صالح أبو طويلة
الحوار المتمدن-العدد: 6296 - 2019 / 7 / 20 - 12:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
4. الوظائف الدعائية والإيديولوجية
تعد الأناشيد إحدى أدوات الترويج الهامة لدى التنظيمات الجهادية، تحاول التنظيمات الجهادية وعلى رأسها "داعش" الوصول إلى المستهدفين في شتى أنحاء العالم واستقطابهم بمختلف الوسائل، وقد حققت أساليب الاستقطاب والتجنيد من خلال الفضاء الرقمي والميديا الجديدة نتائج متقدمة، وعملت التنظيمات على استخدام وترويج الأناشيد الجهادية وتطويرها بما يحقق انتشارها بسرعة وكثافة عبر مواقع الشبكات الاجتماعية وبلغات متعددة. يدرك "داعش" وجود ميل فطري لدى البشر كافة نحو الموسيقى، سواء كانت موسيقى شرقية أو غربية، كما ارتبطت الأديان المختلفة بالعديد من الطقوس الدينية التي تعتمد على الموسيقى بالأساس، مما يدل على الدور الهام الذي تلعبه الموسيقى في حياة البشر، هذا الميل الفطري تجاه الموسيقى يُساعد من يستخدمه على نشر فكرته، فعندما تستخدم هذه الاناشيد فبذلك تحقق انتشارًا قويًا بين قطاع مختلف من البشر، الي جانب المؤيدين، وما يؤكد هذه الفكرة هو وجود اناشيد بلغات مُختلفة منها العربية والإنجليزية والصينية؛ وذلك لاستقطاب وجذب اعضاء جُدد للتنظيم [49].
يشير العولقي في كتابة "44 طريقة لدعم الجهاد" إلى أنه يمكن للنشيد الناجح أن ينتشر على نطاق واسع بحيث يمكنه الوصول إلى جمهور لا يمكنك الوصول إليه من خلال محاضرة أو كتاب، الأناشيد ملهمة بشكل خاص للشباب [50].
إن التلقين العقائدي والإعداد الروحي يجب أن يكون لهما الأسبقية على التدريب العسكري. بالنسبة للجهاديين المتشددين، الشعر هو المفتاح لتحقيق ذلك، من خلال الوظائف العملية والإيديولوجية والعاطفية، بالنظر إلى أن المجندين على مستوى القواعد الشعبية يميلون إلى أن يتشكلوا بقدر من العاطفة كما في الإيديولوجية، و يمكن للشعر أن يحقن الأفكار بعمق من خلال مجموعة من التقنيات: الصور القوية، التلميحات التاريخية والمتوازيات، الجمال اللغوي، القافية أو الإيقاع، و يتم تأطيرها في إطار الصراع المروع الأوسع بين الخير والشر ومشبعين بإحساس طويل من التقاليد الدينية والأدبية (الشفوية) [51].
إنّ استقطاب التنظيمات الإرهابية للعناصر وتأطيرهم من خلال الخطاب الصوتي، يتم من خلال ثلاثة مستويات: العاطفي والمعرفي والسلوكي، وفي هذا السياق تحاول هذه التنظيمات ملامسة وجدان المتعاطفين و"الزبائن" المحتملين، من خلال الأناشيد، والأغاني الحماسية، التي ثبت أنّها تنقل الشخص من المستوى العاطفي إلى السلوكي، وفقاً لمتغيرات المحيط السياسي الذي يمرّ به[52] .
إضفاء الشرعية السياسية
يحتل سؤال الشرعية مساحة هامة في الأناشيد الجهادية، تسعى التنظيمات الجهادية إلى تعزيز شرعيتها الدينية والسياسية في خضم صراعها الإيديولوجي والسياسي؛ سواء مع العدو القريب أو البعيد، فهي خير من يمثل المسلمين (السنة) في رد العدوان والدفاع عن الحرمات والتخلص من الظلم، وحتى على مستوى الصراعات البينية بين التنظيمات الجهادية (داعش والقاعدة)، تمرر داعش رسائل عديدة تتضمن أحقيتها في القيادة والبيعة، وترى أنها الوريث الشرعي لتنظيم القاعدة، وقد دأبت التنظيمات الجهادية المختلفة في سوريا إلى طرح مسألة الشرعية السياسية، لقد دارت سجالات كثيرة حول هذا الأمر، وكانت الأناشيد والشعر من الأدوات التي تعزز وتناقش سؤال الشرعية لتلك التنظيمات.
بناء شرعية ثقافية أمر أساسي لأي مشروع دعاية جهادي، سواء كان ذلك لحشد الدعم لحركة المقاومة، أو ممارسة بناء الدولة الشاملة. في المعركة من أجل الهوية الثقافية، فإن استعادة التراث الشعري أمر أساسي لأن جذوره ورنينه يمتدان بعمق في الثقافة العربية [53].
تنظيم داعش قدم تبريراته لإقامة دولته في العراق وسوريا، كما برر توسعه الجغرافي، وإلغائه للحدود المرسومة، فهو بحسب خطابه دولة ذات شرعية، فيما تنظيم القاعدة عبارة عن منظمة سرية، جميع المحاور التي اشتغل عليها تنظيم داعش تحتاج إلى تبريرات ووحجج وشرعية، وقد ساهم الإعلام الداعشي في تقديم صياغات مختلفة لتبرير الممارسات الوحشية، وتعزيز الشرعية السياسية، كانت الأناشيد إلى جانب أدوات أخرى هي الحامل لمضامين هذا الخطاب.
المحاولة الرئيسة لنصوص الشعر هي تصوير معركة الجهاديين على أنها كفاح شرعي ضد الظالمين الطغاة، وككفاح وفقًا لإرادة الله، هذا يسمح بالتحدث عن نوع من "أدب المقاومة" كما وصفته باربرا هارلو ( Barbara Harlow) لحركات التحرر في البلدان النامية. الشعراء الإسلاميون يعدون بإقامة نظام عادل للمجتمع وفقًا لأحكام الله بدلا من الظلم الملحد الحاكم، بموجب هذا؛ يعكس النشيد كمنتج ثقافي، الأيديولوجية الإسلامية المتشددة كما طورها قطب وآخرون[54] .
يقدم الشعر الجهادي استراتيجية يتم من خلالها تبرير السلوك غير المنطقي وغير الشرعي للمجموعة (هنا، يمكن جعل مجموعة الجهاديين المنخرطين في تدمير الذات لقتل الآخرين) تبدو منطقية وشرعية [55].
الأناشيد كأداة لإنتاج متخيل ديني
يرسم الجهاديون اليوتوبيا الحالمة من خلال الأناشيد الجهادية، الفكرة تكمن في تعزيز الحلم الجهادي المتمثل بتأسيس دولة مثالية فاضلة ستتحقق على أرض الواقع، وبخلاص أخروي يبشر بالسعادة الأبدية، إن الخطاب الجهادي المحمول عبر الأناشيد والشعر والميديا البصرية يسهم في إنتاج متخيل ديني لدى المستهدفين يبشر بالخلاص من الواقع المأزوم، ويرسم مشهدا مثاليا لدولة متخيلة تعيد ألق العصر الذهبي الإسلامي القديم، ويسعى هذا المتخيل إلى جذب المستهدفين وتعزيز الشرعية الدينية والسياسية للتنظيمات الجهادية؛ من خلال خلق نماذج متخيلة للدولة المثالية.
يمكن اعتبار الدولة الإسلامية (داعش)، بمعناها التجريدي، مجتمعًا متخيلًا كما افترضه (بنديكت أندرسون). وهذا يعني أنه مفهوم مجرد للمجتمع الموجود في أذهان أعضائها والذي يمتد على مساحة جغرافية كبيرة [56].
يقترح التطرف الإسلامي يوتوبيا سياسية: خيال سياسي حول مجتمع آخر، يتم فيه تطبيق الشريعة وتحقيق العدالة، ينقل هذا الخيال أيضًا الفكرة الملحة المتمثلة بقيام ثورة سياسية واجتماعية مفاجئة، بحيث يصبح مستضعفو اليوم هم حكام الغد المطلقون، كما يقترح شكلاً من أشكال التمكين، حيث يمكن استبدال العجز الاجتماعي والسياسي بموقف العمل والسلطة، في هذا المنظور يمكن اعتبار الأوساط الإسلامية المتطرفة ثقافات فرعية سياسية[57].
تشير آمال قرامي إلى تشكيل المتخيّل عبر انتقال الدين من الفعل العقدي إلى الممارسة التوظيفية؛ منطلقة من سيولة انتشار الأناشيد الدينية في الفضاء العمومي، فهي تميز بين النمط الصوفي المنمّي للجوانب الروحية؛ والأناشيد الجهادية الحماسية التي تستخدمها "القاعدة وداعش" بإشراف هيئات تعتمد مضامين وأشكالا مدروسة، قادرة على ترويض المتلقي واختراق بنيتيه النفسية والذهنية، في مستوى الشكل تقوم تلك الأناشيد على سردية تحسن اختيار القصة، تجيد كتابة السيناريو وصناعة الصوّر المصاحبة كي يكتمل الإخراج، تلك هي طبيعة الأناشيد الحماسية المتسلّلة للعقول عبر جسور المشاعر، فهي ذات نفوذ سحري قادر على خلق حالة وجدانية منتجة للهوس الجهادي، لأنها تجمع بين الانفعال والحزن والشوق إلى ممارسة الجهاد[58].
قام تنظيم داعش بإنتاج ميديا جهادية ذات جماليات كأحد جوانب الاستراتيجية السياسية، وصولا نحو صياغة دولة إسلامية مثالية على الفضاء الافتراضي، الدولة الإسلامية المثالية الموجودة بالتوازي مع التواجد المادي على الأرض؛ هي نتاج إعلامي مبهر لداعش. تستخدم أناشيد داعش لإنشاء الدولة الإسلامية من خلال الكلمات، وعلى شبكة الإنترنت وفي مخيلة أتباعهم [59].
يكمن الدور الإعلامي المؤثر لداعش في خلق فضاء حاسم يمكن أن توجد فيه الدولة الإسلامية المتخيلة باعتبارها يوتوبيا بلا حدود وذات إمكانات لا حدود لها، تسمح الطبيعة المتقلبة للدولة الإسلامية بحدوث تحولات خطية في الهياكل الاجتماعية والسياسية وهياكل السلطة التي لا يمكن أن تحدث بطريقة أخرى، إن الارتباط الدائري بين الحقيقي والمتخيل يعني أن هذه الجوانب المتحولة يمكن أن تتحرك بين المنطقة المادية والدولة المجردة[60] .
يسعى تنظيم داعش إلى ربط المتخيل بالواقع، والإيحاء بتحققه سريعا من خلال الربط المكثف بين الصورة المتخيلة للدولة على الفضاء الافتراضي، والصورة الواقعية المحسوسة للدولة في سوريا والعراق، ويتم هذا الربط من خلال الأدوات الإعلامية والأناشيد الجهادية المشحونة بالصور والرموز المكثفة.
أناشيد داعش تتميز عن الشعر الجهادي للجماعات الجهادية بكونها قادرة وبنجاح على خلق حالة من التجريد الذهني لدى اتباعها لمنطقة متخيلة على الفضاء الافتراضي موازية للدولة على أرض الواقع، و يمكن الوصول إليها من خلال استخدام الشعر بالإضافة إلى كونها أداة دعاية كبرى لداعش في صراعاتها [61].
يعمل المتخيل الديني ومن خلال بناء النماذج المثالية وشحنها بالرموز والقيم والتصورات، على ترسيخ القناعات والشحن الإيديولوجي اللازم لتثبيت الأعضاء وتعزيز صمودهم، واستقطاب مجندين جدد، وتحقيق التوازن لأعضاء الجماعة، كما يقود المتخيل في نواح أخرى إلى تعزيز الشرعية السياسية للتنظيمات الجهادية، وهذا يبرز بشكل واضح لدى تنظيم داعش.
خاتمة
تؤدي الأناشيد الجهادية وظائف عديدة وهامة للتنظيمات الجهادية وللفئات التي تستهدفها أثناء عملية الاستقطاب والتجنيد وفي مراحل عدة، فهي إلى جانب كونها أداة تأثير نفسي وعاطفي تسهم في جذب الزبائن المحتملين؛ إلا أنها تؤثر في جوانب أخرى عديدة؛ إيديولوجية وثقافية ودعائية وسياسية وتنظيمية، والأناشيد كأحد أبرز السمات الثقافية لتلك التنظيمات؛ تعمل على رسم ملامح الثقافة الجهادية، وتعزيز بناء الهوية وتمايزها، وهي تلبي حاجات الأفراد في جوانب عديدة، كما أنها تشكل وعاء ثقافيا يحوي تاريخ وتطور التنظيمات الجهادية وسجلات انتصاراتها وهزائمها، كما تحمل رؤيتها ومضامين خطابها السياسي والإيديولوجي، كما أنها تحقق أهدافا تنظيمية وتمتن بناء الجماعات الجهادية، وتسهم في بناء متخيل ديني لدولة دينية متخيلة على الفضاء الافتراضي مشحونة بصور ورموز ذات كثافة وجمالية عالية.
الهوامش:-
49. نادر، روبير.(2016). الأدب الداعشي: كيف يوظفه التنظيم، موقع إضاءات الالكتروني، مقالة نشرت بتاريخ 6 تموز 2016، استرجعت بتاريخ 19 أيار 2019 من الرابط:https://www.ida2at.com/aldaashi-literature-how-organizational-needs/
50. Jonathan J. Lee.(2015), page 63 -مرجع سابق
51. Kandell.(2015). Page 262
52. فرغلي، ماهر.(2017). أناشيد الجهاديين.. أصوات تتغزل بالموت. مقالة نشرت في مجلة حفريات بتاريخ 17 كانون الأول 2017، استرجعت بتاريخ 1 أيار 2019 من الرابط: https://www.hafryat.com/ar/blog/%D8%A3%D9%86%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A3%D8%B5%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%AA%D8%BA%D8%B2%D9%84-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA
53. Kandell.(2015). Page 240
54. Benham.(2012). Page 13
55. Kandell.(2015). Page 240
56. Jonathan J. Lee.(2015), page 58 -مرجع سابق
57. Crone, Manni ,(2016). Radicalization revisited: violence, politics and the skills of the body. International Affairs, Volume 92, Issue 3, May 2016, Pages 587–604, https://doi.org/10.1111/1468. See link: https://academic.oup.com/ia/article/92/3/587/2326978
58. قرامي،آمال.(2017). كيف أسهمت «الميديا الاجتماعية» في صناعة «الإرهاب الرقمي»؟ ندوة ببيت الحكمة حول «الشأن الديني في شبكات التواصل الاجتماعي». المغرب الثقافي.
59. Jonathan J. Lee.(2015), page 1-6 -مرجع سابق
60. المرجع السابق ص 63
61. المرجع السابق ص 7
#صالح_أبو_طويلة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟