قصة: كاملة سامي المصري
فجأة.. قفز خالد، الطفل الذي يبلغ أحد عشر عاما، من وراء مكتبه الذي كان يسترجع عليه دروسه، واندفع من باب الحجرة التي كان أبواه يشاهدان فيها التلفاز، وعلى وجهيهما علامات حزن عميق، وعيونهما مشدودتان لمتابعة صور لمشاهد دامية لأطفال وكبار غارقين في بركة من الدماء. صاح الطفل بانفعال: "هذا فظيع. في أي البلاد يحدث هذا القتل يا أبي؟".
كان خالد منهمكا في مراجعة درس في التاريخ تلقاه صباح اليوم في مدرسته. ترامى إلى سمعه أصوات قذائف وبكاء حاد وهتافات تطالب بالثأر وتكبيرات تنبعث من حجرة منزله التي تقضي فيها أسرته أوقات المساء في مشاهدة التلفاز. وعن عمد، ومنذ بدأت الانتفاضة التي تتابع الوسائل الإعلامية نقل أخبارها، خصصت أم خالد الوقت الذي تبث فيه محطة التلفاز نشرتها المسائية اليومية المفصلة، وقتا ينهمك فيه طفلها في مراجعة دروسه. وتحرص الأم على أن تغلق باب الغرفة التي يوجد فيها التلفاز عندما يحين موعد النشرة الإخبارية لكي لا يصل الصوت إلى غرفة خالد. لكنها نسيت أن تفعل ذلك في هذه الليلة التي جاءت بعد ارتكاب القوات الإسرائيلية لمجزرة بشعة في قطاع غزة استشهد فيها أطفال ونساء وشيوخ.
"لا أريده أن يراقب الصور المفجعة التي يبثها التلفاز عن الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني" قالت الأم لأبي خالد الذي لا يوافقها على هذا التصرف؛ قال: "يجب أن يعرف خالد ما يدور في وطنه، إنه لم يعد صغيرا، والأطفال الذين في مثل سنه يواجهون الاحتلال الإسرائيلي ويسقط منهم الشهداء".
ردت الأم: "ابني لم يزل طفلا، ومن الخطأ أن نشغل خياله بالجرائم الفظيعة التي يرتكبها الجنود الإسرائيليون. الاختصاصيون في علم النفس يحذرون من العواقب الوخيمة التي تترتب على مشاهدة الأطفال لمشاهد العنف. لا يزال الوقت مبكرا ليعرف خالد ما جرى لشعبنا، لا تستعجل عليه يا أبا خالد. ليس لدينا سواه".
لم يقتنع الأب بوجهة نظر زوجته، لكنه آثر عدم تعميق الخلاف بينهما، واحتفظ برأيه في صدره، وقال: "أقبل بقرارك الخاص بمنع خالد من مشاهدة نشرة الأخبار، لأن من المفيد له أن نتفق على أسلوب موحد للتعامل معه".
لكن دخول الطفل إلى الحجرة التي يجلس فيها والديه، وهما يتابعان نشرة الأخبار التي تتضمن مشاهد قتل لأطفال رضّع، وصيحات أمهات وآباء تبكي من الحزن الذي تنفطر له القلوب، لم يترك أمام الوالدين من سبيل غير أن يشرحا لطفلهما حقيقة ما تنقله شاشة التلفاز من المشاهد المفزعة. قالت الأم وهي تجفف دموعا بدأت تنساب على خديها: "هؤلاء الأطفال الغارقين في دمائهم هم أطفال قتلهم الجنود الإسرائيليون".
صاح الطفل: "في أي البلاد يجري ذلك يا أبي".
قال الأم والأب في وقت واحد، ودون تفكير: "في وطنك".
تساءل الطفل: "في وطني؟ ماذا تعنيان؟!".
قالت الأم وهي تشد طفلها من ذراعه ليجلس إلى جوارها على الأريكة الكبيرة التي تواجه شاشة التلفاز: "في وطنك ووطن آبائك وأجدادك يا حبيبي!". ثم حضنته بذراعيها وهي تذرف دموعا حارة.
قال الأب بعصبية: "في فلسطين يا خالد. فلسطين وطنك يا بني والذي نزح منها جدك وجدتك وأنا وأعمامك وعماتك معهما إلى هذا البلد الذي نقيم فيه".
انفلت الطفل بحركة سريعة من ذراعي والدته وانتقل إلى حافة الأريكة المجاورة لمجلس أبيه، وقال بنبرة متسائلة وفيها احتجاج طفولي وهو يركز نظراته في عيني أبيه: "وطني أنا؟! لماذا لم تخبرني من قبل بأنني من وطن غير هذا البلد الذي ولدت فيه؟".
قالت الأم بنبرة حزينة: "كنا نؤجل ذلك حتى تكبر! وأرجوك أن تعود الآن إلى حجرتك وتستكمل مراجعة دروسك".
قال الطفل بتصميم: "كلا؛ لن أفعل. يجب أن أعرف كل شيء عن وطني. كنت أذاكر درسا في تاريخ أسبانيا التي ظللت أعتقد أنها وطني. ولكن أخبرني يا أبي لماذا نقيم نحن هنا في أسبانيا ولا نقيم في فلسطين. أليس من الأفضل للإنسان أن يحيا في وطنه؟!".
تناول الأب كف خالد، وقال وهو يضغطها بين كفيه بحنان: "أعدك يا خالد أن أرد على سؤالك وأن أوضح لك لماذا نحن نقيم هنا وليس في وطننا. لكنني أرجوك أن تعود الآن إلى متابعة مذاكرتك، حتى تحصل على درجات عالية في امتحاناتك. يجب أن تنجح بتفوق يا حبيبي".
تلكأ الطفل قبل أن يستجيب لرغبة كل من أمه وأبيه. لكنه في النهاية عاد إلى حجرته، وحاول أن يستأنف مذاكرته. توقفت عيناه عند جملة تتحدث عن ماضي أسبانيا خلال خضوعها للحكم العربي، والتي جاء فيها أن العرب لم يضطهدوا سكانها من اليهود والذين تمتعوا خلال تلك الفترة بالحقوق الإنسانية الكاملة، وارتقوا فيها إلى مناصب عالية في الدولة. لم يكن خالد يعرف أن اليهود في فلسطين يضطهدون أبناء شعبه رغم أنهم هم أصحاب الحق الشرعي في فلسطين وأن اليهود ليسوا أكثر من غزاة ومغتصبين.
سرح خيال الطفل وهو يسترجع مشاهد قتل الأطفال والنساء والشيوخ وبكاء الأيتام والأمهات والثكالى والأرامل المفجوعين وصوت القذائف التي تطلقها دبابات وطائرات جيش الاحتلال الإسرائيلي. أغلق كتاب التاريخ وارتمى في سريره وحملق في السقف وتساءل بعذاب: "لماذا لا أعيش في وطني؟!".
في صباح اليوم التالي نهض خالد من فراشه مبكرا. كان مشوش التفكير، ولم ينل قسطا وافرا من النوم الهانئ الذي تعوده من قبل. وكانت أمه قد سبقته في النهوض، وجلست تقرأ سورة الإسراء من القرآن الكريم. اقترب منها خالد فتمتمت: "صدق الله العظيم". ألقى رأسه على حجرها وهو شارد العينين. سألته: "لماذا استيقظت مبكرا؟ هل كان نومك مريحا؟". نظر إليها بعينين فيهما سؤال لا يزال يقلقه، قال: "لماذا لا أعيش في وطني؟!". قالت الأم وهي تمسح رأسه بيدها: "سأشرح لك ذلك، ولكم ما رأيك أن أشرح لك أول سورة الإسراء يا خالد؟!".
لم يجب. فتابعت الحديث: "أسرى الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس والتي صعد منها إلى سدرة المنتهى..".
سألها الطفل بنزق: "أريد أن أعرف لماذا لا أعيش في وطني؟!".
طوت الأم المصحف وقبّلته ونهضت. لكن خالد أمسك بتلابيب ثياب الصلاة التي ترتديها أمه، وأعاد سؤاله بنبرة فيها غضب. تخلصت الأم من قبضة يده على ثوبها وقالت له بنبرة حازمة: "الوقت الآن لا يسمح، وأعدك أن أجيبك بعد عودتك من المدرسة هذا اليوم. أرجوك أن تستعد الآن لبدء يومك!".
قضى الطفل يومه الدراسي وهو يشعر بالغربة عن زملائه وأساتذته وعلى غير عادته. سأله المعلم خلال حصة التمارين الرياضية: "لما أنت منطو على نفسك اليوم يا خالد. هذا غريب، فنحن نعرف عنك أنك تشارك في الألعاب مشاركة إيجابية؛ هل حدث لك مكروه؟!".
قال برغبة في التهرب: "مسألة خاصة يا أستاذي".
انتحى جانبا فتبعه صديق له، وسأله: "ماذا دهاك؟". رد خالد: "أنا من فلسطين، هل تعرف فلسطين؟".
نظر الصديق لخالد بعينيين متسائلتين: "ماذا تعني. كنت أعتقد أنك من أسبانيا!".
صمت خالد بقية يومه الدراسي، وهو ينتظر بتلهف عودته إلى منزله ليعرف لماذا لا يعيش في وطنه مثل زملائه في المدرسة؟.
وفي حجرته، وقبيل الغروب، جلست أمه ووضعت أمامه كتابا يحمل عنوان: "القدس في البال"، وعلى غلافه صورة المسجد الأقصى. قالت وهي تنظر في عيني طفلها: "هاجر جداك من وطنهما فلسطين إلى هنا خلال حرب عام 1948 فرارا من جرائم عصابات الصهاينة الذين كانوا يذبحون المواطنين الآمنين كما فعلوا في قرية دير ياسين، لإرهاب بقية أفراد الشعب الفلسطيني وإرغامهم على الهجرة من وطنهم".
سألها: "أرجوك أن تشرحي لي ما هي علاقة هجرة جدي وجدتي من فلسطين بهذا الكتاب الذي وضعته أمامي؟".
قالت الأم: "جداك من إحدى عائلات مدينة القدس. والقدس هي عاصمة فلسطين. وفي القدس توجد قبة الصخرة التي أسرى إليها النبي محمد من مكة والتي صلى فيها إماما بالأنبياء ومنها صعد لملاقاة ربه فوق السماوات السبع. والقدس مدينة بناها العرب القدماء قبل خمسة آلاف عام". وأوضحت له أن هذا الكتاب الذي قام والده قبل سنوات بتأليفة يحتوى شرحا وافيا لتاريخ فلسطين الذي يؤكد على عروبتها وعلى أن مزاعم الصهاينة في أن لهم حقا في فلسطين هي مزاعم لا تستند إلى الحقائق ولكنها تستند إلى الكذب. وفي الكتاب أيضا تركيز على تاريخ مدينة القدس بما يؤكد عروبتها على طول الزمن. وبينت له أن الكتاب يحتوي أيضا على وثائق تثبت أن أسرته تمتلك عقارات عديدة وأرضا واسعة في مدينة القدس شأنها شأن العائلات الفلسطينية الأخرى التي تعود أصولها لهذه المدينة المقدسة.
سأل خالد: "لماذا لا نعود إلى مدينة أجدادي؟".
قالت الأم: "حاولنا أن نفعل ذلك أنا وأبوك، وكنت أنت لا تزال طفلا صغيرا. حدث هذا بعد أن احتلت القوات الإسرائيلية مدينة القدس بالكامل عام 1967. وصلنا إلى الجسر الواقع بين الحدود الأردنية والفلسطينية، واجتزنا الجسر، وكنا نحمل تصريح بزيارة الأراضي المحتلة عام 1967، ولكننا فوجئنا بأن سلطات الاحتلال على الجسر ترفض دخولنا ودوم إبداء أية أسباب، فاضطررنا للرجوع إلى هنا".
سأل خالد: ما تفسيرك يا أمي لرفض الاحتلال الإسرائيلي لدخولنا إلى الأراضي المحتلة؟".
قالت الأم: "تريد إسرائيل تهجير المواطنين العرب من القدس التي تعتبرها عاصمتها الأبدية. وأعتقد أن سلطات الاحتلال عندما اكتشفت أننا ننتمي إلى أسرة ذات تاريخ عريق في القدس، قررت منعنا من دخول الأراضي الفلسطينية لكي لا نعود للقدس ونستقر فيها".
سأل خالد: "وهل كنت أنت وأبي تنوون فعلا الاستقرار في القدس؟".
قالت الأم: "إنها مدينة أجدادنا، ومن حقنا أن نعيش فيها. وهي عاصمة وطننا والشرائع الدينية والعالمية تعطينا حق العودة إليها".
انتصب خالد واقفا وقال بنبرة رجولة مبكرة: "ستبقى القدس في البال، ويجب أن أعود إليها".
حضنته أمه، وهي تعده بأنها ستقضي منذ الآن معه ساعة كل يوم لتقرأ معه كتاب "القدس في البال" . وفي هذه اللحظة دخل أبيه عليهما بعد أن عاد من عمله فحضنهما معا وقال بنبرة فيها فخار: "ألم أقل لكِ أن خالد لم يعد طفلا؟!".
مدَ الأب يده لمصافحة ابنه وقال: "يجب أن تظل القدس في بالك.. وفي بال كل عربي ومسلم". وعندما غادر الأبوان غرفة طفلهما، تناول خالد الكتاب، فتح الرجل الصغير أولى صفحاته، قرأ: "إليك يا خالد.. وإلى كل أطفال فلسطين والعرب والمسلمين.. وإلى كل المدافعين عن حقوق الإنسان وكرامته.. لكي لا تنسوا أن القدس.. وإن فلسطين.. كل فلسطين.. لنا".
وقبل أن ينام، أرسل خالد إلى جميع أصدقائه ومعارفه رسالة بالبريد الإليكتروني يقول لهم فيها: "إسرائيل دولة مغتصبة.. وفلسطين وطني.. والقدس ستبقى في بالي.. وسأعود إليها عاجلا أم آجلا!!".
************************************************
فلسطين – غزة - دير البلح