تريد إسرائيل في أزمتها الحالية إزاحة صدام حسين من السلطة، والإسرائيليون من صهاينة ويهود، يسار ويمين متفقون بالعداء للعراق وإضعافه. في حين يبدو أن غالبية العرب والكرد راغبون بتنحية صدام حسين وجماعته من سدة الحكم، لكن الخلاف بالنسبة لهم هو في طريقة إزاحته. هناك مَن يرى بأنه من غير الممكن للمعارضة العراقية إزاحته، نظرا لضعف هذه المعارضة من جهة، ولتردد القوى العربية الأخرى في أن تتعاون مع المعارضة العراقية لأن هذه القوى العربية عاجزة في إتخاذ القرار بسبب فقدان الرؤية العربية للأحداث في عموم العالم العربي، أو بسبب أن أغلب الأنظة العربية غير ديمقراطية، وإن إيجاد نظام ديمقراطي في العراق يقود إلى تمرد ضد تلك الأنظمة. وربما يمكن القول بعدم إستقلالية تلك الأنظمة في إتخاذ القرار، فتعارض ضرب العراق، لكنها تتعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا في الواقع العملي. وهناك مَن يؤيد التغيير بأي شكل كان لأن النظام العراقي يهدد الأمن الداخلي لهذه الدولة العربية أو تلك كالكويت. أو أن النظام العراقي يهدد الأمن العربي برمته، لذلك لابد من تغييره. المهم هو تحقيق الهدف سواء بأيدي عراقية أو أمريكية هكذا يرددها البعض كالمعارضة العراقية في المنفى. وهناك من يخشى الفوضى في منظقة الشرق الأوسط في حال توجه ضربة أمريكية بريطانية، وخطورة تقسيم العراق. وهناك مَن يود ضرب العراق ولكن بضمان عدم تقسيم العراق. كل هذه التساؤلات علامات واضحة لهزيمة العقل العربي المنقسم على ذاته بسبب إنعدام إستراتيجية واضحة للأمن القومي العربي. فالعرب متفقون أن لا يتفقوا كما قال أبن خلدون، وهم متفقون أيضا على صعيد الأنظمة أن تتمسك الأنظمة بكراسي الحكم وتقوية القوى البوليسية الداخلية لإخماد تمرد الشعب. لكنهم رسميا وشعبيا منقسمون على إيجاد حل لأكثر القضايا إلحاحا في الشرق الأوسط وهي القضية الفلسطينية. فالقضية الفلسطينية تشكل قوة تراوح العرب بين الحرية والعبودية. ومن غير الممكن أن يفكر العرب تفكيرا جديا بالديمقراطية، وممارسة الديمقراطية في ظل الإرهاب في إسرائيل وفلسطين. فإسرائيل مشكلة أوربية وأمريكية قبل أن تكون عربية. والأوربيون يريدون هجرة اليهود إلى فلسطين، وترك أوربا للأوربيين. والأنظمة العربية لا تريد حلا للقضية تضمن الحرية والديمقراطية في المنطقة، لأن مثل هذا الحل يؤدي إلى تغيير الأنظمة الدكتاتورية. كما أن الأجواء الديمقراطية وممارستها تؤدي إلى حل المشكلة العراقية وحل المشكلات القومية الملحة كالقضية الكردية على رأس القائمة وقضية جنوب السودان والقضية الأمازيغية وقضايا الأقليات الأخرى، لأنه لايمكن ممارسة الحرية في أجواء إضطهاد الأخرين. وأنا شخصيا لا أجد إستعدادا للعقلية العربية المشرزمة بتقبل مثل هذا المناخ الديمقراطي. ومن هنا فالواقع الذي نعيشه يعطينا قناعة بهزيمة هذا العقل الذي يحتاج إلى علاج. والأمر في كل ذلك عدم إستعداد العقلية الفلسطينية نفسها لإيجاد مثل هذه الحلول. فالفلسطينيون عقدوا إتفاقيات السلام مع إسرائيل، ويريدون أن يُشكلوا دولتهم المستقلة، لكنهم يرفضون بإلحاح عقد مثل هذه العلاقات بين الدول العربية والإسلامية وبين إسرائيل، ويرفضون بإلحاح تشكيل أقليم كردي فدرالي أو دولة كردية في المنطقة على أرض كردستان أو تشكيل دولة أمازيغية أو دولة في جنوب السودان، بحجة أنها ستكون دول حليفة لإسرائيل. إذن التفكير هنا في العقل الفلسطيني وفي العقل العربي كما في العقل الإسرائيلي على السواء إستمرارية الصراع في المنطقة، ورفض كافة الحلول التي تهيأ المناخ الديمقراطي وحل قضايا الشعوب والعيش بسلام.
السؤال هو لماذا هذا الحكم العفوي من أن تشكيل أقليم كردي فدرالي أودولة كردية ستكون معادية للقضية الفلسطينية؟ لماذا لا يمكن أن تكون مثل هذه الدولة صديقة للفلسطينيين؟ بل لماذا لا يفكر الجميع بالحل الأمثل بضرورة تحقيق السلام العادل والشامل للجميع، وممارسة الحرية سواء كان على أساس الفدرالية أو الدولة المستقلة. المهم هو أن يقرر كل شعب مصيره بنفسه في ظل الديمقراطية، وإحترام القوانين الدولية في نظام العلاقات الدولية. فلنعطي الشعب الحق في الإستفتاء والمشاركة في صنع القرار.
هزيمة العقل العربي مدعومة من القوى الإسلامية التي عجزت أن تعطي حلا ديمقراطيا لمشكلة أثنية واحدة في العالم العربي والشرق الأوسط. فإذا قرأنا أدبيات هذه الأحزاب لا نجد حلا ديمقراطيا سوى القول بأننا مسلمون وإخوة. العرب هنا يستغلون كافة الأقوام لخمة الإسلام، ويستغلون الإسلام لخدمة قضايا القومية العربية. فهل نجد حلا لمشكلات الشرق الأوسط في ظل حكم هذه العقليات العربية والإسرائيلية والأنظمة العلمانية المسلمة؟ كيف السبيل إلى السلام العادل والشامل بعيدا عن الديمقراطية؟ كيف السبيل لإيجاد حلول للقضية العراقية والقضية الفلسطينية والقضية الكردية وقضايا الأقليات القومية الأخرى في ظل هذه النفسيات المشحونة بالكراهية ورفض الأخر؟ بل كيف يمكن إيجاد حل للقضية الفلسطينية وحدها في حال رفض حق الشعوب الأخرى في العيش بحرية وسلام؟
التفكير الإسرائيلي ليس أفضل أبدا. فإسرائيل في أزمة تفكير مفتوح يوما ومغلق يوما آخر. فهي تعجز أن تحدد الجغرافيا، ولم تحدد أين تنتهي الجغرافيا حتى يتم الإعتراف بها. فأين ينتهي الإعتراف الفلسطيني بإسرائيل؟ ولماذا هذا الإعتراف الذي ينتج عنه عدم الإعتراف أصلا بالحدود المتفقة عليها في وثيقة الإعتراف. وفي ظل التفكير الإسرائيلي اليوم ببناء طوق من المستوطنات، وجعل المنطقة الفلسطينية سجنا مفتوحا مغلقا على غرار سجن صدام حسين للشعب الكردي قبل تشكيل المنطقة الأمنة إن صح التعبير، لن يتحقق السلام. والتفكير الإسرائيلي مدعوم هو الأخر من قبل الصهيونية العالمية والتطرف اليهودي المتمثل بالأحزاب اليهودية الأصولية، وبالمجتمع الدولي الذي يقوده اليوم الولايات المتحدة الأمريكية. فمثلما يضع العرب الإسلام في خدمة القومية العربية ، فإن إسرائيل تضع اليهودية في خدمة الصهيونية، وكلاهما لا يقبلان بعضهما البعض في ظل النظام المعاصر للعلاقات الدولية.
القومية العربية المتطرفة يقابلها الصهيونية المتطرفة في خطين متوازيين لا يلتقيان، والأحزاب اليهودية الأصولية، يقابلها الأحزاب الإسلامية المتطرفة وتسيران في خطين متوازيين أيضا. هذه المعادلات تجعل من طريقة التفكير قوميا ودينيا نحو أكثر المسالك عنفا في التاريخ المعاصر. لكن هذه الإشكالية أصبحت أكثر تعقيدا بإلتقاء هذه التناقضات في العداء للقضية الكردية، بتعاون إسرائيل مع النظام التركي لتصفية القضية الكردية في الشمال، وإصطياد أوجلان وضرب حزبه "العمال الكردستاني" في مقابل تعاون االمنظمات الفلسطينية مع النظام العراقي لتصفية القضية الكردية في الجنوب، بإستعمال السلاح الكيماوي ضد المدنيين الكرد.
ليست للقضية الكردية بعد أقليمي ودولي على نفس مستوى القضيتين الفلسطينية والإسرائيلية، ولهذا تجد القضية الكردية نفسها في حالة لا بد من التعامل مع القضيتين بشكل من الأشكال، ولا تلام القيادات الكردية في ذلك، فليس هناك صديق دائم وعدو دائم. وهذه المقولة المعروفة في السياسات الخارجية تصبح أكثر واقعية بالنسبة للكرد في التعامل مع الأحداث. فالشعب الكردي يمد يد الصداقة مع كل الذين يؤمنون بالحرية لأنفسهم وللشعب الكردي على قدم المساواة. ولهذا فالكرد قوة مرشحة للقيام بدور توازن في المنطقة لصالح السلام والإستقرار.
أما القضية الفلسطينية فلها بعد أقليمي وبعد دولي. بعد عربي (22 دولة عربية تضم حوالي 300 مليون عربي) وبعد إسلامي (أكثر من مليار مسلم) وبعد دولي أيضا. لكن كل ذلك يعجز أن يمنع الإرهاب بكل أشكاله في المنطقة.
السؤال الذي يطرح نفسه، بل يلح أن يطرح نفسه، ويريد جوابا، هو ما العمل؟
الجواب سهل وبسيط لكن العمل به صعب وخطير، وهو قبول الأخر. الحل هو تهيأة النفس بتقبل الحرية لها ولغيرها. إنك لن تكون حرا إذا سلبتَ من الآخرين حريتهم، ولن يسمح لك أي إنسان أن تتمتع بإنسانيتك وأن تنعم بالإستقرار إذا سلبتَ حقوق الآخرين. لابد من مراجعة الذات الإنهزامية، وعقد صلح معها، للتهيأ بعقد صلح مع الآخر. فالجغرافيا هي العامل الثابت والحاسم في صنع التاريخ كما قال الجنرال ديغول أثناء حربه مع النازية، فلن يكون لك تاريخ بسلخ وطن الآخرين.
لنأخذ مثال القضية العراقية بإعتبارها أشد القضايا إلحاحا، وأكثرها دفعا للأقلام أن تكتب وللعقول أن تفكر وباعتبار أنها قد تغير خارطة المنطقة، وتبعا لذلك تتغير طرق التفكير والنفسيات. ونحن نعلم جيدا بأنه إذا أرادت الولايات المتحدة أن تضرب العراق من منطلق مصالحها فإنها ستفعل، وإذا لم تفعل فإن مصالحها تدعوها أن لا تفعل. أما العقل العربي الإنهزامي والسياسات العربية فلن تستطيع أن تغير من الواقع الحالي شيئا إلاّ بالصلح مع الذات ومع الآخر، وهذا يحتاج إلى فترة طويلة، بل طويلة جدا بعد معادلة القضية الأمريكية وحلها بالطريقة الأمريكية. وهكذا يجد المرء مدى تقبل العقلية العربية للإستعمار بتفاعل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية في بناء القواعد العسكرية الأمريكية في بلدانها.
بعد ضرب العراق تفتقد القضية الفلسطينية الأبعاد التي ذكرناها، وبذلك يتم إحتواء العقل العربي والإسلامي عن طريق إعتراف الأنظمة العربية والمسلمة بإسرائيل والوضع الناجم عن ضرب العراق، والتوقيع على إتفاقيات السلام، وبناء علاقات تجارية مع أمريكا وإسرائيل. في كل ذلك فإن العقل العربي هو المسؤول بعد هزيمته جزئيا بإستعمال النظام العراقي السلاح الكيماوي بحق شعبه عربا وكردا، وإعتبار تلك الجريمة زوبعة في فنجان على حد تعبير الضابط العسكري الإستخباراتي السوري منذر الموصلي، وفسح المجال لذلك بالهزيمة كليا بغزوالعراق للكويت وتأييد الفلسطينيين مع الأسف لذلك الغزو. فأصبح الطريق معبدا للقوات الأمريكية وبناء القواعد العسكرية، ودفع العرب مصروفات هزيمتهم لهذه القوات المتمركزة في المنطقة لإحتمال ضربها للعراق.
المعادلة تصبح أكثر وضوحا وبساطة بعد ضرب العراق، طبعا مع توافق العقل العربي للوضع، حيث يتم تحقيق ضمان النفط لأمريكا، إزالة أسلحة الدمار الشامل إن وجدت، الإعتراف بإسرائيل، الإنضمام إلى معسكر السلام بالشروط الأمريكية وتغيير القيادة في العراق بتعيين حاكم أمريكي أوحاكم عراقي يقبل بالشروط أعلاه. لكن الاهم من كل ذلك هو إعادة بناء العراق بأموال عراقية وعربية، والسماح للمهاجرين الفلسطينيين بالتمركز في العراق كعمال مقيمين ثم تثبيت تواجدهم، لإيجاد وضع متوتر في العراق بإضافة العامل الفلسطيني الذي يدخل صراع القوميات والأقليات في عراق لم يعرف الإستقرار قط منذ تشكيله في العشرينات. فلنقل سلام على قضية المهاجرين الفلسطينيين، ولنردد أيها العقل أين تسير؟
* باحث وكاتب صحفي عراقي مستقل مقيم في السويد