|
بالفلسفة نغيّر العالم: ما هو العقل، وهل ممكن نقده؟
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 6292 - 2019 / 7 / 16 - 15:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ظل العقل لحدود الفين سنة أو تزيد قليلا، هو الذي نزن به الاشياء، ونحدد مدى صحتها وواقعها، وبالعقل ننقد النظريات (العلمية والفلسفية)، ولم يجرؤ أحد من العلماء ولا الفلاسفة أن ينقد العقل نفسه، حتى جاء الفيلسوف الالماني ايمانويل كانت بكتاب هو الاول من نوعه في طرح جديد للفلسفة الحديثة، الا وهو كتاب (نقد العقل المحض) والذي صدر عام 1781، ويُعتبر واحدًا من أهمِّ أعمالِ الفلسفةِ حتى الآن، ممّا يقارب الـ 800 صفحةٍ ومكتوبًا بلغةٍ صعبةٍ مستعملاً مصطلحاتٍ فلسفيةٍ معقّدة، حتى أن احد اصدقائه المعروفين بنهمهم للقراءة، فبعث به ايمانويل كانت الى هذه الصديق كي يقرأه وينتقده، وبعد فترة اعاد له الكتاب، وهو لم يقرأ منه الا اقل من النصف، قائلا لمؤلفه خشيت على عقلي من الجنون. وكان ايمانويل كانت قد مضى احد عشرة عاما يفكر في تأليفه لهذا الكتاب، ثم الفه في ستة اشهر. وفي هذا الكتاب يوضح كانت إن عقولَنا هي المكوّنُ لكلّ خِبراتِنا الحسّيةِ والمعرفيّة في هذا العالَم. يقول كانت:" إنّ المدخلاتِ الحسيةِ بدون المبادئِ العقليةِ هي شيءٌ خارجُ الوصفِ والتحديد، والمبادئُ العقليةُ بدون المدخلاتِ الحسيةِ ليس لها معنى". كانتْ يعتقد أنْ لا سبيل للعقل لإثبات الحقائق الغيبية (الله، العالم)، وإنما يمكن للعقل فحسب أن يتفهم ما يدعو إليه الدين، لكنه ليس "الدين المزيف" القائم على عبادة الله عبادة منفعة وإنما "الدين الأخلاقي" القائم على عبادة الله عبادة محبة خالصة. مع العلم بأن كانتْ هو أول فيلسوف غربي يجعل الأخلاق أساس الدين وليس الدين أساس الأخلاق، كما كان يعتقد بعض الفلاسفة الذين سبقوه في هذا الاطار. فهو يقول: "كل المعارف تبدأ بالحواس ثم يتم فهمها قبل أن يتم استيعابها بالعقل، والأخيرة هي المرحلة الأهم وليس هناك أعلى منها" ويقول ايضاً "الحدس والمفاهيم التي تشكل... عناصر من جميع معارفنا، ولذا فليس المفاهيم دون الحدس في بعض الطريق المقابلة لها، ولا الحدس دون المفاهيم، يمكن أن تسفر عن المعرفة. واشهر عبارة دائما ما كان يرددها " شيآن ما انفكا يثيران في نفسي الاعجاب والاحترام: السماء ذات النجوم من فوقي، و سمو الأخلاق في نفسي". وكان يؤكد على أن التجربة يجب أن تسبقها نظرية، حتى تحقق احقيتها، "التجربة من دون نظرية عمياء، ولكن النظرية من دون تجربة مجرد مسرحية فكرية. وقد طرحت فلسفة كانتْ أسئلة أربعة أساسية وحاولت الإجابة عنها، وأول هذه الأسئلة هو: ما الذي أستطيع أن أعرفه؟ وهو سؤال المعرفة الذي لا ينفصل عند كانتْ عن بيان شروط إمكان المعرفة وبيان حدودها. ويعتقد كانتْ أنه إذا كان العقل النظري الخالص لا يسعف الإنسان في درك مبادئ الحياة العملية الأخلاقية، فإن له عقلا عمليا خاصا بذلك، ومن شأنه أن يكتشف في أعماق ذاته. وهو يُعد آخر أولئك العباقرة من أفذاذ الإنسانية المفكرة الذين استطاعوا، بحياتهم ومؤلفاتهم، أن يخلفوا في الحياة العقلية في بدلاهم وخارج بلادهم أثرا باقيا عند أهل عصرهم وعند الخلف من بعدهم. لقد وصفه أحد الكتاب بانه" مفكر هز العالم بفكره أشد مما هزه معاصره فردريك الأكبر على الرغم من جيوشه ومدافعه". وما من أحد ممن يأخذون أمور الفكر والحياة مأخذ الجد يستطيع اليوم أن يفكر أو أن يعمل من دون أن يضع موضع الاعتبار نظريات كانت وآراءه. ولاتزال فلسفته حتى يومنا هذا قاعدة لكل فلسفة أخرى، يقول شوبنهور أن الإنسان يبقى طفلا في معرفته إلى أن يفهم كانت، وعابوا على أحد الفلاسفة من الذين جاءوا بعده، بأن فيلسوفا تطغى على فلسفته السذاجة والسطحية، والسبب لأنه لم يهضم فلسفة كانت. وعندما اندلعت الثورة الفرنسية، كان كانت في أوج فلسفته وقد عبر موقفه منها عن حقيقة تقييمه للأحداث السياسية في عصره، وعده العديد من المهتمين في الفلسفة الكانتية، أن كانت كان مؤيدا للثورة الفرنسية، بل ومن اشد المتحمسين لها. ولد إيمانويل كانتْ يوم (22) أبريل/ نيسان عام (1724 م) في مدينة كونجسبرغ بألمانيا (بروسيا آنذاك)، كان والد كانت متواضعًا جدًّا، وكان والده صانع سرج، لم يكن لدى كانت الكثير من المال، والذي تعامل به بمرح من خلال العيش بشكل متواضع جدًّا. توفي والده في عام (1746 م)، فأجبر على مغادرة الجامعة لمساعدة أسرته؛ لمدة عشر سنوات، عمل كمدرس خاص للأثرياء، خلال هذا الوقت نشر العديد من الأوراق التي تتناول أسئلة علمية تستكشف الأرضية الوسطى بين العقلانية والتجريبية. وينظر كانت للإنسان على أنه "حيوانا ميتافزيقيا"، لأن العقل الخالص يحتوي قبليا على مبادئ ثلاثة هي طبيعة الله، خلود النفس، بداية العالم في الزمان، ومن ثمة لا نستطيع أن نمنع الإنسان من التفكير في هذه الأمور، علما أن كل ما يقع فيه العقل حين يساجل في الماورائيات هي أغاليط ونقائض. فالمجالان اللذان يستطيع العقل أن يصل فيهما إلى نتائج هما مجالا العلم والأخلاق. ويعتقد كانت أن العلم لم يتقدم إلا حينما ابتعد عن الميتافزيقا. ومثلا الانسان الذي يصاب بلوثة عقلية، أي يصاب بعض التلف في دماغه فتعطل عن ربط الواقع الجديد الذي صادفه مع المعلومات السابقة عن هذا الواقع، فتراه مثلا اذا تناول طعاما وقام باتساخ ملابسه لا يقوم بتنظيفها، لان عقله معطل عن ربط الطعام بإمكانية اتساخ الملابس ومن ثم تنظيفها. وبتصور كانت إن العقل اتى بتصورات عقلية من عنده يعبر عنها بمصطلح المقولات ثم يقوم العقل بتطبيق هذه المقولات على المحسوسات فيضع عدة محسوسات تحت تصور واحد او مقولة واحدة مثل الكيف والكم والجوهر والعرض ويربط بين محسوسين برابطة هي السببية فلا سببية بين المحسوسات. واذا اتينا الى مفهوم العقل فهو ضِدُّ الجنون، و يراد به وعي الإنسان وإدراكه، والتمييز بين الضَّار والنافع، وكون الإنسان مدركاً لما يجري حوله، وأن تكون أفعاله وأقواله نابعة عن إرادته، بل وبمحض أرادته. وكثير من فلاسفة المسلمين عرفوا العقل والذي يهمنا هنا، ابن رشد، وابن سينا، حيث يرى الأول أن العقل قوة تجريد من شأنه أن ينتزع الصور من الهيولي، ويتصورها مفردة، على كنهها، لا ظاهرها، وهناك صوراً عديدة للعقل، منها العقل بالفعل، والعقل بالقوة، والعقل بالملكة. وابن سينا يعرف العقل القدسي: بأنه "كالعقل الهيولاني، يكون فيه شديد الاتصال بالعقل الفعال، كان كل شيء من نفسه". فالعقل هو ذلك الاسم الذي نطلقه على عملية التفاعل التي تحدث بين النفس والروح وهى عملية التفكير, فالعقل بذلك لا يمثل أو يساويها، ولكن يمثل العامل المنظم للشخصية ويمثل الكينونة في حد ذاتها. وكان المعري، الشاعر الفيلسوف، قد مجّد العقل حتى فضله على الشرع، ولم يكتف المعري بأن يحكّم العقل في الأمور التي جرت العادة بتحكيمه فيها بل أراد أن يكون العقل والفكر في أكثر الأغراض التي تناولها المعري في لزومياته. وبعضهم قال أن العقل يتصل أتصالاً وثيقاً بالسمات الشخصية للإنسان، كما أنه يمكن تعريف العقل بأنه ظاهرة يسهل إدراكها، وهذا العقل لا يوجد في الإنسان فقط، بل أيضًا بالحيوانات، كما يمكن للعقل أن يكون فائق أو خارق، أو عقل مطلق. وخلاصة الكلام أن ايمانويل كانت في نقده للعقل اراد بذلك، أن نتدبر العقل وأن ننقده، بمعنى أن ننقد العقل بالعقل، من باب التأمل وعدم الاسراع في اصدار الاحكام، جزافا أو تسرعا، الا بعد تأمل والنظر بعمق ومعرفة خالصة محضة، لأن هناك ثمة حقائق كثيرة ليس بمقدور العقل أن يدركها أو يصل الى كنهها ومعرفة ذاتها، كوجود الله، فكانت انتقد جميع الادلة التي سبق للفلاسفة وأن طرحوها وذكروها في كتبهم، واعتبر أن تلك الادلة هي شيء مضحك، وإنما البرهان الاكيد الذي يمكن أن نعوّل عليه هو البرهان الاخلاقي، فالأخلاق هي البرهان الحقيقي وبمقتضاه أن نثبت وجود الله. وقد اقر نيتشة بكل ما طرحه كانت.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقالات في التصوف والعرفان(4)
-
مقالات في التصوّف والعرفان(3)
-
مقالات في التصوّف والعرفان(2)
-
مقالات في التصوّف والعرفان(1)
-
خدام الفلسفة:(2) إمام عبد الفتاح إمام
-
لا منقذ للإنسان الا الموت
-
اساطير وخرافات الطبري المؤرخ(3)
-
ابن المقفع وانكار وجود الله
-
اساطير وخرافات الطبري المؤرخ(2)
-
اساطير وخرافات الطبري المؤرخ(1)
-
هل الدين ضرورة للمجتمعات؟
-
قرار نهائي
-
عَلموني كيف أحب وطني
-
الحمير وحدها التي تعيش حرة
-
مقهى
-
صورة
-
صفقة بيع وطن
-
انحطاط
-
مشروع المفكر العراقي رحيم أبو رغيف(3)
-
حبيبتي بغداد
المزيد.....
-
معالجات Qualcomm القادمة تحدث نقلة نوعية في عالم الحواسب
-
ألمانيا تصنع سفن استطلاع عسكرية من جيل جديد
-
المبادئ الغذائية الأساسية للمصابين بأمراض القلب والأوعية الد
...
-
-كلنا أموات بعد 72 دقيقة-.. ضابط متقاعد ينصح بايدن بعدم التر
...
-
نتنياهو يعطل اتفاقا مع حماس إرضاء لبن غفير وسموتريتش
-
التحقيقات بمقتل الحاخام بالإمارات تستبعد تورط إيران
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|