محمد علي الأتاسي
الحوار المتمدن-العدد: 24 - 2002 / 1 / 2 - 22:29
المحور:
الادب والفن
العـدالة : العدد الثاني - يناير 2002 :
اللجنة السورية لحقوق الإنسان
الشاعر السوري فرج بيرقدار يروي تجربة الاعتقال والحرية
أجرى الحوار: محمد علي الأتاسي
تعتبر مقابلة الشاعر السوري فرج بيرقدار التي أجرها الكاتب الصحفي السوري اللامع محمد علي الأتاسي بتاريخ 22 كانون الثاني (يناير) عام 2001، ونشرها في ملحق النهار من أكمل واجمل الشهادات عن تجربة الاعتقال نظرا للمستوى الرفيع في طرح الأسئلة الاجابات المعبرة التي خرجت من قريحة شاعر يتألم لآلام وطنه.
وفصلية "العدالة" إذ تعيد نشر هذه الشهادة الاسثئنائية فإنها تؤكد على أهمية نشر هذا النوع من الأدب والكتابة والذي ظهر كنوع جديد في حياتنا الابداعية خلال حقبة ما بعد الثمانينات:
فرج .. ولدتَ في العام 1951 وعشت طفولتك في قرية دير معلا بالقرب من حمص, ماذا تعني لك القرية وكيف كانت حياتك فيها, وأين أكملت دراستك, ومتى بدأت علاقتك بالشعر وبالسياسة؟
- القرية بالنسبة لي, هي وسكانها وطبيعتها, رمز للطيبة العالية والبساطة والتماسك الاجتماعي الذي أبحث عنه. الطابع المحافظ للقرية لم أشعر به في فترة الطفولة, أما في مرحلة الشباب فبدأت أطرح أسئلة وجودية وأشعر بخلافات كبيرة وأشعر ببعض المضايقات, لكن ما حماني جزئياً هو معرفة ناس القرية بأنني شاعر مما أعطاني نوعاً من التعاطف. وحتى الآن القرية تلتمس لي أعذاراً.
درست المرحلة الابتدائية والإعدادية في قريتي, والثانوية في حمص والجامعية في دمشق. حتى المرحلة الثانوية كنت عضواً في حزب البعث, ومنذ بداية السبعينات بدأت ميولي الماركسية ولم أعلن استقالتي من حزب البعث إلا في منتصف السبعينات حيث أصبح واضحاً توجهي الماركسي. عندها لم أكن أعرف بوجود تنظيم اسمه رابطة العمل الشيوعي, وبدأت معرفتي بهم بعد ذلك بزمن قصير. أصبحت أدرك أنني شيوعي الانتماء, لكنني كنت أريد حسم خياري: "مكتب", "بكداش", "رابطة". الرابطة كانت تنظيماً جديداً وشعرت بقربي من طروحاتها, وانضممت إليها في العام 1979 بعد نهاية خدمة العلم.
في دمشق عشت حياة تشرد, خصوصاً في مرحلة الملاحقة بين عامي 1984 و1987, حيث انتخبت عضو مكتب سياسي في الرابطة. دمشق كمدينة لم أرتح لها مطلقاً خلال كل فترة إقامتي فيها. كنت أشعر فقط بضرورات بالنسبة للصداقات والحركة الثقافية والحياة السياسية في عاصمة تستقطب كل التيارات. دمشق كجغرافيا كبيئة كتركيب, أحسها ضاغطة علي ونفسي يضيق فيها.
تزوجت في العام 1979 من رفيقه في الحزب من مواليد درعا أتت لتدرس في دمشق. وعشت معها حتى عام 1986. وقد اعتقلت قبلي بـ 11 شهراً في نيسان وبقيت أربع سنوات. أما ابنتي فقد ولدت في العام 1983. وفي فترة اعتقالنا الأولى كان بمستطاع ابنتي زيارة والدتها, أما أنا فقد بقيت محروماً من الزيارة خمس سنوات. وبالتالي بدأت زيارة ابنتي لي بعد خروج والدتها من السجن.
في منتصف السبعينات, أصدرت مع مجموعة من أصدقائك كراساً أدبياً, ماذا كان اسمه ومن شارك به ولماذا توقف؟
- هذا الكراس لم يكن له عنوان, وكنا نسميه الكراس الأدبي, كان يصدره مجموعة من الأدباء الشباب في الجامعة (أنا كنت أدرس الأدب العرب) ونوزعه على الأصدقاء, وهو مختص بالشعر والقصة حصراً, ويحتوي بالأغلب على مواضيع لا تنشرها الصحافة الرسمية. وبسببه اعتقلت ثلاثة أشهر في عام 1978. الأدباء الشباب الذين كانوا يصدرونه هم: جميل حتمل ورياض صالح الحسين ووائل السواح وبشير البكر وغسان عزت وموفق سليمان.
منذ العام 1976 أصبح الشعر خياراً أساسياً في حياتي, ونشرت أول ديوان في العام 1979. لكن منذ تفرغي للعمل السياسي الحزبي في العام 1981 توقفت عن كتابة الشعر بسبب ضيق الوقت وكثرة المسؤوليات السياسية والواجب الأخلاقي والوجداني تجاه رفاقي المعتقلين. لم يعد باستطاعتي حمل البطيختين معاً. ولم أعد إليه إلا بعد اعتقالي. فقد كان واضحاً, أنني لن أعود إلى كتابة الشعر إلا في السجن.
وكيف حملت البطيختين معاً في السجن, إذا جاز القول؟
- الشعر لا يتعارض مع السياسة, لكنه يتعارض مع العمل التنظيمي المباشر.
الحقيقة أن الشعر هو نقيض السجن, مثلما هو الموت نقيض الحياة. لكن النقيض يعدي النقيض ويولده. لحظة الكتابة هي لحظة حرية حقيقية والشعر هو أكبر فسحة حرية على الإطلاق. السجن يستدعي البحث عن نوافذ باتجاه الحرية, وبالنسبة لي المخرج الوحيد أمامي كان الكتابة, كشكل من أشكال محاربة الأسر. الأمر كان يملي نفسه علي هكذا خارج الرغبة وخارج الحساب الذهني. السجن يخلق معاناة, المعاناة تحرض الذهن, وتخلق مناخاً معيناً يدفعك إلى الكتابة عن معاناتك, مما يسمح لك بالإحاطة بها ومن ثم بالسيطرة عليها.
لكن ألم تخشَ أن تأسر القصيدة مشاعرك وتقولبها أو تضيق عليها؟ هل خفت أن يسيطر سجنك على شعرك ويوقعه في فخ: المباشرة التحريضية والنضالية, ويفقده جزءاً من سويته الأدبية والجمالية؟
- الشعر ديمقراطي مع كاتبه وقارئه, وهو لم يصادر أبداً مشاعري, بل أعطاني فسحة حرية مفاجئة وواسعة وطارئة. الشعر سمح لي بالسيطرة على سجني, لا أن يسيطر سجني علي. مع اعتقادي أن هذا المحضور يظل دائما رفيق الشاعر, ولكنه يطرح نفسه بإلحاح أكبر من خلال علاقة السياسة بالشعر, مما يعطي أحياناً كتابات مباشرة وتحريضية. في السجن هذا التخوف كان حاضراً, لكن الأمر ليس إرادياً, وقد حاولت أن لا أقع فيه بحسب ما تسمح كفاءتي وإمكانياتي. لقد حاولت أن أكون حذراً, وأعتقد أن ما حماني نسبياً, هو أنني لم أكتب عن الجوانب النضالية في السجن. كنت أميل إلى الوجدان والذكريات والمسائل الإنسانية الشفافة التي تنبثق من مشاعر السجين ومعاناته. أستطيع أن أقول إنني سجنت مع ما أشعره في لحظاته, الثورة والنضال وغير ذلك كله تراجع, وبقي مثلاً الحنين لأمي, لابنتي, للقرية, لأصدقائي. هذه المواضيع يثيرها السجن, وهي بعيدة عن المباشرة ولا تفقد بريقها. لقد حاولت أن أخلق معادلات فنية ورمزية تعكس الحالة من دون الوقوع في المباشرة. هناك لفظان لم أكن أبداً خائفاً من استخدامهما بشكل مباشر, هما الأسر والحرية. فهما ينطويان بحد ذاتهما على شحنة لا تذبل, لا عند القارئ ولا عند الشاعر.
في جانب آخر أستطيع أن أقول: إنني لم أكتب فقط عن معناتي, بل عن معناة الآخرين من حولي بجوانبها الإنسانية والمعيشية والعائلية. مأساة السجن لا تنعكس فقط على الشخص الأسير, بل تنعكس أيضاً على الحياة خارج السجن: أسر كثيرة تدمرت وتفككت, حالات طلاق, حالات فقر وبؤس.
هل تعتقد أن الذي سمح لك بالصمود في السجن هو ايمانك العقائدي, أم أن هناك أيضاً جانب إنساني ووجداني؟
- أعتقد أن ما سمح لي بالصمود في السجن هو مجموعة من المفاهيم التي تثير في الذهن أشياء معينة, مثلاً: الحب هو واحد من مقومات الصمود. كذلك هو الشعر. اليأس أيضاً, لكن ليس في معناه الانتحاري أو الاستسلامي, وبعيداً عن القنوط الذي يعني الشلل التام وعدم الفاعلية. اليأس أرى فيه قوة فاعلة, لا شيء غيرها قادر على قطع جدران المكان الذي أنا فيه. هناك أيضاً الحزن, لا بمعنى الكآبة ولكن بمعنى الأسى الذي أشعر به كقيمة عميقة لها تحريضات عالية.
بالإضافة لهذه المفاهيم من حب وشعر ويأس وحزن, هناك البعد الأخلاقي. فأنا بتكويني غير قابل للهزيمة, وبالتالي ليس أمامي إلا أن أصمد. افرض أنني لست شيوعياً, واعتقلوني وأرادوا أن أخضع, أنا أشعر أنني رجل غير قابل للهزيمة والخضوع. وفي لحظة من اللحظات كنت أتساءل لو أنني كنت قابل! هناك كثيرون قابلون وارتاحوا, لكن بالنسبة لي الأمر واضح: حياتي لا تقبل. أنا لا أطرح هذا من باب الاعتداد بالنفس ولكن أطرحه كمشكلة بالنسبة لي. ولحسن الحظ أنني برغم هذا الأمر خرجت من السجن.
من خلال ما ذكرت, نستطيع القول إن المعاني الإنسانية والمنظومة الأخلاقية تلعب في صمود الإنسان دوراً أكبر من البعد الإيديولوجي؟
- بالضبط, الأيديولوجيا لا تحمي شخصاً من السقوط والانهيار والانكسار. الذي حماني هو احترامي لكينونة الإنسان وثقتي به بالعام, وقناعتي أن الإنسان كقيمة, يجب أن لا ينحني ولا يتلوث. ما حماني هو منظومتي الأخلاقية وقناعتي بأنه لا يجوز أن أزعج مشاعر لأمي أو لابنتي, وأدفعهما لأن تشفقا أو أن تحزنا. ما همني هو أن أحصن نفسي كإنسان, حتى لو لم أكن عضواً في الحزب. الحصانة ذاتية والصمود هو فردي, والمنظومة الأيديولوجية لا تحمي أحداً إلا في حالات المد الشعبي.
هل تعتبر أن صمودك في السجن كان دفاعاً عن الحزب وأفكاره, أم هو دفاع عن القيم الإنسانية, مع إدراكي للتداخل بين الإثنيين؟ وكيف تفسر صمودك بعد سقوط الكتلة السوفيتية؟
- أستطيع أن أقول: إنني لا أقبل ظلم الإنسان بأي مكان وبأي شكل وداخل أي نظام. في لقاء مع ضابط أمن ذهب لمقابلتنا في تدمر لسبر إذا ما كانت رؤوسنا الحامية, على ما يعتقد, قد بردت على ضوء شروط تدمر. راح هذا الضابط يخبرنا عن التغيرات في العالم وسقوط المنظومة الاشتراكية, وكان اعتقاده أن إطلاعنا على هذه التطورات كفيل بإركاعنا, وكان جوابي له الآتي: هل تغير النظام السوري, أم هو لا يزال ديكتاتورياً؟ وإذا كان النظام لا يزال ديكتاتورياً, فأنا لم يتغير شيء عندي, لأنني لست تابعاً للنظام الاشتراكي وعندي عليه ملاحظات كثيرة, وأهمها غياب الديمقراطية. الآن إذا لم يتغير شيء, فأنا لست بخائف أن أرجع إلى السجن. ما يهمني في نهاية المطاف هو أن أكون منسجماً مع قناعاتي وإنسانيتي.
هل أثر فيك انهيار بعض الأشخاص وتعامل البعض الآخر والوشاية, وكيف عشت هذا الأمر؟
- كان الأمر مؤلماً جداً بالنسبة لي, مرارة ممضة, ليس من الناحية السياسية, ولكن من الناحية الإنسانية. دعني أقول: إنني كنت أشفق أحياناً, بمعنى أنني كنت أشعر بحزن تجاه هؤلاء الأشخاص, وهذا أحد أسباب حزني المستمر في السجن, لأنهم استطاعوا أن يدمروا جزءاً من الإنسان, جزءاً من كينونته الجسدية والمعنوية والأخلاقية. ليس هناك أحد انهار بإرادته, وكل الذين ضعفوا وتراجعوا, إنما فعلوه تحت وطأة عالية وعتبة فظيعة من التعذيب ليس من السهولة احتمالها. هذه قضية إنسانية, وأنا سلفاً متعاطف مع هذا الشخص المنهار, ويمكن أن أقف إلى جانبه وأحميه وأحصنه معنوياً, وأحياناً تولد حالات حميمية معه ويمكن أن أتفهم سبب انهياره, ولا يجوز أن أساهم بتدمير ما تبقى فيه من قيم إنسانية. فأياً يكن الأمر, أنا ضد الجلاد ومع الضحية طالما لم تنتقل لصف الجلاد. أما الذي لا أتعاطف معه فهو ذاك الذي انهار وتحول لعميل.
فرج .. هل تستطيع أن تحدثنا عن مراحل وأماكن اعتقالك؟
- في العام 1987 اعتقلت في دمشق وسجنت في فرع فلسطين للتحقيق, وبقيت أربعة شهور في منفردة, أمضيت معظمها تحت التعذيب. في النهاية استطعنا تسكير (إغلاق) ملف التحقيق وقطع الخيوط, ونقلنا من هذا الفرع إلى فرع آخر كمحطة انتظار إلى أن يبت في وضعنا ونحول إلى أحد السجون. ونحن هناك, شنت حملة اعتقال جديدة, وكشفت أوراق وأمور أخرى تبين منها أن معظم اعترافاتنا السابقة كاذبة. أُعدنا على ضوء ذلك, مرة أخرى, إلى فرع فلسطين, وفتح التحقيق من جديد وبقينا خاضعين له سبعة شهور أخرى. جولات التحقيق خلال هذه الفترة, كانت وسطياً بمعدل جولة كل يومين. بعدها, في شباط 1988, نقل 16 سجيناً من مجموعتنا, بمن فيهم أنا, إلى سجن تدمر. أبقينا في تدمر أربع سنوات, ومن ثم نقلنا إلى سجن صيدنايا الذي بقيت فيه حتى تاريخ الإفراج عني.
هل وصلت إلى حالة ضعف جسدي ونفسي خلال فترة التحقيق؟ وما هي بالنسبة لك أكثر وسائل التعذيب إيلاماً؟
- لا أبالغ إذا قلت إنني لم أعش هكذا حالة. بالنسبة لي المهم هو التحمل إلى حد الإغماء, وكان يواسيني أنهم لم يستطيعوا انتزاع أي شيء. لكن بعد الإغماء يصبح انتزاع الاعتراف مستحيلاً. أما هم فكانوا يدرسون بعناية ما هو الحد الفاصل بين الحياة والموت, ويحاولون التوقف قبله بقليل. بالنسبة لي, ما يسمونه الكرسي الألماني وأنا أسميه الكرسي النازي, كان الأشد ايلاماً وخصوصاً مع عواقبه اللاحقة من آلام في الظهر وشلل مؤقت في اليدين (دام شهوراً), وقد تركت عليه مرة لمدة ساعتين (الكرسي الألماني هو عبارة عن كرسي معدني يقيد عليه السجين ومن ثم يطوى الكرسي إلى الخارج بالاتجاه المعاكس, بحيث يضغط على ظهر السجين المقوس إلى حده الأقصى). عندما يوضع السجين على هذا الكرسي ويقرص ظهره يصبح العالم (الحياة والموت) بالنسبة له هو نصف زفير ونصف شهيق. فشهيق كامل أو زفير كامل يمكن أن يقتله, وعليه أن يوازي تنفسه على حد الألم بين شهيق جزئي وزفير جزئي. حياته موضوعة على هذا الخيط الفاصل.
كيف كانت عودتك إلى الشعر في تلك الفترة بعد توقف دام سنيناً؟
- بعد مرور أسبوعين, كما لو أن الشعر انبثق وحده كآلية دفاعية, وطلع في ذهني مقطع. فكرت كيف يمكن لي أن أكتبه بدون وجود قلم وورقة! وقلت لنفسي أحاول أن أقتل الوقت بمحاولة صياغة مقاطع صغيرة ومكثفة أريح نفسي بها. ألفت مثلاً أغنية لأمي وأشياء أخرى بسيطة من هذا النمط. وشعرت أن هذه الآلية مريحة جداً, خصوصاً أن الأوقات التي كنت أقضيها, في زنزانتي المنفردة, خارج فترات التحقيق كانت طويله ومملة. في إحدى المرات أعادوني محمولاً على بطانية إلى زنزانتي, وفي الطريق تراءى لي فجأةً مالك بن الريب عندما حضرته الوفاة. وأنا في حالة نصف غيبوبة أو في لحظة من لحظات الصحو شعرت بأوجه شبه بيني وبينه. لم أكن متهيباً من الموت, كنت فقط حزيناً, وحضرني هذا المدخل لما سيصبح قصيدة "رؤيا": لم أكن حياً .. ولا ميتاً فأفسحت له .. آه كم أخجلني ضيق المكان.
أمضيت أسبوعاً في زنزاتي منهكاً ومتعباً ذهنياً وروحياً لدرجة لا تسمح لي بإكمال القصيدة. بعدها أصبحت قادراً على المشي قليلاً فنقلت إلى المشفى لإصابتي بكسور في الصدر. في المشفى توقف التعذيب ومررت بفترة نقاهة وأمضيت بعض الأيام الساكنة, مما سمح لي بإكمال هذه القصيدة.
كيف كتبتها, بعقلك أم على الورق, وكم من الوقت بقيت محفوظة في ذهنك قبل أن تجد طريقها إلى الورق, وهل عدلت فيها بعد ذلك؟
- بعقلي طبعاً, فذاكرتي أصبحت مدربة من جديد على الحفظ, وإن كانت هذه الآلية لا تسمح لك بكتابة القصائد الطويلة. في تدمر كذلك لا يوجد أوراق ولا أقلام, لكنني استطعت أن أدرب ذاكرتي أكثر وأن أعتمد على الرفاق الآخرين في حفظ بعض المقاطع. ومع ذلك لم أكن مطمئناً وحاولت أن أحفظ وحيداً جميع القصائد. أما أول مرة كتبت فيها قصيدة "رؤيا" على الورق فكانت في تدمر, عندما أتو لنا بقلم لتسجيل حاجتنا من الأدوية, فاستغليت الفرصة وكتبتها على ورق السجائر, لكنني لم ألبث أن أتلفتها بسبب التفتيش الدقيق الذي كنا نخضع له كل شهر. فيما بعد أصبح خوفنا أقل وخبرتنا أكبر, فاخترعنا حبراً من الشاي وورق البصل واستخدمناه في الكتابة بواسطة عود من الخشب عثرنا عليه في الباحة. لكن الكتابة بقيت في مستوى التشفير, كأن أكتب بداية بعض المقاطع التي أخاف أن أنساها. أما أول مرة كتبت فيها بالمعنى الفعلي بأوراق وأقلام نظامية فكانت في عام 1992 عندما نقلنا إلى سجن صيدنايا. وأستطيع القول إن "رؤيا" بقيت محفوظة في ذاكرتي مدة خمس سنوات, أي حتى نهاية فترة اعتقالي في تدمر. والحقيقة أن (عدد) القصائد التي كتبتها خلال هذه المدة بقي قليلاً, بالمقارنة مع ما كتبته بعد ذلك في سجن صيدنايا. وغالباً ما كنت أتجنب التعديل في القصائد, حتى لا يتشوش ذهني وتضعف ذاكرتي.
أيهما كان أصعب عليك, الإحدى عشر شهراً التي قضيتها تحت التعذيب في فرع فلسطين, أم الأربع سنوات التي قضيتها في سجن تدمر؟
- خارج الأسابيع الأولى من التعذيب الأولي الضروري والسريع والوحشي بقوته وشدته, خارج هذا النوع من التعذيب: فرع فلسطين أسهل من تدمر, بالرغم من أنه تحت الأرض ولا شمس ولا هواء. فبعد أن ينتهي الجزء الأخطر من التحقيق تستطيع أن تشعر بشيء من الطمأنينة, بالرغم من أنه في أي لحظة يمكن أن تأكل دولاب (الجلد والضرب على الجسد المحصور من الرقبة إلى الركبتين في فوهة دولاب مطاطي). لكن الدولاب أصبح بالنسبة لنا في النهاية تسلية, خصوصاً أن هناك إغراء الحصول على سيجارة في أعقاب كل دولاب. ربما لأن أحداً من الرفاق لم ينكسر خلال فترة التحقيق, ولم يشعر أن الجلاد أقوى منه, تم إرسالنا جميعاً, كنوع من الانتقام والتأديب, إلى سجن تدمر.
أما في تدمر فلا .. الوضع كله ضاغط ومقلق ومرعب. تدمر مملكة موت وجنون. المشكلة ليس فقط ما يجري معك, لكن ما تراه يجري مع الآخرين, من طحن أو تكسير أو قتل. بالنسبة لنا كان واضحاً أن حياتنا هناك ليست مهدورة, إلا أن الضرب كان حاضراً في كل لحظة: عند إدخال الطعام, عند الخروج أو العودة من التنفس, عند التفقد. أي أنهم يخترعون أي طريقة لضربك .. واقف بحالة استعداد يسألونك: يا عكروت ليش واقف استعداد؟ وينهالون عليك باللكم والرفس. واقف بحالة استراحة كذلك هو الحال. إذاً أنت غير آمن, مرمي ومقطوع في الصحراء لا حول ولا قوة لك. بينما في فرع فلسطين أنت في دمشق وقد تستطيع تهريب خبر وربما تصرخ صوتاً ويُسمع. أما هناك فأنت تصرخ في صحراء. سجن تدمر حقاً عار على تاريخ سورية وعار على البشرية كاملة. هذه المملكة المجنونة ينبغي أن تغلق.
هل كنت دائماً تكره جلادك, وألم تتساءل أحياناً أين هو الإنسان داخل الجلاد؟
- في لحظات التعذيب كنت أتعاطف أحياناً مع بعض الجلادين, وكان واضحاً بالنسبة لي أنه يقوم مجبراً بواجب مفروض عليه سلفاً, وما أن يغيب الضابط حتى يهمس في أذنك بكلمة, أو يخفف من شدة الضرب. كنت أفرق بين الجلادين من طريق صوتهم أو درجة شدتهم في استخدام آلات التعذيب. هناك بعض الجلادين يقومون بأكثر مما هو مطلوب منهم, وهؤلاء كنت أكرههم في لحظة التعذيب, ولكن بعد أن أرجع للمنفردة وأتأمل وأفكر, كنت أشفق عليهم فقد قُضي على إنسانيتهم وتحولوا لمرضى. بالنهاية هؤلاء جزء من شعبي وهم يدمرون شعبي: السجين يدمرونه, السجان يدمرونه, والمواطن في خارج السجن يدمرونه أيضاً. وأستطيع أن أقول اليوم بعد إطلاق سراحي إنني غير حاقد على أي جلاد من العساكر وصف الضباط. أما بين الضباط, فأنا أيضاً غير حاقد, لكنني مستاء وأزدري عدداً منهم, وغير مستعد للتعاطي معهم.
كيف كانت علاقتك بجسدك خلال فترة التعذيب, وهل كنت تحبه؟
- في لحظات كنت أشعر أن الكائن الأكثر تعاطفاً معي والأكثر حميمة تجاهي والأكثر دفاعاً عني هو جسدي. لحسن الحظ, جسدي لم يخذلني أبداً, وبالتالي مرت فترات صرت أحني عليه وأعتذر منه, فأنا بشكل ما مسؤول أيضاً عن عذابه. لقد كان حبي لجسدي كبيراً, خصوصاً في الفترة الأولى من التحقيق. إنه الصديق الأوفى وهو يشتكي لي أحياناً, لا ليضعفي ولا ليخذلني, ولكن لأحس به, كما هو حال حصان عنترة.
وماذا عن علاقتك بزنزانتك؟
- على عكس ما تصور عليه الزنزانة من غربة وضغط وعتمة, أنا مررت بفترات أحسست بالأمان في الزنزانة المنفردة, والخطورة كانت في غرفة التحقيق. عندما كنت أنزل إلى المنفردة, أحس كأني عائد إلى رحم أمي, فمتى ما أغلق بابها, فأنا آمن. للحظات كنت أحسها حنونة وأشعر بالإلفة معها, وفي لحظات أخرى عندما كان جسدي غير متألم كنت أضيق ذرعاً بصغرها, حيث الرأس منحنٍ من انخفاض سقفها والساقان متكورتان من قصر طولها.
ما اللحظات الإنسانية المؤلمة التي لا تزال عالقة في ذهنك من فترة التحقيق؟
- دعني أقول إن السجن بالمجمل هو لحظة إنسانية مستمرة. قد لا أستطيع الآن استحضار جميع تفاصيلها, ولكن دعني أقول إن سماع صوت امراءة تتعرض للتعذيب يخلق نوعاً من المشاعر لا يمكن أن يمر بها الإنسان في حياته. رؤية اثنين منهكين من التعذيب وقدماهما متورمتين ولا يستطيعان المشي, لكن وضع أحدهما أفضل قليلاً من الآخر فيقوم "بشيل" صديقه, وهو أصلاً غير قادر على "شيل" نفسه. كذلك أن يتطوع أحدهم مع أنه ليس الفاعل الحقيقي لتلقي العقوبة بدل رفيقه الذي لا يسمح له وضعه الصحي بتحمل المزيد.
هل انتابتك لحظات بكاء؟
- الحقيقة أنا تربيت تربية كلاسيكية, وموضوع الدمع بالنسبة للرجل صعب. بقيت زمناً طويلاً من حياتي على هذا الحال. لكن عندما أنهيت التحقيق وأنا مرتاح الضمير, لم أعد أخاف أن يعتبر أحدهم دمعي حالة ضعف. كما أن الآخرين بتعاطيهم معي كشاعر, وتفهمهم لهذه الخصوصية, سهل الأمر علي, فتركت العنان لنفسي. مشاهد عديدة, أثرت بي وأبكتني, وهي غالباً لا تخصني شخصياً, بل تخص أوضاع الآخرين وأسرهم. هناك عائلات وجد منها خمس أخوة في المعتقل. أو أن تسمع عن سجين سمح له بزيارة بعد 18 عاماً وأنزلوه لرؤية عائلته فلم يعرف لا أباه ولا أخاه, وأراد الرجوع من على الشبك ولم يحل الأمر حتى تم التدقيق بالبطاقات الشخصية للتأكد من هويات الزائرين. أو سجين آخر نزل لزيارته الأولى بعد عشرات السنيين من الاعتقال فرأى أهله يبكون من خلف الشبك, فراح يخاطب والدته الباكية قائلاً: يمه ليش عم تبكي يمه؟ .. في حين يزداد بكاء المرأة. وفي الأخير تقول له السيدة: أنا أختك, أمك يرحمها الله. أمام هذه القصص أنا لا أحتمل وأترك العنان لدمعي.
هل بكيت من شدة التعذيب؟
- لا, بمواجهة الجلاد لم أشعر أبداً أنه يمكن أن أبكي, مهما كان الألم شديداً. ما عدا الكهرباء, التي هي بالنسبة لي أسهل أنواع التعذيب, لكن هناك نقطة واحدة هي أن الإنسان يصرخ بدون إمكانية للسيطرة على الصراخ إطلاقاً. أنا في الدولاب أو الكرسي الألماني ممكن أن أضبط سيطرتي على الصراخ فترة, أما مع الكهرباء فيبدأ الصراخ مع وصول أول صدمة دون أن يعي الإنسان لنفسه, ويتوقف ويزول الألم فور توقف التيار, في حين يبقى الألم وتبقى جراحه وندوبه مع أدوات التعذيب الأخرى. مع الكهرباء كنت أسأل نفسي حال توقفها, كيف خرجت مني هذه الأصوات؟ إنها صراخ مقلوب وعواء. أصوات بهيمية غير واضحت المعالم بين الاستغاثة والولولة.
هل بكيت بمواجهة عائلتك؟
- بمواجهتي لأهلي لم أسمح أبداً لنفسي بالبكاء, مهما كانت شدة الألم. لقد كان همي أن أعطيهم الإيحاء أنني مسيطر على وضعي ومتماسك ومرتاح, وأن أحصنهم كما حصنت نفسي وأن لا أدعهم يضعفوا. ولم أبكِ إلا في حالة واحدة أمام أخي الصغير والأقرب لي الذي كان معتقلاً في سجن صيدنايا بنفس التهمة. حال وصولي إلى هناك قادماً من تدمر طلبت لمّ شمل, كان حنيني عالياً وبالنسبة لي: إذا رأيته فكأني رأيت كل أهلي وأعدت اتصالي بالعالم الخارجي الذي كنت مقطوعاً عنه. في البداية وافقوا على أن أشاهد أخي في غرفة خارجية لمدة خمس دقائق بانتظار أن يدرس طلبي, وأتوا به, وخرجت لرؤيته ومن ورائي رفاقي الـ 16, وبمجرد ما رأينا بعضنا .. تعانقنا عناقاً منفلتاً, ولوهلة كنت أسأل نفسي أأضعف أم لا أضعف؟ وفي لحظة العناق سمعت من ورائي شهقات وبكاء الرفاق وقد بدأت تصلني فأطلقت العنان لنفسي. المرة الثانية التي بكيت فيها أمامه, كانت عندما وصلني نبأ وفاة الصديق جميل حتمل. لم أستطع أبداً ضبط أعصابي وخرجت من الجناح غير خائف أن يسمع أحد شهيقي.
متى كانت أول مرة رأيت فيها ابنتك الصغيرة والوحيدة بعد دخولك السجن؟
- رأيتها أول مرة من خلال صورة فوتوغرافية وصلت إلي في سجن تدمر. فقد سمح لأحد رفاقنا السجناء بزيارة استثنائية أعطته عائلته خلالها مجموعة متنوعة من الصور بدون أسماء, لعائلات بقية رفاقه. حال عودته إلى المهجع, توازع الشباب الصور وكنت الوحيد الذي لم تصله صورة. وبقيت صورة أخيرة بدون صاحب وهي مأخوذة في الاستديو لطفلة صغيرة بفستان أحمر, فكنوع من الاستنتاج تنادى الرفاق وقالوا إنها بالضرورة صورة ابنتي سومر. ترددت قليلاً وأنا أنظر إلى هذه الصورة وشعرت في البداية أنني لا أعرفها ورحت أدقق في الملامح. تشبهني أم تشبه أمها! وفي الأخير ثبّت نظري على العيون وشعرتها وقد بدأت تتحرك وتغمز, وفي ثوانٍ لم أعد أرى أي ملامح أو أي ثياب, ما عدا العينان تقولان لي: أنا ابنتك, أنا سومر. شعرت بومضة .. إنها فعلاً هي, فرحت أقفز من الفرح وأقول: يا شباب فعلاً سومر, سومر هي. وأذكر أن الآخرين أدمعت عيونهم, أما أنا فلا, لأن الحزن تلاشى وتحول إلى فرح غامر بدءاً من لحظة تعرفي عليها.
أما المرة الأولى التي رأيتها فيها حقيقةً فكانت في سجن صيدنايا, حيث أخبرونا عن زيارة, وكنا متفقين أن أول زيارة نريدها خاصة في غرفة وليس من خلال الشبك, خصوصاً بعد كل هذه السنوات. نزلت وقراري محسوم إما أن أرى وألمس أبنتي بعد ست سنوات, أو لا داعي للزيارة. بعد أخذ وردّ مع الإدارة سمحوا لي بذلك. دخلت ورأيت طفلة ذات تسع سنوات, وقدرت أنها ابنتي وإن كانت لا تشبه, بعد كل هذه الأعوام, الطفلة الصغيرة التي تركتها ورائي.
اقتربت منها وحملتها سائلاً: كيفك بابا؟ أجابت: منيحة. ارتحت قليلاً وسألتها: هل عرفتني, احكي لي بعضاً من ذكرياتنا معاً؟ أجابت: مرة أخذتني على ميّ كتير (تذكرت أنني أخذتها للمسبح) ومرة أخذتني على مراجيح وقطارات بتطلع وبتنزل (مدينة الملاهي). هنا ازداد ارتياحي, ففي ذهن ابنتي لا يزال هناك على الأقل مشهدان لنا سوياً. اليوم, بعد خروجي من السجن, سألتها مجدداً عن ذكرياتنا معاً قبل سجني فاكتشفت أنه حتى هذه المشاهد تبخرت من ذهنها.
إذا عدنا إلى سجن تدمر, يبدو أنه صادف وجودك فيه, وجود أخ آخر لك متهم بانتمائه للإخوان المسلمين, لكنك لم تعرف ذلك إلا بعد تركك تدمر. ما السبب وهل تستطيع أن تصف لنا أوضاع هذا السجن كما عشتها؟
- السبب أن المهاجع والباحات منفصلة تماماً. وحتى لو حصل وصادفته فلا أعتقد أنني كنت سأستطيع التعرف عليه, لأن جميع السجناء حليقي الرؤوس والشوارب ولباسهم موحد وهم مجبرون على المشي خارج المهاجع ورؤوسهم مطأطئة. وإذا خرجوا من المهاجع فهم يتركونها كالقطيع المسعور وكأن داخل المهجع يوجد أفعى سامة أو ذئب مفترس, وكذلك هو حالهم عند عودتهم إليه, حيث كل واحد يريد أن يكون أول الداخلين أو الخارجين تجنباً لضربات السياط والكبلات التي تنتظرهم على باب المهجع. فظيع كيف يشتغل حس الحياة لدى الإنسان, فمن حلاوة الروح تجد أن كل واحد يرمي بنفسه في الأول. أصوات أقدامهم, وهم خارجون أو داخلون, تشبه أصوات وهدير سنابك القطعان. ثمانون أو سبعون سجيناً يخرجون متدافعين في ثوان من بوابة المهجع. الطريف أنه قد يمضي علينا عشر دقائق تنفس في الباحة, ويأتي الرقيب ويسأل منادياً برقم المهجع: أديش صرلك 17؟ وعلى رئيس المهجع أن يجيبه: صرلنا ساعة حضرة الرقيب. وإلا فالضرب نصيب كل المهجع.
نتيجة هذه الحالة, كان التنفس بمثابة عقوبة جماعية. وقد أسميته بدلاً من التنفس قطع أنفاس. في المرة الأولى أخرجنا إلى باحة التنفس حفاة الأقدام وطلب منا أن نمشي مغمضي الأعين مطأطئي الرؤوس بمحاذاة الجدار دوراناً حول الباحة, وافتعلوا أي شيء لضربنا, ومن ثم أدخلونا من جديد إلى المهجع. هكذا أحداث تراجيدية غالباً ما كانت تفجر ضحكات فظيعة, وكنا نعمل على تهدئة بعضنا البعض لأنه إذا سمعت ضحكاتنا فسنتعرض للضرب من جديد. مع ذلك, كنا لا نستطيع أن نقاوم الضحك خصوصاً عندما نتعرض لجولة ضرب جماعية. ضحك نصف هستيري.
كنا نبحث عن ذريعة للإضراب عن الطعام من أجل تحسين شروط اعتقالنا, ولم نجد أفضل من ذريعة رفض الخروج إلى الباحة للتنفس. فالتنفس في تدمر هو واجب على السجين وليس حقاً له. وكعقاب لنا أخضعنا لجولة ضرب جماعي أعلنا على أثرها الإضراب عن الطعام. دام الإضراب يوماً واحداً وأنهيناه بعد أن حصلنا على وعد بتحسين شروط اعتقالنا وإيقاف الضرب العشوائي والشتائم. لكن شيئاً لم يتغير, ومضت سنة ونصف, يئسنا في نهايتها من أي محاولة لتحسن وضعنا. وبعد أن اقتنعنا أن دمنا غير مهدور, أضربنا للمرة الثانية ودام إضرابنا 11 يوماً, حصلنا في نهايته على بعض المكاسب.
هل كتبت قصيدتك المعنونة "إضراب عن الطعام" خلال تلك الفترة؟
- نعم, وقد أضرب المهجع بالكامل وكانت مطالبنا بسيطة: وقف الضرب, وقف الشتائم, جريدة, كتاب, أوراق وأقلام, باحة خاصة للتنفس بدون تواجد العسكر فيها. وأضفنا الراديو وحق الزيارة مع قناعتنا أنهما مطلبان صعبا التحقق. فالهدف كان تحصيل أكبر قدر من مطالبنا. في البداية حاولوا ثنينا عن الاستمرار في الإضراب عن طريق التعذيب, لكن بعد عدة أيام أصبح الضرب يشكل تهديداً لحياتنا. وقد كان ردنا في الحقيقة انتحارياً وأخذنا ندق على الباب هاتفين: تسقط الديكتاتورية, تحيا الحرية. في الأخير ارتبكت الإدارة واستجابت لجزء معقول من مطالبنا (باحة, جريدة بشكل متقطع, إيقاف الضرب, بعض الكتب من مكتبة السجن) ووافقنا على فك الإضراب.
قبل هذا الإضراب كنا فقط قارئين عنه نظرياً, وكنا نعرف أن الإنسان يستطيع تقريبياً أن يصمد شهراً كاملاً دون أن يعطب جسدياً. لكنني فوجئت أن الإضراب مخاوفه أكبر من تنفيذه. في الأيام الأربعة الأولى كنت قادراً على المشي وفي اليوم الخامس بدأت أوهن, وأصبحنا نقلل حركتنا ونقتصد في السعرات الحرارية. بعد الأيام الأربعة الأولى, تنطبق المعدة على بعضها وتكتفي بذاتها, وبالتالي ما يزيد عن الجوع ضغطاً على الإنسان, هو الإحساس بالزمن. بعد مرور عدة أيام تصبح وطأة الزمن أشد من أي شيء آخر .. زمن حجري. تضع رأسك المثقل على البطانية فتحسها حجر. في اليوم التاسع بدأت أشعر بالنحافة والهزال واضحاً على قامات الجميع فألفت القصيدة.
أمضيت السنوات التسع الأخيرة من اعتقالك في سجن صيدنايا, كيف كان الوضع هناك؟
- شروط سجن صيدنايا هي للجميع أفضل بمراحل من بقية المعتقلات التي مررنا بها. مع ذلك أول سنتين, كان وضعنا أسوأ من باقي المجموعات, فقد كنا نخضع لتفتيش دوري ويصادر منا كل شيء: الراديو, الطاولة, لمبة الإنارة الصغيرة, العود المصنع يدوياً من أخشاب صناديق الفواكه وخيطان الجوارب النايلونية. بعد ثلاث سنوات بدأ الوضع بالتحسن, وفي السنتين الأخيرتين, نشأ حد من العلاقة الإنسانية مع السجانيين, وسمح لنا بالكتب وأجهزة الراديو, وأصبح التعامل معنا مريحاً للغاية. ورغم أني لا أرغب أن أقول عن أي سجن إنه مريح, لكن الشرط العام بكامله تغير في سورية في الفترة الأخيرة, نتيجة ضغوط خارجية وداخلية فيما يخص حقوق الإنسان.
بالنسبة لي شخصياً, كانت أول ثلاث سنوات في صيدنايا سيئة للغاية على المستوى الذاتي والصحي. فقد حصل معي إشكاليات قلبية نتيجة الشرط الضاغط: أهلي, ابنتي, حالة زوجتي الصعبة بعد خروجها من السجن. لقد كانت جرعة عالية من الألم لم أستطع أن أمتصها بسهولة, مع ذلك كنت أقاومها عن طريق غزارة الكتابة التي كانت بمثابة إعادة توازن وتفريغ لجعبتي تحت هاجس الموت. بعد مضي هذه السنوات الثلاث, خفت همتي وأصبحت الكتابة الشعرية بين مدّ وجذر بحسب حالتي الوجدانية والنفسية.
هل تذكر أول لقاء لك مع صوت المرأة بعد سنوات سجنك الخمسة في تدمر؟
- في صيدنايا هرّب لنا راديو صغير بموجة واحدة, ففوجئنا بصوت نسائي نجهله يردد مرتين ثلاثة في اليوم أغنية "كلمات". صرت أسبح في فضاءات هذا الصوت وامتداداته وشعرت فعلاً أن الحبس أصبح أسهل احتمالاً. بعد شهور, التقينا السجناء القدامى وكان أول سؤال طرحته عليهم: من هي صاحبة هذا الصوت الجميل, التي تغني قصيدة نزار قباني "كلمات"؟ فقيل لي إنها المطربة اللبنانية ماجدة الرومي.
هل تذكر متى كانت أول مرة رأيت فيها قصائدك مكتوبة على الورق, وكيف كانت مشاعرك لحظاتها؟
- نعم, فور وصولنا إلى سجن صيدنايا, استطاع الرفاق القدامى في السجن أن يهربوا لنا أوراقاً وأقلاماً. أفرغت مباشرة القصائد على الورق, بمساعدة صديقين لي كانا يحفظان جزءاً من الأشعار التي نظمتها في سجن تدمر. بعد ذلك قمنا بتهريب ما كتبته إلى مهجع آخر ومنه إلى خارج السجن. عندما تم الأمر, شعرت براحة لانزياح هذا الهم عن كاهلي حتى أن ذاكرتي بدأت بنسيان ما كنت أحفظه. كأن ما كتبته انتقل من الخاص إلى العام, وضعف التصاقي به, وأصبح موقفي منه أكثر موضوعية. لقد كانت لحظة سعادة استثنائية, أعادت مقومات صمودي وتوازني بصورة أشد قوة, وتعزز إيماني بالشعر ودوره, خصوصاً بعد وصول الأصداء الإيجابية من الخارج.
أثناء فترة اعتقالك, نشر لك ديوان "حمامة مطلقة الجناحين", وهو يضم بعضاً من قصائدك المكتوبة في السجن. يقال إن النشر تم بدون علمك, كيف كان موقفك عند معرفتك بالنبأ؟ وهل تبدل رأيك, بعد الإصداء الإيجابية التي لاقاها هذا الديوان في العالم أجمع, وبعد أن ترجم إلى عدة لغات أجنبية, وأطلق حملة عالمية للإفراج عنك؟
- في البداية استأت كثيراً, لعدة أسباب: أولها, أنني لم أختر القصائد التي تضمنها الديوان, وبعضها كان لا يزال في طور كتابته الأولى. هناك أيضاً خطر أن أحرم مجدداً من الورقة والقلم, وأنا لم أفرغ بعد كل ما في جعبتي. يومها, كان يتنازعني شعور بلا جدوى الشعر مقابل النثر في الوصول إلى أوسع شرائح من الناس وتحريك الوضع. لذلك لم أكن خائفاً عندما كتبت مرافعتي أمام محكمة أمن الدولة والتي اعتبرها البعض انتحارية. لقد كتبتها بكل قناعاتي ومشاعري على أمل أن تؤثر ايجاباً على الوضع العام وأن يفهمها كل مواطن .. أما الشعر, فكنت أسأل نفسي من سيقرأه ومن سيتعاطف معه. لم أكن أدرك أنه يمكن أن يثير كل هذا الصدى. لكن بعد وصول أول ردود الفعل الإيجابية, خطأت نفسي, وتعزز إيماني من جديد بمكانة الشعر ودوره, وصرت أكثر صلابة وسعادةً حتى لو كان الثمن تأخير خروجي من السجن.
ألم تسأل نفسك, هل أن الاستقبال الإيجابي لديوانك مرتبط بسويته الفنية, أم بكون كاتبه هو سجين رأي وضمير؟
- دعني أقول: إن الأمر لا يعنيني كثيراً, فأنا لا أعتبر نفسي شاعراً عظيماً, هذه هي كفاءتي وإمكانياتي الفنية, ولا أرغب أن يبالغ فيها أحد ولا أن يبخسها حقها. أما بالنسبة للأصداء الإيجابية, فأنا أعتقد أنه قد بولغ فيها, وذلك لا يعود للجانب الجمالي أو الفني, بل لرغبة الناس في التضامن مع قضية ذات بعد إنساني, خصوصاً أن المعني بها هو شاعر سجين.
هل كنت تقرأ لشعراء آخرين في سجن صيدنايا, ومن الشاعر الذي اشتقت أكثر لقراءة أشعاره؟
- لقد قرأت, كل ما وقع في يدي من أشعار. أما الشاعر الذي اشتقت أكثر لقراءة جديده, فهو محمود درويش. مثلاً قراءت في الصحف عن ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيداً" وبقيت أنتظر ثلاث سنوات قبل الحصول عليه. محمود درويش شاعر لا ينضب, وهو دائماً قادر على تجديد نفسه. لم أقرأ في حياتي شعراً يدخل إلى داخلي ويؤثر فيّ وجدانياً كشعر درويش, بصوره ومضامينه وحرارته وبساطته وتركيبه وتعقيده. وعلى عكس ما يجري عادة, فأنا دائماً أبحث عن أصداء لي في كتاباته. أبحث في شعره عن طفولتي, وعن محطات حياتي. عندما يتكلم عن الحمام, أتذكر أعشاش الحمام في قريتنا ومشاعري عندما يطير, الريح وعلاقتها بالشجر, علاقتي بأمي, الحرية.
قراءة الشعر متعة ممزوجة بإرهاق جميل, كحال الخارج من عملية جنسية جميلة. عند انتهاء القراءة أشعل سيجارة وأعوم ببحر من المشاعر.
هل تستطيع أن تصف لنا مشاعرك يوم إطلاق سراحك, وكيف كان استقبال أهلك وابنتك لك؟
- أزعم, أني خرجت وبي غصة, فحلمي بأن نترك جميعاً السجن من دون أن نلتفت ورائنا, لم يتحقق. لقد تركنا السجن ولا يزال فيه بعض من رفاقنا, طلعنا إلى الحرية ونحن نودع من بقي bbفي الأسر. لذلك عندما خرجت, لم أذهب للقاء أهلي في القرية, بل لزيارة أهل من بقي في صيدنايا.
نقلنا في باص إلى دمشق التي لم أتعرف في البداية على أي من شوارعها, أنفاق وجسور ومعالم جديدة تماماً بالنسبة لي. لم أستطع أن أحدد وجهتنا إلا حين وصولي إلى نقطة أعرفها قديماً.
أمضيت يوماً في دمشق, في اليوم التالي توجهت إلى حمص حيث كان أهلي في انتظاري في منطقة الكراجات. عند نزولي من الباص كان أول من قابلني هو وجه ابنتي, وشعرت أن قواي ضعيفة وخفت أن لا أصل إليها.. وصلت واتكأت عليها طويلاً وضممتها زمناً مديداً وبكيت .. بعدها لم أعد أرى أحداً. عناق وقبل وأنا عائم بين الأهل والأصدقاء.
ألا تشعر بتأنيب ضمير تجاهها, بسبب ما لحق بها من معاناة؟
- أبداً لا أشعر بهذا, ولحسن الحظ أنها أراحتني من هذه المشاعر بنضجها وتفهمها لواقعي وظروفي. هي تعتبر نفسها شريكة لي, فكما أنا دفعت ضريبة لا من أجل نفسي ولكن من أجل شعبي وأهلي ووطني, كذلك هو حالها. لحسن الحظ أنها اختارت خلال فترة غيابي أماً وأباً بكل معنى الكلمة, هما أخي وزوجته. وهي تناديهما بابا وماما. أنا اليوم أب إضافي, أقل أهمية من أخي, كأني بمثاية صديق لها.
اليوم, وبعد خروجك من السجن, هل لديك رغبة في العودة للعمل السياسي والحزبي؟
- قبل اعتقالي كنت أقول: إنه بمجرد أن أقوم بأعمالي الحزبية كاملة, وأتحمل مسؤوليتها للنهاية وأعتقل, سأعود في السجن شاعراً. كنت ولم أزل شاعراً, ومستقبل حياتي هو مع الشعر. أنا لست برجل تنظيم, نعم أنا رجل سياسي كنت ولم أزال وسأظل مهتماً بالسياسة بالمعنى الأوسع للسياسة, وسأبقى حراً تماماً أمنح قناعاتي ومواقفي لمن أراه يخدم فعلاً قضية شعبي. أما أن أعود رجل تنظيم بالمعنى الضيق فلا, لأن ذلك ليس من طبيعتي, وأنا اضطررت إليه اضطراراً, وحيّدت الشاعر داخلي تحت ضغط المسؤولية ووفاء للأصدقاء والرفاق.
هل من مكان للحقد في قلبك, وهل تستطيع قلب صفحة الماضي في ضوء ما يجري من تطورات إيجابية في سورية اليوم؟
- لقد تعلمت في السجن أن أؤمن بالإنسان بصورته السامية, وبالتالي الحقد غير وارد بالنسبة لي, لأن الإنسان الحاقد يتنازل عن جزء من حقيقته الإنسانية. أما التصالح فهذا أمر لا أستطيع الخوض فيه اليوم, وأنا بحاجة لزمن حتى أرصد حركة الواقع والمجتمع, وأشكل صورة معينة. لكن أستطيع القول إنه عندي أمل أن تتصالح السلطة مع المجتمع, وإن كان الأمر بحاجة لإجراءات كثيرة, وتضحيات كبيرة من كل الأطراف, بما فيها نحن. قلب الصفحة لا يكون بطريقة عفا الله عن ما مضى, بل له شروط أهمها مداوات ما ترتب على الماضي, كملف المفقودين مثلاً. إذاً, يجب على جميع الأطراف من سلطة وتيارات سياسية, أن تتشارك لمداوات الجراح وخلق مصالحات معينة وإعادة التماسك للحّمة الاجتماعية والوطنية.
في النهاية, أحب أن أستعيد معك على ضوء الحاضر, بعض المقاطع من أشعارك: مسد الحارس بالشوك .. عصافيرك/ والدولة أهدت لك .. موتاً احتياطياً. من يمسد لك اليوم جراحك, ماذا يمكن إهداؤك غير الموت الاحتياطي؟
- هناك مئات الأشخاص ممن أعرفهم أو لا أعرفهم, من سورية ومن جميع أنحاء العالم, أصبحوا لي بمثابة أهل, كذلك هناك أهلي وأصدقائي وأبناء قريتي. كل هؤلاء الناس منحوني بدلاً عن الموت الاحتياطي, حرية احتياطية كنت أخاف أن لا أحصلها.
لم أكن حياً .. ولا ميتاً فأفسحت له/ آه كم أخجلني ضيق المكان
أين أنت اليوم بين الحياة والموت؟ وهل انفتح المكان على آفاقه؟
- أعتقد أني منذ بضع سنوات خرجت من هذه الحالة, وأنا دائماً على ضفاف لا تنتهي من الحياة, وعلى آفاق لا تنتهي.
زنزانتي جسدي .. والقصيدة حرية طارئة
ماذا تركت وراءك في الزنزانة بعد أن غادرها جسدك؟
- تركت ورائي بعض الأنقاض من جسدي, إلا أني رممته لاحقاً. وتركت ذكريات عدة, أعتقد أنها أنقاض الآن.
الغزالتان الطريدتان, الزوجة والابنة ما حالهما اليوم؟
- لم تعودتا طريدتين, إلا أن الأولى سقطت في شباك ظلم عات أدى إلى مرضها, والثانية لم تجد بعد السهول الملائمة لها, آمل أن أشكل سهلاً لها.
ولا الشعراء مثلي عندما .. يبكون
- كان الشعراء الجاهليون يبكون على أطلال للأمكنة وحنينهم لها. أنا مثلهم أبكي على الأطلال, لكن المأساة أن الأطلال بالنسبة لنا هي أطلال أدمية, وهي أشد وقعاً ومرارة. أعرف أمهات وزوجات وأخوات أصبحن أطلالاً بشرية.
إني أنادي/ أنا لا أبحث عن قبر جماعي/ ولكن .. عن بلادي
فرج .. هل وجدت بلادك؟
- لا حتى الآن لم أجدها. أنا دخلت السجن وسورية كانت بالنسبة لي قبراً جماعياً. الآن هل بقيت كذلك؟ الحقيقة لا أعرف! لدي آمال, إلا أني لا أجزم.
قدمت ديوانك بهذه العبارة: "الحرية التي في داخلنا أكبر من السجون التي نحن في داخلها". فرج .. أين هي حريتنا اليوم وأين هي سجوننا؟
- لا تزال الحرية التي في داخلي هي الأقوى, إلا أنه يرفدها الآن حرية إضافية منحني إياها الآخرين, وأنا ممتن لهم جميعاً. وإذا كانت بعض مظاهر القمع لا تزال قائمة, فإن ثقتي عالية بأنها ستزول, وأنا أرى بعض البوادر الإيجابية بهذا الإتجاه, إلا أنها غير كافية تماماً. فقانون الطوارئ مثلاً لم يلغ بعد, ويمكن ببساطة إعادتنا إلى السجن.
#محمد_علي_الأتاسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟