أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - لغة الثورة، ثورة اللغة














المزيد.....

لغة الثورة، ثورة اللغة


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6350 - 2019 / 9 / 13 - 15:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ضخت الثورة السورية في لغتنا معنى كان قد ضاع تحت وطأة الزمن البليد والتكرارات الفارغة والملل واليأس. فمن طبيعة الأشياء أن تموت اللغة وتُختزل تحت يد الاستبداد. يكرر التلاميذ في سورية كل صباح، وبتقليد بعثي مكرس، ثلاث كلمات أفقدها حزب البعث نفسه، بعد أن صاراً "قائداً" للدولة والمجتمع، أي ظل من المعنى، وحولها إلى هياكل طقوسية فارغة وثقيلة على النفس. كل صباح، عشرات آلاف الأفواه الضجرة تُردد كلمة "حرية" دون أن تعني لهم شيئاً سوى كونها أربعة أحرف يلفظها اللسان قبل الدخول إلى قاعات الدراسة. مثلها في ذلك مثل شقيقتيها "الوحدة" و"الاشتراكية". ليس أكثر سوريالية من أناس مستعبدين يرفعون أصواتهم بلفظ "الحرية" صباح مساء بتوجيه من مستعبديهم. أفواه يسمح لها، لا بل تؤمر، بلفظ كلمة "حرية" وتُكمُّ عن سوى ذلك من أقوال تعتمل في القلب والضمير. ليس أكثر "بعثية" من خانع ذليل مكبل يردد لفظ "الحرية" كل يوم ووفق تعاليم مُذلّيه ومُكبّليه. تكريس قاتل للفصل بين الكلمة والمعنى. تفريغ الرأس من أي صدى تولده لفظة الحرية في ثناياه. اعتداء يتجاوز الإنسان ليطال اللغة نفسها التي طُوِّعت لتكون لغة ملساء للمدائح والمراسم.
المنطق يقضي بأن يطابق النطق الحال، عندئذ كان يتعين على التلاميذ أن يرددوا كل صباح: تجزئة، قمع، استغلال. وليس من الطرافة في شيء أن أقول إن هذا المنطق كان سائداً فقط في سجن تدمر العسكري حيث يطلب الشرطي من السجناء أن يرفعوا أصواتهم بالقول "نحن أذلاء" بما يتفق مع الحال الذي يفرض على السجناء في ذلك الجحيم لغةً وفعلاً.
وفي لحظة سورية حقيقية، وكأن ناراً شبّت في عروق اللغة، أو كأن الكلمات أفاقت من سبات بعثي ثقيل، تحولت كلمة "حرية" إلى نافورة من المعاني الطازجة والحارقة. في لحظة واحدة اختزلت هذه الكلمة التي كانت ميتة بلا لون ولا نكهة بين شقيقتيها اللتان لا تقلان موتاً عنها، اختزلت معنى الثورة السورية. في لحظة تتحول هذه الكلمة الأليفة الوديعة المنزوعة السم إلى كلمة نارية تخيف وتلسع قاتليها وتلهب خيال مفتقديها وطلابها، وكأنه لا علاقة لها البتة بتلك الكلمة التي تطابقها حرفاً بحرف. وهل أدل على هذا من جنون القامعين وهم يشتمون ويقتلون وينكلون بالمتظاهرين قائلين "بدكن حرية!" وهم الذين يعاقبون التلميذ الذي يمتنع عن ترداد شعار البعث الذي تتوسطه هذه الكلمة عينها. في الشوارع والساحات السورية صار لكلمة "الحرية" معنى وصار لها روح وحياة.
وفي نفس اللحظة، اكتشف السوريون ما تختزنه عبارة "الله أكبر" من طاقة وعمق. هذه العبارة التي تكمن قوتها في نقصها، إذا صح القول. إنها صيغة مقارنة مقطوعة عن التتمة بما يعطيها المعنى الإطلاقي دون اللجوء إلى صيغة التفضيل. كان يمكن القول "الله الأكبر" فتكتمل الجملة ولا تُقطع عما يفترض أن يليها. ولكن وضعها في صيغة المقارنة وقطعها عما يليها يشحنها بطاقة لغوية ومعنوية فائقة. إنها صيغة مقارنة تتضمن صيغة التفضيل وتتفوق عليها، فالله أكبر من الطاغية، والله أكبر من الطغيان وأكبر من قدرة القاتل على القتل، وأكبر من كل ما يبدو كبيراً في أعين الناس فتخشاه وتستسلم له وترضخ. ولما كان الله يعني الحق فإن هذه العبارة تجمع الحق إلى القدرة، قدرة الله، وهي بالتالي عبارة ثورية تحض المظلوم على رفع الظلم عنه والتغلب على خوفه وخنوعه. وهذا ما جعل من هذه العبارة، إضافة إلى كونها عبارة ثابتة وراسخة وسائدة في تقاليد وطقوس الدين الإسلامي، وسيلة لغوية رمزية تفوق أي وسيلة أخرى. وما جعل لها حضوراً طاغياً في أرجاء الثورة السورية، وزاد في وهج حضورها حجم الخذلان "الدنيوي" الذي عاناه الشعب السوري ولم يبق له إلا "الله"، حائط الاستناد الأخير، يحمي به ظهره.
وتكتسب هذه العبارة "الله أكبر" قيمتها أيضاً من حقيقة أن النظام السوري استهلك اللغة على مدى عقود ولوّث مضامينها، وضيِّق بالتالي هامش اللغة المعافاة من الانتهاك والتي يمكن أن تشكل ملاذاً لغوياً للثائرين عليه. وقد ظلّت هذه العبارة بصلتها الصميمية بالدين وبحضورها التام في وعي الناس وارتفاعها عن الأحداث الزمنية، احتياطياً لغوياً استراتيجياً لا قدرة لأجهزة الاستبداد وثقافته على تلويث مضمونها أو تفريغه.
ليس في هذه العبارة بعداً دينياً بقدر ما فيها ثورة دنيوية ورابط مكين قادر على الجمع والتثوير في ظل استبداد دأب على قطع الروابط المدنية. وقد سجل علمانيون محدودية في أفقهم السياسي حين لم يروا في المساجد والعبارات الدينية الشعبية الثورية سوى ظلالاً دينية بحتة، معبرين بذلك عن فوبيا مرضية ضد الدين تعميهم عن رؤية الجانب الثوري الذي يمكن للمعتقدات الدينية أن تنطوي عليه.
تشرين أول 2012



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأسد ومخلوف، اهتراء النظام
- خراب الاجتماع الوطني في سورية ولبنان
- ما وراء الطعوم
- قصتنا العسيرة
- في قصة نزاهة الرئيس وفساد الحاشية
- علمانية على هدي الرسول محمد
- نافذة في النافذة
- جبهة النصرة في تحولها أخيرا
- مقطع من المعارضة في ظل حافظ الأسد
- ماتريوشكا الممانعة
- مأزق لحاق الأقليات بالثورة السورية
- معركة الساحل الثالثة، خيار خاطئ
- لون جديد
- عن الانتفاضات العربية ومآلاتها
- من الرئيس إلى البلد.. والمعنى واحد
- منطقان في الثورة السورية
- من التشبيح الاقتصادي إلى التشبيح السياسي
- نظام قتل عالمي
- رحلة شيوعي صغير
- منكوبون ولامبالون


المزيد.....




- بعد تصريحات متضاربة لمبعوث ترامب.. إيران: تخصيب اليورانيوم - ...
- بغداد تستدعي السفير اللبناني.. فماذا يجري بين البلدين وما عل ...
- الجيش الإسرائيلي يُباشر إجراءات تأديبية ضد أطباء احتياط دعوا ...
- قبيل وصوله طهران- غروسي: إيران ليست بعيدة عن القنبلة النووية ...
- حزب الله يحذر.. معادلة ردع إسرائيل قائمة
- الخارجية الأمريكية تغلق مركز مكافحة المعلومات ضد روسيا ودول ...
- رغم الضغوط الأوروبية… رئيس صربيا يؤكد عزمه على زيارة موسكو ل ...
- البرهان يتسلم رسالة من السيسي ودعوة لزيارة القاهرة
- كيف تنتهك الاقتحامات الاستيطانية للأقصى القانون الدولي؟
- حرائق غامضة في الأصابعة الليبية تثير حزن وهلع الليبيين


المزيد.....

- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - لغة الثورة، ثورة اللغة