عبير خالد يحيي
الحوار المتمدن-العدد: 6283 - 2019 / 7 / 7 - 19:13
المحور:
الادب والفن
ستة أيام في تونس الخضراء
عبيرخالد يحيي
زيارتي لتونس الخضراء كانت حلمًا راودني منذ نعومة أظافري, سيما في سنتي الدراسية الخامسة من المرحلة الابتدائية عندما كنا نتدرّب على رقصة على أغنية ( بساط الريح) لفريد الأطرش والتي كتبها بيرم التونسي, يأتي فيها على ذكر كل البلدان العربية, لا أدري لمَ كنت أنتظر المقطع الذي يتغنى فيه بتونس الخضراء قائلًا: ( تونس أيا خضرا.. يا حارقة الأكباد .. غزلانك البيضا تصعب على الصياد .. غزلان في المرسى والا في حلق الواد.. على الشطوط تعوم ما تخاف صيد المي), رغم أني كنت ولا زلت أتمنى زيارة كل البلدان العربية, وكان المفروض أن نشارك بتلك الرقصة بفعالية فنية في بغداد أو في مصر ولبنان والأردن ودول الخليج, وبقية الدول العربية, وتحقق ذلك الحلم قبل حوالي أسبوع بدعوة من الشاعر التونسي نجم الدين حمدوني لحضور مهرجان شعر الحرية الدولي للثقافة والسياحة بدورته الثامنة في مدينة سيدي بوزيد, وكانت مقررة بشهر أبريل من هذا العام 2019, لكن – ولحكمة أدركتها لاحقًا- تأجلت الفعالية لنهاية شهر حزيران, طبعًا لن أتحدث عن موضوع الفيزا وأنها تأخرت أكثر من شهرين حتى صدرت, وسافرت إلى هناك بالرغم من عدة أمور حدثت وقفت عندها قليلًا, منها أن صديقتي الشاعرة المصرية التي كنا سنترافق معًا بهذه السفرة أصابتها وعكة صحية مفاجئة منعتها من السفر, ومع ذلك سافرت من مطار القاهرة, وصلتُ مطار قرطاج, وتوجهت من هناك إلى سيدي بوزيد والتي تبعد حوالي 5 ساعات عن تونس العاصمة, كان في استقبالي هناك الأستاذ حمدوني منظم المهرجان والذي استقبلني بترحاب كبير, أنزلني في الفندق لأرتاح من تعب السفر, وفي الصباح الباكر انتقلت مع مرافق شاب من الفريق المنظم للفعالية ليأخذني في جولة في المدينة، وبعدها إلى المركّب الشبابي( مجمّع شبابي رياضي وثقافي), استرحت في الغرفة المخصصة لي حتى افتتاح المهرجان بتجمّع عدد من الشعراء والشاعرات الذين قدموا من مدن تونسية مختلفة, وكنت أنا مع الذين جاؤوا من خارج تونس, كالجزائر والعراق, وكنت أول من دعيت لإلقاء قصائدي, بعد كلمة منظم المهرجان, لأمثّل بلدي الحبيب سوريا, وتوالى من بعدي الشعراء والشاعرات, فأتحفونا بقصائد لافتة, لم نشبع من الشعر, فارتأى الأستاذ نجم أن نعود إليه في أمسية تلك الليلة مرة أخرى, وكانت الأمسية مقررة لسماع أغنيات تراثية, فترافق الشعر متناوبًا مع الغناء التراثي, بعد عشاء لذيذ الذي كان مكوّنًا بشكل رئيسي من طبق تونسي ( الكسكسي) وهوطبق تقليدي في تونس وكل بلاد المغرب العربي, وأثناء الأمسية تعرفت على الشعراء والشاعرات, وتواصلنا بأريحية الحديث و كأننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل, المفاجأة كانت عندما أعلن الأستاذ نجم عن برنامج اليوم الثاني والذي جعله صباحية ثقافية طلب مني فيها أن أتحدث عن الذرائعية كمنهج نقدي عربي جديد, وما أن بدأت حتى وجدت كل انتباههم عند ما أقول, قدّمت لهم موجزًا مختصرًا جدًّا عن الذرائعية وبماذا امتازت عن باقي النظريات النقدية, وعلى ماذا ترتكز وبماذا تهتم, وما هي آلياتها, وكيف قدّمها المنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي وكيف طبّقتها أنا, لأجدهم في نهاية دقائق لم تتعدَ الخمس عشرة دقيقة يصفقون بإعجاب ويسألونني في تفاصيل, استأنفنا الفعالية التي انتهت بتوزيع شهادات تقدير على الحضور.
وعند الظهيرة شددت الرحال إلى مدينة القيروان, المدينة التاريخية التي تبعد حوالي ساعتين عن سيدي بوزيد, بدعوة من صديقتي الشاعرة التونسية سامية فطوم التي استقبلتني بترحاب وأريحية عربية, وتناولت طعام الغداء مع أسرتها الكريمة, بعدها ذهبنا في جولة في مدينة القيروان القديمة, زرنا مسجد ومقام الصحابي الجليل (أبي زمعة البلوي) وهو من الصحابة الكرام الذين شهدوا بيعة الرضوان, كما زرنا فسقية الأغالبة, وهي عبارة عن بركة كبيرة جدًّا يتم فيها تجميع المياه, زرنا أيضًا مسجد عقبة بن نافع, وتجولنا في المدينة القديمة ضمن سورها الأثري الكبير, وبين مبانيها وشوارعها الضيقة التي لا تدخلها السيارات ولا المركبات الأخرى, زرت المركّب الثقافي في القيروان ووقفت عند صرح قصيدة قالها نزار قباني في أفريل 1995 مشيدًا بمدينة القيروان.
وقفت تحت النوافذ الزرقاء, لمست كل مدقّات الأبواب الكبيرة, دققت على أبواب الزمن، أحلم بصوت يأتيني ملبيًا, يفتح لي الباب لألتقي مجد الأجداد... في المساء كانت كل الأبواب موصدة, بما فيها باب بيت الشعر, أبواب نامت خلفها الحكايات, لكن الصباح كان كريمًا, ففي صباح اليوم التالي كنا على موعد مع الشاعرة والأديبة (جميلة الماجري) مديرة بيت الشعر في القيروان, والتي تفضّلت بدعوتي عن طريق شاعرات القيروان ( اليعقوبيات) - وهن ثلاث أخوات شاعرات من عائلة اليعقوبي- لزيارة بيت الشعر, تحدّثنا عن عراقة المكان, والذي كان عبارة عن قصر قديم تم تهيئته ليكون بيتًا للشعر, يتم فيه عقد الكثير من المهرجانات والمناظرات الشعرية و الملتقيات الأدبية والثقافية, أهدتني أحد دواوينها وأهديتها ديواني الأخير( قصيدة لم تكتمل), وافترقنا على اتفاق بالتعاون والتواصل. بعدها أكملنا جولة سياحية داخل بيت الشعر وخارجه, وقرأت العديد من اللافتات التي كانت تعلن عن فعالية مهرجان ربيع الفنون الدولي, واختتامها قبل أيام, زرنا مجددًا جامع عقبة بن نافع حيث لم يتح لي في اليوم السابق الدخول إلى داخل المسجد وهو آية عمرانية فريدة بأقواسه الكثيرة التي تشبه مسجد الحمراء في غرناطة, وتيجان أعمدته المختلفة, ثم زرنا مقام سيدي عبيد الغرياني الأثري الذي تم تحويله إلى ملتقى ثقافي, وهو أيضًا آية بالجمال العمراني الإسلامي القديم, زرنا أيضًا بئر برّوطة, وهو بئر قديم جدًّا وعميق جدًّا وله قصة طريفة, وهي أن بعض الصحابة أصابهم العطش وهم في رحلة في المنطقة, افتقدوا كلبة ترافق قافلتهم تدعى (روطة) هربت منهم, عندما عادت إليهم كانت أطرافها مبلّلة, قادتهم إلى المكان الرطب, حفروا فيه فكان تحته البئر, الذي لفتني وجود جمل مربوط بحبل يلتف على بكرتين كبيرتين متعامدتين, يدور الجمل فتخرج الدلاء المربوطة بالحبل مملوءة بالماء, والمقولة أن من يشرب من البئر لا بد أن يأتي مدينة القيروان مرات عديدة, الجمل يأتون به صغيرًا ويكبر في نفس المكان إلى أن يموت, ثم يأتون بغيره وهكذا, وعلى ذراع المحور الذي تدور حوله البكرتان رُبطت العديد من المناديل والمزق القماشية الملونة, عقدها أصحابها مع أمنياتهم على أمل أن تتحقق, أنهينا الجولة بشراء الحلوى المسماة ب ( المقروض) والتي تختص بها مدينة القيروان تحديدًا, وهي عبارة عن عجين محشو بالتمر ومقلي بزيت الزيتون أو السمن, ومغطس بالقطر أو العسل كما يسمونه, عند هذا الحد انتهت جولتي بالقيروان, مدينة الصحابة والأولياء والصالحين, مدينة الثقافة والفقه والشعر والأدب, مدينة العراقة التي تعبق فيها رائحة الأمجاد, غادرتها بعد الغداء الشهي الذي أعدّته لنا أخت صديقتي سامية, ودّعوني وداعَ الأهل, رافقتني صديقتي إلى محطة الركاب, ومن هناك انطلقت إلى تونس العاصمة ...
وفي تونس العاصمة كنت على موعد مع صديقتي الليبية الشاعرة و الإعلامية نيفين, رافقتني في باقي أيام جولتي, لم يسعفنا الوقت بأكثر من عشاء في مطعم من مطاعم شارع بورقيبة, لآوي بعدها إلى الفندق الذي حجزت لي فيه صديقتي إقامة لمدة ثلاثة أيام, هي ما تبقى من رحلتي قبل سفر العودة. في اليوم التالي, ومنذ الصباح الباكر توجهنا إلى مدينة الحمّامات, يوم استجمام تمتعنا فيه بالعوم والسباحة سيما أن درجة الحرارة تجاوزت 40درجة مئوية في العاصمة- ويقيني أنها أعلى بكثير- اختلفت المعالم العمرانية عن القيروان, فهنا المباني الحديثة والأسواق العصرية, والطرقات الإسفلتية وليس الحجرية, اشتريت من سوق الحمامات بعض الهدايا المصنوعة يدويًّا من الفخار والجلديات, في اليوم التالي كنت على موعد مع جمال الطبيعة وسحر مدينة سيدي بوسعيد والمدن القرطاجية التي كانت تبهرنا في الطريق, انطلقنا في القطار كي لا يفوتنا أي منظر جمال طبيعي, رغم شدة الحرارة والرطوبة العالية أكملنا جولتنا, كانت الليموناضة الباردة وسيلتنا لإطفاء الحرارة العالية, تنقلنا بين أزقة المدينة السياحية الرائعة, حيث التقينا بالعديد من الأفواج السياحية الأجنبية, تمتاز أبنية المدينة باللونين الأزرق والأبيض في تنافس راق في مسابقة للجمال, لوحات فنية لفنانين محليين احتلت الأرصفة, تلة عالية من بعدها تتهادى البيوت الفخمة التي تشهد على أيام عزّ عاشها أصحابها, لتنتهي في عناق حميمي مع البحر, ومن أعلى مقهى رصدت عدستي ميناء اليخوت, خلفه وعلى امتداد غير بعيد التقاء جبل عال مع البحر, منظر ساحر فعلًا!
مدينة( مرسى) كانت وجهتنا التالية بعد أن لحقت بنا صديقتنا الشاعرة القيروانية سامية, مدينة ساحلية رائعة الجمال, قضينا الوقت نتنقل بين معالمها الحيوية, مدينة مفعمة بالنشاط والحركة, الجو فيها لطيف بأنسام رقيقة, غادرناها في المساء, لأقضي ليلتي الثالثة في تونس العاصمة, وصباح اليوم الأخير كان في مدينة الثقافة التي ذهبنا إليها مشيًا على الأقدام لقربها من الفندق, بناء كبير وقبة كروية زجاجية, نخلات عالية تصطف على مدخل الصرح الذي ولجنا فيه لنلتقي بالناقد والأديب الكبير كمال الرياحي مدير ( بيت الرواية) والذي كان مشغولًا بالإعداد لمسابقة عنوانها مسابقة القرّاء, وكان موعدها في اليوم التالي, ومع ذلك دعانا إلى مكتبه, وتحدّثنا بأزمة القرّاء والقراءة, وشرح لنا أن المسابقة تقوم على توزيع كتب وأعمال بعض الأدباء على القراء, يقرؤونها, ثم يدعوا بيت الرواية الأدباء والقرّاء إلى ندوة, يناقش فيها القرّاء عمل الأديب بحضوره, ويقيّمون العمل من خلال تلقّيهم له, والجائزة عبارة عن العديد من الكتب والأعمال المطبوعة يفوز بها القرّاء, هذه المسابقة عنوانها ( روايات الصيف) ومثلها (روايات الشتاء), أهديت بيت الرواية ( موسوعة الذرائعية ) نيابة عن أستاذي المنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي, كما أهديت مجموعتي القصصية ( ليلة نام فيها الأرق), الجميل في الأمر أن المبدع كمال الرياحي حمل الهدية ودعانا لجولة تعريفية في مكتبة ( بيت الرواية) وبقي يحمل الكتب طيلة الجولة, وعندما وصلنا إلى جناح النقد أشار إلى أعلى رف في المكتبة وقال لي : " هنا ستتربع موسوعتكم" وإلى رف آخر في جناح يحوي مجموعات قصصية قال: "وهنا ستقف مجموعتك" , أحسست بالامتنان فعلًا, شعرت أنني أزرع شتلة في أرض طيبة, من يدري لعلها تتسامقُ تسامقَ نخلة مشرقية في أرض مغاربية, من يدري؟! .
لم تنتهِ المفاجآت السارة, فبعد هذا اللقاء الثقافي المثمر, اتصلت بي الفنانة والشاعرة التونسية المبدعة صالحة الجلاصي لتخبرني برغبتها بأن نلتقي, تجمعنا صديقة مقرّبة جدًّا أديبة وشاعرة, التقينا في صالة الفندق, وكان اللقاء جميلًا جدًّا حدّثتني عن نشاطاتها الأدبية والفنية المتنوعة, وأمتعتنا ببعض قصائدها الرائعة, وحدّثتنا عن تجربتها المسرحية والتلفزيونية والإذاعية , لقاء لم أتمنى أن ينتهي, لكن الوقت قصم متعتنا, وكان وقت الرحيل قد أزف, فودّت الجميع تاركة عند كل واحد منهم قطعة حب, وعند تونس الخضراء دعوات مخلصة وأمنيات كبيرة بأن تعود درّةً على جبين المغرب العربي, غربية الموقع, عربية الهوية, مشرقية الحب.
#دعبيرخالديحيي
#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟