|
العلمانية العراقية – دنيوية المستقبل
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1551 - 2006 / 5 / 15 - 12:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن التجارب الناجحة للدنيوية (العلمانية) في كل مكان تبرهن على أن إمكانية تحقيق نموذجها الوطني أو القومي لا يمكن أن يكون نتاجا لإغراءات إيديولوجية أو عقائدية أيا كان نوعها. وذلك لان الدنيوية منظومة. ومن ثم فإنها وحدة متراكمة ومتكاملة في بناء الدولة والأمة والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والثقافة والقيم. وبالتالي فان تحويل شعار العلمانية (الدنيوية) إلى جزء من مؤامرات السياسة الحزبية ومغامراتها، لن يؤدي إلى إلا نتائج معاكسة. وفي التجربة الصدامية خير مثال. فقد تحولت العلمانية المتطرفة إلى أصولية متطرفة. وذلك لأنها لم تكن علمانية! والشيء نفسه يمكن قوله عن شعار الحركات والأحزاب التي تحاول توظيف هذه الفكرة المتسامية إلى جزء من مغامرات الحياة السياسية المتخلفة. وقد كشفت بضعة أشهر عن خواء هذا الإعلان الذي ارتفع عاليا في سماء الصخب الإيديولوجي الذي رافق صراع "القوى العلمانية" (من شيوعيين وديمقراطيين وبعثيين منشقين ووطنيين عراقيين وقوميين أكراد) ضد "التيار الديني" (الائتلاف الشيعي)، أي حلفاء الأمس "الاستراتيجيين" في "النضال" ضد الدكتاتورية الصدامية، والشركاء في "مجلس الحكم الانتقالي" و"الحكومات المؤقتة"!! وهو تحول يكشف عن أن الفكرة الدنيوية بين هذه الاتجاهات هي مجرد غطاء إيديولوجي أو شعار سياسي مزيف، أي انه لم يكن أكثر من طعم الاصطياد في الماء العكر. من هنا انفراط عقد الاتفاق بين هذه "القوى العلمانية" في مواجهة "التيار غير العلماني" (الائتلاف الشيعي). والسبب بسيط للغاية، وهو أن "العلمانية" كانت شعارا محكوما بنفسية الغنيمة. وقد كشف الصراع الخفي والعلني للحصول على مكاسب في وزارة ما يعد الجعفري مضمونه الفعلي! إن هذه النتيجة ليست "خاتمة" التعرية الفعلية للادعاءات الإيديولوجية والمغامرة السياسية، وذلك بسبب كمية ونوعية الخراب الهائل في بنية الدولة والمجتمع والثقافة والعلاقات الاقتصادية والقيم، وانعكاس كل ذلك في بنية الأحزاب وطبيعة العلاقة بين قيمها الخاصة (الحزبية) والعامة (الوطنية). إذ لا توجد في ظروف العراق الحالية أحزابا وطنية عامة بالمعنى الدقيق للكلمة. فهي مازالت جميعها مؤدلجة بمعاييرها الحزبية الخاصة أو العرقية أو القومية الضيقة أو الطائفية أو الجهوية. وهي صفات لا يمكنها أن ترتقي بالحزب والحركة السياسية إلى مصاف العلمانية (الدنيوية) الفعلية. وذلك لان حقيقة الدنيوية هي منظومة متكاملة للحرية والعقلانية في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. طبعا أن لهذه الظاهرة تعقيداتها الكثيرة والكبيرة في تاريخ العراق الحديث. لكن اتجاهها العام يسير صوب الإقرار بضحالة القيمة الإيديولوجية للشعار السياسي ما لم يختمر في مجرى المعاناة التاريخية، وما لم تسنده الأغلبية الاجتماعية. إن العراق بحاجة جوهرية للفكرة الدنيوية! غير أن المهمة النظرية (والإستراتيجية) الكبرى تقوم في رؤية آفاقها وكيفية تأسيسها والقوى القادرة على تحقيقها الفعلي في ظروف الانتقال إلى الديمقراطية. وهي آفاق يمكن رؤية مكوناتها واتجاهها المجرد في التجارب الناجحة للأمم الراقية بهذا الصدد. والقضية هنا ليست في رقي الأمم أو نجاحها، بقدر ما أنها جزء من تطور المجتمع والقومية وتكامل الأمم في العالم المعاصر ومستقبله. ومع أن التجارب التاريخية الكبرى للأمم هي تجارب خاصة، أي ذاتية، إلا أنها تتمتع بقدر ضروري من القيمة المعنوية والمجردة بالنسبة لتأمل المستقبل. وضمن هذا السياق يمكن فهم أهمية وقيمة التجارب الأوربية بالنسبة للعالم العربي والعراق في الحالة المعنية. وهي تجارب تشير إلى أن تحقيق الدنيوية هي عملية شاقة ونتاج صراع اجتماعي وسياسي وفكري تحققه الأغلبية الاجتماعية من خلال فرض شروط تصوراتها وأحكامها. بمعنى "إجبار" الجميع على العمل والتفكير بقواعد الأغلبية. وهي العملية الوحيدة القادرة على تحويل مختلف بواعث الصراع وقواه السياسية إلى مكونات فاعلة في تعميق وتوسيع الرؤية الاجتماعية. بعبارة أخرى، إن تحقيق العلمانية يقترض، كما هو الحال بالنسبة للديمقراطية والعقلانية وغيرها، تذليل نفسية وذهنية الأقلية المغلقة. وهي عملية يمكن ملاحظة براعمها الأولية في مجرى الصراع العنيف في السنوات الثلاث ما بعد سقوط الصدامية. فقد كانت بدايتها زوبعة من هجوم الأقليات القومية والدينية والسياسية المتشكلة حديثا على السلطة و"مركز القرار". لكنه هجوم كان يحدده في الواقع، وبصورة غير مرئية، ثقل الأغلبية العراقية المغيبة لعقود طويلة. وهي عملية أفرزت في بدايتها صعود التكتل الشيعي والكردي. ولاحقا جرى "استدراج" "السنة" إلى "العملية السياسية". وهي عملية أرجعت القوة الكردية خطوة إلى الوراء، تماما بالقدر الذي استثارت الطائفية السياسية السنية وفعّلت قوتها. كما أنها أهلكت القوى الصغيرة المتشكلة في عالم "الانتعاش الديمقراطي". وهو تفعيل ظهر بقوة وحماس عنيف في مجرى الصراع من اجل "إسقاط الجعفري" وتشكيل الوزارة الجديدة. حيث نرى طبيعة ونوعية الاستقطاب الجديد، الذي رمي بركلة قاسية "الاستحقاق الانتخابي" ليستعيض عنه "بالاستحقاق الوطني". وهو شعار إيديولوجي لا يمكنه الفعل بصورة واقعية وعقلانية، لأنه لا يمكنه الامتلاء بالواقعية والعقلانية ما لم يختمر في نفسية وذهنية التجارب المتراكمة للأغلبية. فقد كان شعار "الاستحقاق الوطني" الصيغة الموازية لشعار "العلمانية"، لأنه حاول أن يجعل منه شعارا في الصراع من اجل "المحاصصة". وهنا تكون القوى قد قطعت الشوط الضروري الأول للإقرار بواقع الأغلبية والأقلية، رغم بعض مظاهرها المشوهة. من هنا انفراط "الوحدة المبدئية الصلبة" بين القوى العرقية الكردية و"القومية العربية" والشيوعيين! لقد اجتمعوا بمعايير نفسية وذهنية الأقلية وافترقوا بها أيضا. وبها أيضا يحاولون الدخول من جديد إلى الوزارة! وهي التجربة التاريخية الأولى والكبرى لتذليل نفسية الاستعمال الإيديولوجي للأفكار الكبرى. وفيها يمكن رؤية آفاق العملية الفعلية للاستقطاب الاجتماعي اللاحق وتحقيق الأفكار الكبرى بما في ذلك فكرة العلمانية (الدنيوية). فاتجاهها العام سوف يسير عبر إرجاع الأقليات القومية والطائفية والجهوية ومختلف نماذجها التقليدية إلى حدودها الطبيعية باعتبارها أقليات قومية أو طائفية أو جهوية. من خلال ذلك سوف تدرك هذه القوى حدود إمكاناتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وهي عملية سوف تكشف عن قوة الأغلبية باعتبارها قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وليست شيئا آخرا. فالصفات الأخرى العالقة بالأغلبية هي صفات عارضة في مجرى بناء الدولة الشرعية. وهو الطريق الوحيد الذي يكفل للجميع إمكانية تذليل فكرة الأقلية الضيقة والأغلبية المستبدة. بمعنى الطريق الواقعي والعقلاني لبناء الواقعية والعقلانية، ومن ثم الطريق الوحيد لتأسيس الدنيوية الثقافية والشرعية وليس الإيديولوجية المزيفة. من هنا فإن مفارقة العلمانية (الدنيوية) في ظروف العراق المعاصر تقوم في أن حملتها الفعليين من وجهة نظر التاريخ والمستقبل ليست "القوى العلمانية" المدعية، بل "القوى الإسلامية" (الشيعية). إذ لا عِلم حقيقي ولا عَلم عراقي عند أدعياء "العلمانية"، بسبب طبيعة الخراب الشامل للدولة والمجتمع والثقافة، وطبيعة الأزمة المرّكبة في الفكرة الوطنية (العراقية) والقومية (الجزئية). وفي ظل ظروف من هذا القبيل لا يمكن لأية قوة سياسية ادعاء تمثيل الفكرة الدنيوية أو غيرها من الأفكار الكبرى. وذلك لان جميع الأفكار الكبرى في ظروف العراق الحالية هي في صيرورة جديدة. لهذا لا يمكنها أن تكون حكرا لأحد، كما انه لا معنى للادعاء بتمثيلها التام والشامل. أما تمّثلها الحقيقي فهو تجسيدها في منظومة متكاملة للدولة والمجتمع والثقافة والعلم. وهي عملية ترتبط من الناحية التاريخية بانجاز مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية والنظام الشرعي، ومن الناحية الاجتماعية بصيرورة الأغلبية القادرة على الاندماج الطبيعي بالعملية التاريخية الآنفة الذكر. فهي العملية الوحيدة القادرة على تذليل الأبعاد الجزئية (العرقية والطائفية والجهوية) في الصراع من خلال رفعها إلى مصاف العام (الوطني العراقي). إن الارتقاء إلى مصاف الوطنية العراقية الحقيقية هي إحدى المقدمات الضرورية والأولية في ظروف العراق الحالية لتأسيس العلمانية (الدنيوية). وفي مجراها فقط يمكن إيجاد النسبة المعقولة والمقبولة بين الدين والدنيا. وهي عملية يمكنها أن تتكون عند القوى الاجتماعية الناشئة في ظل النظام الديمقراطي ومؤسسات الدولة الشرعية، أي القوى المتكونة في مجرى الاستقطاب التدريجي للقوى العقلانية عند الجميع من اجل صنع أغلبية تعي قيمة العلمانية (الدنيوية) بوصفها الصيغة التي تحفظ تكامل الجميع بمعايير المستقبل. أما الطرق الأخرى فان مصيرها التقهقر والفشل. وذلك لأنها ليست فقط ضد واقع وديناميكية التحول التاريخي المعاصر في العراق وعلى الصعيد العالمي، بل ولأنها ضد منطق العقلانية والحرية بوصفه أسلوب الاستقرار والتقدم الاجتماعي الشامل.
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلمانية العراقية – أوهام الأقلية وأحلام الأغلبية
-
الشيطان - الملاك الضائع ودراما الوجود الإنساني
-
كتاب جديد للبروفيسور ميثم الجنابي - الحضارة الإسلامية - روح
...
-
تأملات مستقبلية حول العملية السياسية في العراق 2
-
تأملات مستقبلية حول العملية السياسية في العراق 1
-
(2) التشيع العراقي والفكرة العربية
-
التشيع العراقي والفكرة الوطنية والقومية-1
-
العراق - السقوط والبدائل -2
-
لولا سيف الحجاج ولسان الحسن-1
-
العراق - السقوط والبدائل وأزمة المرجعيات الكبرى
-
حزب إسلامي أم حزب شيطاني
-
النخبة السياسية ومهمة البديل الوطني في العراق
-
النخبة السياسية في العراق المعاصر – أحزاب الطريق المسدود
-
النخبة السياسية في العراق - أزلام وأقزام
-
النخبة السياسية العراقية - زيف وتزييف
-
فلسفة البديل العراقي
-
أزلام السلطة ورجال الدولة 2-2
-
أزلام السلطة ورجال الدولة -1-2
-
كتاب جديد لميثم الجنابي - العراق ورهان المستقبل
-
النخبة السياسية والمأساة العراقية! 2 - 2
المزيد.....
-
إليسا تشيد بحملة هيفاء وهبي ونور عريضة في مواجهة التحرش الإل
...
-
ماذا قال أحمد الشرع في أول خطاب له كرئيس لسوريا؟
-
حماس تؤكد مقتل القائد العسكري محمد الضيف، فماذا نعرف عنه؟
-
عاصفة قوية تضرب البرتغال وسيول من رغوة بيضاء حملتها الفيضانا
...
-
ما دور الهلال الأحمر المصري في دعم غزة؟
-
أمير دولة قطر في دمشق للقاء الشرع وبحث التعاون بين البلدين
-
تدريبات قوات الحرس الوطني الخاصة
-
مصر.. وزارة الطيران المدني توضح سبب تصاعد الدخان في صالة الس
...
-
العراق يؤكد دعم مصر ويرفض مخطط تهجير الفلسطينيين
-
ترمب: نتواصل مع موسكو حول كارثة الطائرة
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|