هنري والون: ديالكتيكية علم النفس (1)

طلال الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 6279 - 2019 / 7 / 3 - 06:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

كان الفرنسي هنري والون (1879-1962) عالما نفسيا ماركسيًا معروفًا في أوروبا, ولكن على عكس معاصره عالم النفس السويسري جان بياجيه (1896-1980), لم تتم ترجمته وقراءته على نطاق واسع في الولايات المتحدة. هذا لربما يفسر ان بياجيه, على عكس والون, تدرس نظرياته في كتب علم وطب النفس المدرسية وعلى نطاق واسع. ولكن لماذا تصبح أفكار بعض العلماء شائعة على عكس أفكار الآخرين لا يزال سؤالا غير معروفة اجابته وفي النهاية يجب أن يظل لغزًا, كما يقول Boring.
Boring, E. G. (1950).A history of experimental psychology. New York: Appleton-Century-Crofts

ولكن, في حالة والون, يمكن للمرء أن يفكر في ثلاثة عوامل على الأقل والتي على الأرجح لم تسهل استقبال أعماله في العالم الأنجلوسكسوني (وفي عالمنا ايضا). أولاً, هناك حاجز اللغة. كتب والون بشكل حصري باللغة الفرنسية, اضافة الى أسلوبه المعقد في الكتابة واتساع اهتماماته, مما يجعل من الصعب فهمه حتى بالنسبة للناطقين بالفرنسية. ثانيا, دافع والون لاحقًا عن وجهة نظر ماركسية لم تكن تحظى دائمًا بالشهرة في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية. أخيرًا, لم يكن والون في المقام الأول عالما تجريبًبا ماهرًا, ولم يكن من السهل (اعادة) اختبار أفكاره مختبريا.

مثل معاصريه، عالم النفس الروسي-سوفيتي ليف فيجوتسكي (1896 -1934) وبياجيه، كان والون مهتمًا بما يسمى بعلم النفس التطوري-الجيني, ولكن ليس بمفهومه البيولوجي الضبق وانما من خلال فهم تطور الطفل او الفرد كمحصلة مستمرة ومتغيرة لتفاعل شبكة معقدة من العوامل البيولوجية والثقافية والاجتماعية.

ناقش بياجيه ووالون في كثير من الأحيان مزايا أفكارهما مع رغبة بياجيه في إيجاد نقاط اتفاق بينها, في حين شعر والون أنه من المهم التأكيد على خلافاتهما. بينما حاول بياجيه تتبع تطور الطفل من خلال الهياكل المنطقية، والتي أكدت الاستمرارية من مرحلة إلى أخرى في تطور او نشأة الطفل (يمكن فهم المراحل اللاحقة بطريقة مماثلة لتلك السابقة باستخدام مفاهيم بيولوجية مثل الاستيعاب والتكيف والتوازن), في حين أكد والون على أهمية العلاقات الإنسانية أو الممارسة في نمو الطفل. جادل والون أن هناك وحدة ليس فقط بين المراحل ولكن أيضا داخل كل مرحلة نفسها. لم يكن والون يعتقد أن تطور الطفل يمكن أن ينفصل الى تفرعات, كما في حالة علم نفس بياجيه, في تصنيف تطور الطفل الى تطور ذهني, اجتماعي, وعاطفي. اعتبر والون بياجيه, بالرغم انه يقدم بعض الأفكار المثيرة للاهتمام, الا ان علم نفسه يتسم بسمات الفردية المبتذلة المشتقة من النظريات النفسية للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778), حيث يتم فهم الممارسة الاجتماعية بشكل سلبي فقط في إنكار الجوهر (البيولوجي) للفرد في التطور.

يشبه علم النفس التطوري لدى والون علم نفس فيجوتسكي. لقد تأثر كلاهما بالماركسية واستخدما المادية الديالكتيكية طوال عملهما. ركز والون, مثل فيجوتسكي, بقوة على دور اللغة والأوساط الاجتماعية في فهم تطور الطفل. بعد الحرب العالمية الثانية, شكل والون عيادة نفسية يمكن مقارنتها بما نسميه اليوم مركزًا صحيًا مجتمعيا. مثل تركيز فيجوتسكي على تطور المفهوم الذهني، حاول والون فهم وتتبع نشأة الطفل في محيطه الاجتماعي.

يعتبر والون في فرنسا أحد الآباء المؤسسين لعلم نفس الطفل, وهو مثل فيجوتسكي, يركز على الطبيعة الإبداعية للعمليات النفسية المتعلقة بالعمل والتمثيل representation. لقد فحص هذه العمليات في مجرى تطورها أثناء اكتساب الطفل القدرة على فهم, والسيطرة على, الكون المادي والاجتماعي, وذلك على المستوى الفردي وفي صنع التاريخ البشري. كان والون من أوائل علماء النفس الذين درسوا بشكل منهجي تطور النظم التمثيلية بدءًا من مستوى الحواس ومن خلال جميع أشكال النشاط البشري الأخرى, ارتقاءا إلى مستوى النظم الرمزية المعقدة، بما في ذلك الفكر العلمي.
Henri Wallon’s Theory of Early Child Development:The Role of Emotions
https://pdfs.semanticscholar.org/db52/eb67d85e5288604fe0060406be67d2959667.pdf?_ga=2.237192454.784342632.1562109656-362909627.1562109656

هنري والون, الذي نادراً ما يسمع به في اوساط طب وعلم النفس الشائعين, يعرص لنا لمحات وضاءة لما يمكن ان يكون عليه علم النفس الماركسي, علم نفس لا يمكننا فيه (محاولة) فهم نشأة الفرد دون التركيز بشدة على الأطوار الاجتماعية والثقافية التي تجعل ذلك ممكنًا.

قام والون بدمج مجموعة واسعة من الاهتمامات العلمية مع "مشاركة" سياسية فعالة في الأحداث الاجتماعية والتاريخية في حياته. من الناحية السياسية, كان والون ينتمي إلى الجناح الأيسر وناشطًا في العديد من المنظمات اليسارية وأصبح عضوًا في الحزب الشيوعي الفرنسي أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا عندما كان مشاركا في المقاومة. ناشد والون باحداث نظام تعليمي اقل نخبويةً وأكثر ديمقراطية, وكان مؤلفًا مشاركًا في خطة إصلاح التعليم الذي لم يتم تنفيذها على الإطلاق. من المحتمل أن تكون ميوله السياسية قد حددت اهتمامه بنظام التعليم السوفيتي الذي أشاد به والون, وكذلك بانشغاله بعلم النفس السوفيتي. في هذا الصدد, حافظ والون على اتصالات نشطة مع علماء النفس السوفييت مثل مساعد فيجوتسكي من قبل, ليونتيف. في الواقع, لقد أصيب والون بجروح خطيرة في حادث سيارة بعد لقائه في بارس مع ليونتيف في عام 1954. نجا والون، لكنه بقي معاقًا بقية حياته.

تعكس المجموعة الواسعة من اهتمامات والون-من اختلال وظيفي في الدماغ إلى الحاجة إلى إصلاحات تعليمية- بدقة ما يمكن أن يكون أحد المبادئ الأساسية لتفكيره: أن الإنسان هو كائن اجتماعي بيولوجي يتم تحديد أدائه العقلي بواسطة كل من معداته البيولوجية والمجتمع المحيط. وبالرغم من بساطة هذا الادعاء كما يبدو, فقد قاده ذلك إلى محاربة الاختزاليين المعاصرين من مختلف الأنواع, وخاصة أولئك الذين رأوا أن نمو الطفل هو عملية نضج بسيطة. مقابل هذه النظرة النضجية الصارمة, اكد والون إن الأطفال أو البالغين لا يمكن دراستهم بشكل مجدي بمعزل عن غيرهم لأنهم يشكلون جزءًا من المجموعات الاجتماعية التي تؤثر بشكل أساسي على وجودهم. لذلك, يتعين علينا دراسة نمو الشخص داخل أسرته أو مدرسته أو بيئة عمله والمجتمع ككل, وليس كفرد في جزيرة منعزلة او مقطوعة الاتصال مع العالم الخارجي كما لو انه روبنسن كروزو!
يتبع

#طلال_الربيعي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات