتخيّلونها وراء الأحداث التى تشكـّل وتحكم حياتهم.
ليس شيئا مستغربا أن تنبعث مشاعر الرهبة والعجب فى الكائنات المفكرة فى مواجهة ظواهر الحياة والموت المفعمة بالأسرار وفى مواجهة القوى والأحداث الرهيبة لعالم الطبيعة المحيط بهم. أن تؤدّى مشاعر الرهبة والعجب القهّارة تلك إلى محاولات للتفسير يغذّيها الخيال، وإلى تجارب جريئة للتأثير على تلك الأحداث، وإلى حركات مُلِحَّة تهدف لاسترضاء تلك القوى، وأن تتباين وتتنوّع محاولات التفسير تللك، وتلك التجارب، وعمليات السحر تلك — كل ذلك لنا أن نتوقـّعه. وكل ذلك نجد له أمثلة وفيرة فى سجلات الأركيولوچيا، والأنثروپولوچيا، والتاريخ، وفى المشهد الإنسانى الحاضر. هذه مادة دراسة الأديان المقارنة.
مع الزمن تطوّرت هذه المشاعر الأوّلية إلى مؤسسات، وتنظيمات مجتمعية، وأنساق سلوكية، ومنظومات نظرية، كانت فى كثير من الأحيان جميلة وثمينة، وفى أحيان كثيرة كانت قبيحة وضارّة. لهذا نحتاج نقدا critique للدين يساعدنا على أن نميّز بين ما هو حسن وما هو ردىء، وبين ما هو جوهرى وما هو إضافة عارضة.
لسبب ما يستبدّ بالكائن الإنسانى – وحده بين الكائنات الحيّة فى حدود ما نعلم – الحافز لطلب تفسيرات. يبدو أن ‘لماذا؟’ هى إبداع يختصّ به الكائن الإنسانى. أن نرى شيئا يحدث ولا نعرف ماذا جعله يحدث يتركنا فى حال من الاضطراب. التفسير، أىّ تفسير، يضع الحدث فى سياق أشمل يُظهر اتساقا، يُظهر صلة قربى بين العناصر المكوّنة للموقف الأعمّ، وذلك يلطـّف بطريقة ما شعور الحيرة المقلق. أىّ تفسير متخيّل يخدم ذلك الغرض الأوّلى. تدريجيّا ومع مرور الوقت يكتشف الإنسان البدائى، أو يكتشف الطفل الإنسانى فى نموّه، أن بعض التفسيرات يصلح وبعضها لا يصلح. هذا أمر لا شأن له بالراحة الوجدانية التى يوفـّرها التفسير، إنما يتعلـّق بصلاحيته العملية. هكذا كان لا بدّ من أن يكوّن الناس فى أقدم العصور الأساطير لتفسير الظواهر المحيطة بهم وأحداث حياتهم اليومية. لم يشرعوا إلا فى وقت لاحق فى أن يصنـّفوا ويهذّبوا أساطيرهم، ويطبّقوا عليها معايير العقلانية والصلاحية العملية.

3
هكذا أبدع الناس الأساطير لينعموا بحِسّ الفهم، تلك الحاجة الإنسانية المميّزة. عبر آلاف السنين حلـّت محل الأساطير القديمة تفسيرات جديدة فى نطاق مساحة عريضة من الظواهر والأحداث. لكنْ بقيت هناك مساحات أخرى من اهتمامات الإنسان اتـّضح أنها تستعصى على أساليب التفسير الجديدة: ‘كيف بدأ كل هذا؟’، ‘ماذا يحدث عندما أموت؟’ فى مواجهة أسئلة من هذا النوع، يمكننا أن نتخذ أيّا من المواقف التالية:
1) يمكننا أن نقول إنها غير قابلة للإجابة ونقنع بهذا.
2) يمكننا أن نتمسّك بأساطير من النوع القديم، مثلما تفعل الديانات المؤسسية.
3) يمكننا أن نحاول وضع تلك الأساطير قسرًا فى قوالب الأساليب الجديدة، كما فى عديد من مشروعات العلم الزائف، أو فى افتراضات أو نظريات علمية سليمة، توسع معرفتنا الواقعية بالظواهر، لكنها حتما تفشل فى الوصول إلى إجابات عن الأسئلة القصوى.
4) يمكننا أن ننتج أساطير جديدة مع اختلاف جذرىّ. هذا مجال الشعر والفنّ. أنا أرى أن النظر الميتافيزيقى أيضا من هذا النوع، يخلق أساطير تـَبْسط غلالة من المعقولية على ما يفتقر للمعقولية. مثل هذه الأساطير تمنحنا راحة ‘الفهم’ وفى نفس الوقت تحفظ لنا نزاهتنا العقلية إذ نعرف ونعترف بأن أساطيرنا ما هى إلا حكايات بديعة.

4
تحت قناع الدين نجد عادة أربعة وجوه من الضرورى أن نميّزها ونفصلها عن بعضها البعض. هناك أوّلا الشعور الدينى، التجربة الروحية التى نصفها، فى أعلى صورها حدّة، بالتصوّف. ثانيا، هناك معتقدات ومنظومات فكرية، قد تحاول جزئيا تأويل الشعور الدينى، لكنها تسعى فى الأغلب لأن تعطى إجابات عن الألغاز الطبيعية والكوزمولوچية والفلسفية. ثالثا، هناك شعائر ومراسم وطقوس، نشأت فى أغلبها من السحر ومن محاولات التأثير فى مجريات الطبيعة. رابعا، هناك الأخلاق، مع ما تنطوى عليه من مبادئ وقواعد وقوانين سلوكية. أعتقد أنه من الضرورى فى المكان الأول أن نركـّز على فصل هذا العنصر الرابع.
دعاة الدين يرفعون أصواتهم عاليا بادّعاء أن القِيَم الأخلاقية والروحية ترتبط ارتباطا لا ينفصم بصورة من صور الدين. هذا الادعاء لا يحتمل الفحص الجادّ؛ إنه بغير أساس على الإطلاق. الأخلاق تنشأ وتستمرّ فى استقلال تامّ عن الدين، ولو أنهما كثيرا ما يتشابكان. فى أغلب الأحوال يكون الدين ضارّا بالأخلاق. جميعنا، إذ نستعرض فى أذهاننا الأشخاص الذين نتعامل معهم يوميّا، نستطيع أن نتحقق فى يسر من أن أكثرهم ارتباطا بالدين ليسوا دائما أصحّهم أخلاقا، بينما على الناحية الأخرى، بين من هم أقل الجميع ارتباطا بالدين، قد نجد من هم الأصحّ أخلاقا.
بعد ذلك علينا أن نفصل عنصر الشعور الداخلى، الدين كتجربة روحية. هذا نحتاج أن نحافظ عليه. إنه العنصر الذى يخاطر من يحاربون شرور الدين بأن يضحّوا به لأنهم لا يرونه كعنصر منفصل وعظيم القيمة. هذا هو العنصر الذى يريده أ. ن. وايتهيد A. N. Whitehead حين يعرّف الدين بأنه ما يصنعه المرء بعُزلته. إنه أيضا العنصر الذى يقصده شلايرماخر Schleiermacher حين يقول:
"أن يكون لك دين يعنى أن تعى intuit الكون، وقيمة دينك تعتمد على الطريقة التى تعى بها الكون، على المبدأ الذى تجده فى أفعال الكون. فإذا كنت لا تستطيع أن تنكر أن فكرة الله تتكيّف ذاتيّا مع كل وعى intuition للكون، فعليك أيضا أن تُقِرّ بأن دينا بغير إله يمكن أن يكون أفضل من آخر به إله."
إرتباط الشعور الدينى بمعتقدات محدّدة – العقائد الدوجماتية – ضارّ إلى أبعد حدّ؛ حتى حين تكون المعتقدات مهذّبة، فإنها مع ذلك تكون معتِمة وتضرّ بنقاء المشاعر.
لو أنه كان ممكنا إبقاء الشعائر والطقوس خالصة تماما من أىّ اختلاط بالمعتقدات الدوجماتية، لكان من الممكن أن تنفع كرباط اجتماعى، تجمع الناس معا وتعطيهم إحساسا بالانتماء؛ وكان من الممكن أيضا أن تكون لها قيمة كنوع من الفن. من المؤسف أنه، حالما تتـّصل الشعائر والطقوس على أىّ نحو بالدين، يستحيل إبقاؤها خالصة من الأصداء الخرافية.
هكذا، من العناصر الأربعة التى نخطئ بضمها معا تحت عباءة الدين الفضفاضة:
1) الأخلاق يجب ببساطة إبقاؤها بمعزل؛ إنها تكون آمنة فى حياتها المستقلة؛
2) التجربة الروحية يجب أن نستنقذها ونحافظ عليها؛
3) المعتقدات والعقائد الدوجماتية يجب تعريتها وهدمها؛
4) الشعائر والطقوس، مهما تكن قيمتها الجمالية والعاطفية، إذا كان علينا استبعادها مع ما هو ردىء فى الدين، فليكن؛ لن يَكـُفّ الناس أبدا عن ابتكار أشكال جديدة من التلاحم الجماعى والاجتماعى communal and social.
العنصران (2) و (3) هما شاغلى فى سلسلة المقالات هذه.

5
إذا سألنا: "هل ثمة معتقدات دينية صادقة؟"، نجد من جديد أن علينا أن نميّز بعناية بين أنواع مختلفة من الاعتقاد. الاعتقادات المتعلقة بالقِيَم الأخلاقية لا ينبغى، إذا أردنا الدقة، أن تسمّى معتقدات، وهى لا يمكن أن تكون لا صادقة ولا زائفة. إنها حقيقية وقيّمة إلى مدى ما تؤكد حقيقتنا الداخلية. إنها قد تكون ضيّقة وتافهة حين تكون انعكاسا لشخصيّة هزيلة، وقد تكون جليلة حين تعكس الحقيقة الداخلية لشخص مثل غاندى.
المعتقدات البدائية حول الخلق وتكوين العالم (التى لا تزال باقية فى الديانات المؤسسية) كانت تحليقات جريئة للفكر الإنسانى، صحّحتها ولا تزال تصحّحها العلوم الطبيعية. كيف يمكن أن يتمسّك بهذه المعتقدات أشخاص نراهم فيما عدا هذا يتمتعون بالذكاء، هذا أمر أجده محيّرا تماما.
المعتقدات حول عالم فوق-طبيعى supernatural، وحول حياة بعد الموت، وما إلى ذلك، تلك أيضا كانت تحليقات جريئة للخيال. مع مرور الزمن، أدرك العقلاء من الناس أن الإجابات المقترحة لمثل هذه الأسئلة هى محض اختلاق fiction. إلا أننا نجد بيننا اليوم أشخاصا كثيرين، أذكياء وظاهريًّا على قدر وافر من المعرفة العلمية، يؤمنون بمعتقدات معيّنة فى هذا المجال. هؤلاء المؤمنون قد نقسمهم إلى فئتين: (1) أولئك الذين يقولون إن علينا أن نقبل تلك المعتقدات بسلطان الوحى الإلهى؛ و (2) أولئك الذين، بالإضافة إلى اطمئنانهم للوحى، يحاولون أن يبيّنوا أن تلك المعتفدات يمكن مساندتها بالتفكير العقلانى.
الحُجّة فى جانب الوحى هى دائما ملتوية circuitous. علينا أن نصدّق بالعقائد التى تأتينا بها الكتب المقدّسة. لماذا؟ لأن تلك الكتب أوحى بها الله. من يقول إن الكتب أوحى بها الله؟ الكتب المقدّسة هى التى تقول ذلك. ربّما كان ممكنا أن نغمض أعيننا عن لامنطقية مثل هذه الحُجّة المتهاوية لو لم تكن تلك الكتب المقدسة (كلها دون استثناء) تحتوى الكثير مما هو صادم للعقل ومنافٍ للأخلاق.
أما بالنسبة لأولئك الذين يحاولون تقديم دعم عقلانى للمعتقدات التى يعتنقونها، فإننا لا نجد فحسب أن اللاهوتيين المنتمين لعقيدة معيّنة يناقضون أولئك المنتمين للعقائد الأخرى، بل إننا نجد أيضا أنه كلما أمعن لاهوتيّو العقيدة الواحدة والإيمان الواحد فى تدقيق وتشذيب وحذلقة حُججهم، وجد كل واحد منهم نفسه على خلاف مع الباقين ممن يشاركونه نفس الدين.

6
أبدأ بكلمة لإزالة سوء فهم محتمل. إننى قد تعرّضت للشجب أحيانا لأنى تحدثت عن الحياة الروحية. الحديث عن الحياة الروحية يعادل عند بعض الماديين والملحدين الدوجماتية والاعتقاد بالخرافات. أنا أصرّ على أنه بدون مفهوم الحياة الروحية فإن حياتنا الثقافية وحوارنا العقلانى يعتريهما هزال خطير. الحياة الروحية عندى هى حياتنا الذاتية subjective، الداخلية، التى هى بؤرة ومنبع كل قيمتنا وكينونتنا المميّزة ككائنات إنسانبة. دعونى أوضّح.
‘ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.’ هذا قول عظيم العمق. إننا نكتسب إنسانيّتنا حين ندرك أن هناك جانبا منّا ليس جسدا. أفلاطون بالطبع قد قال نفس الشىء قبل المسيح بنحو أربعة قرون، ولم يكن أفلاطون وحيدا فى ذلك.
تصوّرْ كائنات عاقلة تعيش فى عالم يجدون فيه وفرة من طعام صحّى دون أىّ نكهة، وملابس صالحة للشتاء والصيف دون أىّ تزيين، ومساكن مريحة دون لمسة جمال؛ يمضون نهارهم يؤدّون عملا يتناسب مع قوّتهم وقدراتهم ويمضون الليل مستغرقين فى النوم. إذا لم تكن عندهم فكرة عن أىّ حياة تختلف عن حياتهم فإنهم قد يعيشون قانعين بنصيبهم كما نتصوّر النمل قانعا بنصيبه. (فى الواقع، إننى أعتبر أن ذلك مستحيل، لأننى أعتقد أنه لا يمكن أن تكون هناك حياة بدون إحساس بنشوة الحياة، لكن لنترك افتراضنا قائما.) لكنْ هل يحتمل أىّ واحد منـّا، مهما أضنته المتاعب والآلام فى عالمنا الإنسانى، أن يعيش فى ذلك العالم الكامل بالمعايير المادية؟
بغير غناء أو رقص، بغير لمسة شعرية حتى فى لغة حياتنا اليومية، بغير شىء جميل ترتاح إليه العين، من منـّا كان يُفضـّل العيش على الموت؟
هذا ما أعنيه بالحياة الروحية؛ حياة لا يكون فيها كل همّنا وكلّ شاغلنا مُنصبّا على حاجات الجسد؛ حياة فيها تؤرّق المسائل الفلسفية عقلنا، فيها يبعث بيت من شعر وردزورث Wordsworth رعشة خلال كياننا الداخلى، فيها تجعلنا سيمفونية بيتهوفن التاسعة نصعد من هاوية الإحباط حتى نلامس أنجم السماء؛ حياة فيها الكلمة الرقيقة أو البسمة الحيّية تـُبهج القلب — ذلك ما أدعوه حياة روحيّة ولا أجد له اسمًا غير الحياة الروحية.
أؤلئك الذين يجفلون فزعا لسماع كلمة الروحانية هم أشبه بمن يقول عنه المَثل الإنجليزى ‘يرتعد من الحبل مَن عضـّه الثعبان يومَا’.

7
إننا نحتاج الدين. إننا نحتاج أن نتخلص من كل الأديان. هاتان المقولتان ليستا متناقضتين. أن نقبل أيّتهما باعتبارها كافية يعنى المخاطرة بأن ننتهى إلى إنسانية مشوّهة. يمكننا القول بأن التوفيق بين هاتين المقولتين هو أخطر المهامّ التى تواجه الثقافة الإنسانية والحضارة الإنسانية فى هذه المرحلة من التاريخ الإنسانى، أخطرها وأكثرها إلحاحا.
إن القول بأننا نحتاج الدين يمكن فى الواقع تبريره فى تأويل معيّن — لكن ذلك تأويل يضع الدين فى تضادّ مع كل الأديان. ذلك دين الفلاسفة، دين أ. ن. وايتهيد A. N. Whitehead فى تكوين الدين Religion in the Making، ودين چوليان هكسلى Julian Huxley فى الدين بدون وحى Religion Without Revelation. لكنْ حيث أن موضوع الدين غارق كله فى الاضطراب واختلاط القضايا والتفكير المشوّش، فإنه يكون من الأفضل، فى سبيل الوضوح الفكرى، أن نتجنّب استخدام لفظ ‘الدين’ بذلك المعنى المعقـّم.
"الدين هو ما يصنعه الفرد بعُزلته." يكرّر أ. ن. وايتهيد هذا التعريف أكثر من مرّة فى تكوين الدين. بهذا التعريف يجعل وايتهيد الشعائر والطقوس والمعتقدات الدوجماتية والعقائد محض زخارف خارجية. لسوء الحظّ، فإن هذه الزخارف الخارجية هى كل الدين عند معظم أتباع الديانات المؤسسية. هكذا يبدو أن أبسط وسيلة، أو ربّما الوسيلة الوحيدة، لكى نأتى بذلك الدين – الذى هو ما يصنعه الفرد بعُزلته – إلى المكان الذى هو جدير به فى الحياة الإنسانية، هى أن نزيل كل ‘دين’. فى يومنا هذا، كل مناقشات الدين تقريبا، من جانب دعاة الدين ومعارضيه على السواء، تنحو إلى طمس مفهوم تلك الروحانية الضرورية لحياة إنسانية حقـّة. بعبارة أخرى، إن الدين الردىء هو الذى يحول دون تقديرنا للدين الحسن. كلمة ‘الدين’ قد أفسدتها تماما صحبة السوء؛ من الأفضل أن ننبذ تلك الكلمة ونتحدّث بدلا من ذلك عن الروحانية.
ربّما تكون أكثر الأديان بدائية، الكائنة فى عزلة، هى وحدها التى صنعت بعض الخير والقليل من الضرر أو لا ضرر. ما عدا هذه، كل الأديان قد صنعت من الضرر أكثر كثيرا مما صنعت من خير. إلا أننا لا نستطيع أن نحيا بغير الدين. بغير الدين لا نكون كائنات إنسانية تامة. إننا فى أمسّ الحاجة لبديل للدين: لسنا نحتاج دينا بديلا؛ ذلك لن يفعل إلا أن يديم الضرر؛ إنما نحتاج بديلا للدين. البديل الذى أقترحه هو ثقافة، وتربية فى ثقافة، تحرّر العقل الإنسانى من كل الأغلال، وفى نفس الوقت تتركه واعيا كل الوعى بحقيقة ذاته وبحقيقة تعلو على وتتجاوز الكائن الفرد، وتعلو على وتتجاوز كل الموجودات والأحداث المحدودة الزائلة فى عالم الطبيعة الذى نحن فيه كائنات محدودة زائلة.
أساطيرنا هى مضمون حياتنا الروحية. هذه مفارقة فى قلب الثقافة الإنسانية. بغير الأساطير تبقى حياتنا قاحلة، بهيمية، تافهة. مع أساطير لا تخضع لتمحيص العقل نغوص فى ظلمات اللاعقل. وحده الخيال الخلاق العاقل يؤمّن لنا حياة روحية تتـّسق مع الكرامة الإنسانية.
هكذا، فى مواجهة السؤال "هل نحن بحاجة للدين؟" ينبغى أن تكون إجابتنا: بين ما يشمله عادة مصطلح الدين ثمة عنصر ضرورى للحياة الإنسانية الحقّة، لكن ذلك العنصر يجب عزله فى عناية شديدة ودِقـّة فائقة لأننا نلقاه دائما مكتسيا بطبقات فوق طبقات من الخبث الكريه.
ثمة شىء يصيبنى دائما بحيرة بالغة، أن أجد أشخاصا على درجة عالية من الذكاء، كثيرون منهم تدرّبوا مهنيّا على التفكير العلمى، يقبلون دون مساءلة المعتقدات الدوجماتية للدين المؤسّسى الذى قضت الصدفة أن يولدوا فى كنفه. حتى فى حالة التحوّل لاعتناق دين مخالف، فإن التحوّل نادرا ما يكون على أسس فكرية، وحالما يعتنق المتحوّل الدين الجديد ويعطيه ولاءه، فإنه يُسَلـِّم بالمعتقدات الدوجماتية والخرافات المرتبطة به دون مساءلة. إننى لا أملك إلا أن أشعر بالحيرة إزاء هذا، لكن هناك فى الواقع عوامل متعدّدة تفسّره. هناك تفسيرات سيكولوچية وأنثروپولوچية جيّدة، لكنى لا أعتزم التصدّى لها هنا.
دين المتصوّفين والشعراء والفلاسفة ذاتىّ subjective تماما، هو تجربة داخلية. دين أتباع الديانات المؤسّسية هو أساسًا موضوعى objective، خارجى؛ إنه مرتبط بالعقائد والمعتقدات والشعائر والطقوس. هذان النوعان مختلفان ومتضادّان إلى الحدّ الذى يكون معه من الأفضل ألا يشار إليهما بنفس الكلمة. لكن فلاسفة جيّدين قد تحدّثوا عن الدين، قاصدين النوع الأنقى؛ وشعراء جيّدين قد استخدموا لغة دينية فى تعبيرهم عن تجربتهم الروحية الداخلية subjective: وموسيقيين جيّدين قد ألـّفوا موسيقى فى موضوعات دينية. كل هذا لا يمكننا أن نعكسه. الاضطراب الناتج عن هذا شىء يؤسف له؛ كل ما بوسعنا هو أن نميّز بين النوعين فى وضوح ونحاول ألا يغيب ذلك التمييز عن بالنا.

8
كثيرا ما حاججت ضدّ التفكير الاختزالى reductionist thinking. أن نتتبّع مصدر شىء ما، أن نعدّد ونَصِف عناصره المكوّنة، مهما بلغ ذلك من الدِقـّة ومن الشمول، ذلك لا يستنفد حقيقة الشىء. أن نظنّ ذلك يعنى الوقوع فى خطأ الاختزالية القاتل. على كل مستويات الكينونة – على أكثر مستويات التجربة الروحية رفعة، على أعلى مستويات التفكير النظرى تجرّدا، تماما كما على مستوى ردّ الفعل الوجدانى أو الفعل الفيزيقى – يكون النشاط activity تكييفا modification للشخص ككل، قائما على subtended by الكل المتكامل للفرد. هذا لا ينتقص على أىّ نحو من حقيقة الازدهار النهائى، تماما كما أن نشأة الوردة وابتداءها من التربة والماء وأشعة الشمس لا ينفى حقيقة عبيرها وبهائها. وعلى هذا فأنا، من ناحية، أقدّر عدالة الاحتجاج ضدّ محاولات الحط من قيمة الدين بإظهار تأصّل الدين فى السحر magic والشعوذة sorcery والشامانية shamanism وما إلى ذلك. فالفنّ أيضا لا بدّ أنه قد نشأ من أصول كهذه، وهذا لا يقلل من أهمية الفن وضرورته لحياة إنسانية مكتملة. من ناحية أخرى، أقول إن دراسة موضوعية، بذهن صافٍ، لتاريخ المعتقدات الدينية، وإن نظرة غير متحيّزة وغير مغمّاة لظواهر مختلف المعتقدات الدينية معروضة جنبا إلى جنب، دراسة كهذه ونظرة كهذه ينبغى أن يقنعا أىّ ملاحظ عاقل بالطبيعة الوهمية الاختلاقية fictitiousness لمزاعم مثل هذه المعتقدات والممارسات الدينية كلها. إذْ أتخذ هذين الموقفين اللذين يبدوان متضادّين فإننى لا أناقض نفسى. النشأة الطبيعية للمعتقدات والممارسات الدينية لا تنفى الحقيقة الوجدانية والروحانية للتجربة الدينية والتصوّفية. التوجّه الدينى والمشاعر الدينية هى بعض من أعظم ذخائر الجنس الإنسانى قيمة. لكن هذا اللبّ الحقّ للتجربة الدينية يأتى دائما مكتسيا ببهرجات خارجية هى نتاج ملابسات عارضة، تاريخية وثقافية واجتماعية، إلخ.، ومن الضرورى جدّا أن نتبيّن حقيقة هذه البهرجات الخارجية، وأن ندرك فى وضوح الطبيعة الوهمية للكساء الخارجى الذى يحجب الجوهر الحقّ. بغير هذه البصيرة نقع فى فخّ بين استبدادين فكريّيْن ضارّيْن بنفس القدر: من ناحية، استبدادية العلوميّة الاختزالية reductionist scientism، التى تطالبنا بالتنازل عن حقيقتنا الداخلية، ومن ناحية أخرى، استبدادية الدوجماتية الدينية، التى تطالبنا بالتنازل عن حقنا فى أن نسأل وأن نفهم.

9
كل الأديان المؤسّسية مغلـّفة بالخداع. عامّة المسيحيين يُدفعون للاعتقاد بأن المسيحية جاءت منذ البداية كـُلا كاملا مكتملا. إنهم لا يعرفون أن المسيحية بدأ يشكـّلها أشخاص عديدون ومؤثـّرات مختلفة بعد وقت قصير من رحيل مؤسّسها المفترَض، وأن الدين الجديد الذى تكوّن على مدى أجيال وقرون ليس به إلا أقل القليل من فكر وتعليم رجل الناصرة. هذا الاعتقاد الزائف تحميه الكنيسة فى حرص شديد.
يروى مرتشيا إليادى Mircea Eliade فى الكون والتاريخ Cosmos and History حادثة تٌظهر كيف أن أكثر الأحداث ابتذالا يمكن أن تتحوّل إلى أسطورة فى مدى حياة بعض شهودها الأصليين، أو حتى المشاركين فيها. حين نقرأ ذلك نجده يسيرا أن نفهم كيف أنه، خلال بضع سنوات من الموت المأساوى ليسوع الناصرى، أمكن تحويل ذلك المصلح الأخلاقى الجسور إلى المخَلـِّص، وابن الله، والله متجسّدا. (لا أريد أن أستبعد احتمال أن يكون يسوع قد انتهى إلى الاعتقاد بأنه المسيح، لكن مسيح المسيحية الذى اخترعه بولس يختلف كثيرا عن المسيح العبرى الذى يجوز أن يكون يسوع قد تصوّر أنه تحقق في شخصه.)
بجانب مفاهيم بولس الغريبة وتصوّرات يوحنا الأكثر غرابة، كان من حسن حظ المسيحية أنها استوعبت الكثير من البيئة الثقافية الهيلينستية. أحسن ما فى المسيحية مستعار من الأفلاطونية. ما يعطى المسيحية جاذبيتها للأرواح المفكرة الحسّاسة هو لبّها الأفلاطونى. المسيحية لبّ أفلاطونى مخبوء تحت طبقات فوق طبقات من الخرافة.
بالمثل، فإن أحسن نماذج الإسلام فى يومنا هذا تنطوى على استعارات من الحكمة اليونانية والتصوّف الفارسى. لكن عامّة المسلمين يُدفعون للاعتقاد بأن أرفع المُثل الإنسانية التى استوعبتها الثقافة الإسلامية لم تظهر إلا مع ظهور الإسلام. هذا الخداع يروّجه، سواء عن وعى أو عن غير وعى، كتـّاب ومفكرون مفروض أن يكونوا أكثر إدراكا.
كذلك نجد أن البوذية، التى يتبعها الملايين، والتى قد تكون من وجوه عديدة أفضل من كل الديانات العالمية الأخرى، قد بعدت كثيرا عن تعاليم جوتاما سيدهارتا Gautama Sidhartha. هل يدرك عامّة البوذيين هذا؟
قد نكون على استعداد للاعتراف بأن كل واحد من الأديان العالمية الرئيسية قد لعب دورا هاما فى التاريخ الإنسانى، لكن هذا لا يعنى أن علينا أن نخضع لتلك الأديان ونقبل الغثاء الذى جاءت به أصلا وكل الغثاء الذى راكمته فى مسيرتها.
الحُجّة التى يواصل المدافعون عن الدين التذرع بها رغم وهنها البيّن، أىْ القول بأنه بغير الإيمان بإله حاكم وبالثواب والعقاب بعد الموت فإن كل الناس سيسلكون سلوكا لاأخلاقيّا، هذه الحُجّة لا تستحق منا اعتبارا جادّا. لينظر أىّ إنسان سوىّ داخل ذاته. إن الإنسان السوىّ لا يحسن السلوك خوفا من العقاب فى هذا العالم أو فى العالم الآخر. هناك مصدران لسلوك الكائنات الإنسانية العادية السويّة. على مستوى أدنى، يسلك الناس سلوكا صحيحا لأنهم يريدون التوافق مع المعايير الاجتماعية، لأنهم يعتزون بقيمة الانتماء للمجتمع. على مستوى أرفع – إذا أردنا أن نقولها فى أبسط عبارة – يفعل الناس الخير لأنه شعور طيّب أن تفعل ما هو طيّب. الأريحية طبيعية تماما مثل الأنانية، وأىّ شخص نشأ فى بيئة طيّبة سرعان ما يتعلم بالتجربة أن الأريحية تعطى من الرضا أكثر مما تعطيه الأنانية. توفير الفرص للمرور بهذه التجربة هو فى الواقع جوهر التربية الأخلاقية فى الطفولة.

10
كل من النظم الدينية العتيدة الموجودة فى عالمنا اليوم هى جسم مات وجفّ وتحجّر لأساطير وطقوس لعلها كانت يوما ما تمثـّل أو ترمز لشىء له معنى. لم يكن ممكنا أن تتحوّل إلى ديانة مؤسّسية قبل أن تكون قد فقدت كل حياة وكل معنى. من الجائز أن الجسم الميت لديانة ما قد يمثـّل حتى اليوم عاطفة حيّة لبعض من أتباع تلك الديانة. تلك العاطفة الحيّة هى الحقيقة الذاتية subjective للشخص المعنىّ وليست لها إلا علاقة عارضة بمعتقدات وممارسات الديانة المعيّنة. إن المعتقدات والممارسات فى الواقع تعوق وتقيّد التجربة الذاتية الحيّة. لكن ذلك لا يدركه، فى معظم الأحوال، إلا أفراد متمتعون بقدر من الذكاء والنزاهة الفكرية والشجاعة الأخلاقية. وقد تقود ظروف غير عادية أفرادا آخرين لهذه النتيجة. إنه من واجب المفكرين أن يوسعوا دائرة هذا الإدراك.
تاريخ الدين على نطاق العالم، من أكثر أشكاله بدائية إلى أكثرها حذلقة، يشكـّل تواصلا متـّسقا، أو على أىّ حال مسيرة متـّسقة، بمثل اتـّساق تطوّر الأنواع البيولوچية من الأوّليّات وحيدة الخليّة protozoa. إن المجاهدات الباسلة، أو بالأحرى الواهمة quixotic، من قبل لاهوتيّى مختلف الأديان – وبينهم دارسون للدين المقارن – لاختراع حُجج لتأسيس عقائدهم على وحى خاصّ، لهى نماذج ممتازة لعدم القدرة على نقد الذات، أو لرفض الاعتراف بالحقيقة الواضحة.
إن الإنسانية، على ما أرى، قد بلغت فى الفلسفة مستوى من العقل يتجاوز مستوى الدين. إنه حقـّا من غير المقبول أن يظل الناس يفكرون ويحيون على مستوى التفكير والشعور الدينى الأدنى. كل المبرّرات والحُجج التى تقـَدَّم دفاعا عن مثل هذا التديّن ليس إلا خداعا للنفس. وإذ أنى آبى أن تفارقنى حماقتى فسأمضى بعد هذا لأغضب أولئك الذين كانوا إلى جانبى حتى هذه النقطة. سأقول إنى أتحدث عن مستوى أعلى من الفهم تبلغه الإنسانية فى الفلسفة وليس فى العلم. ليست مهمّة العلم أن يعطينا الفهم الذى نتوق إليه؛ ذلك دور الفلسفة. أقِرّ دون تردّد بأن العلم كان أداة عظيمة القوّة فى تحرير الكائنات الإنسانية من نير الخرافة الدينية. لكننا لا نزال بحاجة لأن ندرك أنه، فى حين أن العلم يعطينا القوّة ويعطينا معرفة معلوماتية عن العالم الفينومنالى (عالم الظواهر)، عن واقع العالم الطبيعى وأحداث العالم الطبيعى، إلا أنه يبقى هناك نوعٌ من ‘المعرفة’ epistêmê، أو بالأحرى نوعٌ من الجهل البصير الذى على الفلسفة أن تعطيه. العالِم يرضيه أن يعرف أن الماء يمكن اختزاله إلى الهيدروچين والأكسيچين. إنه يقنع بتلك المعرفة ويسمّيها فهما. الفيلسوف يقول، مع سقراط، إن تلك المعرفة لا تعطينا الإجابة على السؤال: "ما هو الماء؟" سرّ صيرورة الأوكسيچين والهيدروچين إلى ماء بكل خواصّه الأصلية المذهلة، هذا السرّ mystery يظل سرّا. الحيرة aporia الفلسفية، الاعتراف بالجهل، ذاك ما يعطينا تجربة الوعى بالسرّ كحضور مباشر، وعى ضرورى لتخليصنا من الجهل الأسوأ، الجهل الذى يسكن فى الروح، الذى يجعلنا عبيدا لتوهّم أننا نفهم ما لسنا نفهم. فى الفلسفة نتعلـّم أن الفهم الوحيد الذى يمكن أن يكون لنا، الفهم الذى ينبغى أن نطلبه، الفهم الذى هو ممكن لنا وهو فى نفس الوقت على أعلى درجة من الأهمية لنا، هو فهم دوافعنا، انفعالاتنا، مشاعرنا، توجّهاتنا. ذلك هو الفهم الذى يشكـّل التحرّر الحقّ. هذا هو جوهر وصيّة ‘اعرف ذاتك’ gnôthi sauton التى أعطانا إياها سقراط تراثا ثمينا باقيا.

11
ختاما لهذه الخواطر المبعثرة نحو نقد للدين، هاكم مجموعة من ‘مُلـَح’ aphorisms وسوانح عفوية أخرى.
لا يعنينى كثيرا الإله الذى نحن مخلوقاته؛ يعنينى أكثر الإله الذى نحن خالقوه.
نحن البشر كلنا حمقى ونصف مجانين؛ الأدب الجيّد هو ما يمنحنا ومضة من عقل.
"ربّاه! أىّ حمقى هؤلاء البشر!" — إننا لا نكون حكماء إلا حين نعرف أن كل حكمتنا محض حماقة.
أسوأ آثار الدين الممأسس institutionalized أنه يغلق الطريق إلى التأمل، إلى البحث عن الحقيقة والصدق فى داخلنا. الدين الممأسس هو أخطر عدو لذلك الدين الذى يجده أ. ن. وايتهيد A. N. Whitehead فى ما يصنعه المرء بعُزلته.
إذا اخترنا أن نقول وداعا لعقلنا، يمكننا دائما أن نجد تفسيرا متحذلقا على طريقة كيركيجارد Kierkegaard لأىّ فعل، أى حدث، أى نصّ، مهما يكن لاعقلانيّا؛ يمكننا أن نخترع تأويلا عالى التحذلق لأىّ عبارة مهما تكن مبتذلة، كما أبان لنا الجهابذة الذين أتخمونا إلى حدّ الغثيان بتفسيراتهم ‘العلمية’ للقرآن. صحيح أن فى الحماقة حكمة وأحيانا يكون علينا أن نكون من الجنون بما يهيّئ لنا أن نخترق حواجز الحكمة المأثورة؛ لكننا لا ننعم بإنسانيتنا الحقـّة إلا حين نفكر عقلانيّا. بعض الشعر وبعض الفن يتعمّد إظهار اللااتساق واللاعقلانية. لكن إذا لم يكن ممكنا أن نكتشف اتساقا وعقلانية تحت ظاهر اللااتساق واللاعقلانية ، فلا يكون ذلك شعرا ولا يكون فنـّا. الشعر تواصل communication والفن تواصل وشرط التواصل المعقولية والاتساق والعقلانية.
الكائن الإنسانى لا يستطيع أن يحيا بالعقل وحده، لكنه لا يكون إنسانا إلا إذا أمضى حياته تحت شعاع العقل الكاشف.
لعل ما هو أفدح من كل الصراعات والعداوات والمجازر التى تنبعث من الدين، أن الدين يقتل الإحساس بالعجب فى الإنسان. إن الشخص الذى يكون قد تشبّع تماما بالفكر الدينى قد لا يعود مهيّأ لتجربة القلق الخلاق الذى يدفع الإنسان لأن يظل يعجب ويتساءل ‘لماذا؟’ و ‘كيف؟’، إذ أنه يكون قد اعتاد أن يقنع بالإجابة الجاهزة: لأن الله أراد هذا؛ لأن الله جعله هكذا. أنا لن أقحم نفسى فى مجال ليس لى، لكنْ لعلّ المؤرّخين يجدون فى هذا تفسيرا لركود كثير من المجتمعات.
كلى حماس لموعظة الجبل . إننى أتبنى تعاليمها بجدّية، بسذاجة، أكثر من هذا البابا أو ذاك. لكنها إذا جاءتنى فى عبوّة واحدة مع جهنم متى، ووساوس بولس، وغيبيات يوحنا، فإننى أختار أن أرفض العبوّة بأكملها. عندى كل ما أريده من الأخلاق فى الـ كريتون والـ جورجياس، وكل ما أريده من روحانية فى الشعر والفلسفة والموسيقى.
داود روفائيل خشبة
25 أكتوبر 2019
https://philodophia937.wordpress.com



#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما هو الله
- الصدفة - شعر تومنس هاردى - ترجمة
- الأمل الباقى
- انتخابات عبثية
- لا تظلموا شيخ الازهر
- كُتِبَ علينا السيسى
- نعيب حكامنا والعيب فيتا
- قضيّة كاشفة
- أفلاطون الفيلسوف الأمثل
- فتاوى وزير الأوقاف
- سقراط: رجل اختار أن يكون إنسانا
- لماذا يعاني أبناؤنا فى تعلّم العربية؟
- ما جدوى الفلسقة؟
- الدين والتطرف
- من يخلف السيسى؟
- مصائب قوم
- المخرج من التخلف
- أحدثكم عن أحدث كتبى
- خواطر حول الدين
- القضية القبطية


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود روفائيل خشبة - خواطر نحو نقد الدين