ميرنا ريمون الشويري
الحوار المتمدن-العدد: 6277 - 2019 / 7 / 1 - 10:55
المحور:
الادب والفن
صوت المهمّشين في ديوان "منذُ دهرٍ وثانيتينِ" لجميل داري
هنالك الكثير من الأنواع الأدبية، ولكلّ نوع وظائفُ مختلفة، فأحد أهداف أدب ما بعد الحداثة هو التشكيك في مقولة إنّ التكنولوجيا تلعب دورًا إيجابيًّا في تطوير المجتمعات. أمّا الوظيفة الأهمّ للأدب الما بعد الكولونياليّ فهي التصدّي للمقولات الكاذبة للأدب الاستعماريّ، إلا أنّ بعض أنواع الأدب لم يعط لها الأهمية التي تستحقّ في العالم العربي، ومنها أدب الأقلية Minor Literature.
لذلك تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على تجربة الشاعر الكردي السوري جميل داري، ومناقشة سمات هذا النوع الأدبيّ من خلال ولوج لوحاته الشعرية، وشرح كيفية توظيف الشاعر سمات هذا النوع الأدبيّ في خدمة الثقافتين: العربية والكردية.
يرى جيل ديلوز، المفكّر الفرنسيّ أنّ أدب الأقلية هو " ليس الأدب الذي يُكتب من الأقلية بلغتهم بل الأدب الذي تكتبه الأقلية تعيش في مجتمع يتكلّم غير لغتها مستعملةً لغة الأكثرية". (ديلوز، 16)
يلخّص ديلوز ملامح هذا الأدب بثلاث سمات أساسيّة:
- لا يناقش قضايا فردية، لأنّ الفرد فيه يربط نفسه بالقضايا السياسيّة والشأن العام.
- يفكّك الحواجز الحدوديّة.
- يعكس قيمًا جماعيّة.
تزخم أشعار داري بصور حيث يشبك حياته الخاصة بالشأن العام، وكأنّ صوته مشبع بأصوات الأثنية التي ينتمي إليها، ففي قصيدة "التلويحة" يقول:
هي تلويحةٌ للوداعِ
ويدٌ من سلالةِ حزني القديمِ
فرشّي الطفولةَ
دكّي جنوني
وهدّي قلاعي
قلتُ للريحِ قبلَ الهبوبِ:
تعالي إليّ
ربيعي تيتّم
فجري تهدّم
ماتَ اندلاعي
في هذه اللوحة الشعرية يربط داري حياته بأصوله الراسخة في التاريخ والجغرافية، وهو يشير إلى ذلك بعبارته: "يدٌ من سلالةِ حزني القديمِ".
يؤكّد ديلوز أنّ هذا النوع من الشعر سياسيّ، لأنّه ثوري بطبيعته، ويبغي التغيير، لذلك يوظّف داري هذه السمة لنقد الوضع في بلده:
يا لها من فوضى خلّاقة أوجدَها الكبارُ
وينتقدها الصغارُ باسمِ الوطنِ تارةً
وباسمِ الثورةِ تارةً أخرى
حتى لم يعدْ هنالك لا وطنٌ ولا ثورةٌ إلا في خيال الطوباويين.
السمة الثانية هي تفكيك الحواجز الحدودية. فهو بالرغم من محبته الكبيرة لدمشق إذ يقول:
جعلتْني دمشقُ آهًا وآها ليتَني لم أكنْ أسيرَ هواها
إلا أنه في لوحاته الشعرية يفكّك الحواجز الحدودية لإيجاد صوت في لغة غريبة ومألوفة في الوقت ذاته. وفي هذا السياق يقول ديلوز: إنّ أدب الأقلية يلعب دور الوسيط بين أقلية وأكثرية. ويعطي ديلوز مثالًا على ذلك الأدب الافريقيّ الأميركيّ الذي يعكس الظلم والعنصرية والعزل الذي يمارس على هذه المجموعة من قبل المجتمع الأمريكيّ.
ونتلمس من أشعار داري محاولته أن يلعب دور الوسيط بين المجموعة الكردية و سائر عناصر المجتمع السوريّ.
سأخرجُ من ذاتي وأدخلُ في ذاتكْ
سئمتُ من الدنيا بغيرِ مناجاتكْ
يسافرُ فيّ الماءُ عطشانَ متعبًا
فليسَ لهُ صبرٌ... فيا لمسافاتكْ
أرى القمرَ المرميّ خلفَ سمائِهِ
فهلْ لي مكانٌ لائقٌ في سماواتكْ؟
هذه اللوحة الشعرية تعكس محاولة الشاعر أن يكون صوتًا لمجموعته المهمّشة في مجتمع الأكثرية، وتوحي لنا بأنّ الشاعر على مسافة قريبة من الثقافتين اللتين ينتمي إليهما، وهذه المسافة تخوله أن يخرج من واحدة ويلج أخرى. وهذه السمة تتكرّر، فيقول في أحد الأبيات إنّه يودّ لو أنّ لديه وطنًا في الغابة. وفي قصيدته "الانتساب" يعترف بأنّه لا ينتسب إلى أيّ أرض بل إلى الصحراء، والسبب لأنّ الأوطان تظلم: "وفي البلادِ ظلامٌ ما به قمرُ."
وفي قصيدته "ومزّق جوازَ السفر" يعلن أنّ وطنه هو الإنسان:
هل أسافرُ أم لا أسافرُ؟
سيّانَ عندي ضجيجُ الزمانِ
وصمتُ الحجرْ
هل أبشّرُ أرضي بنايٍ عقيمٍ
وموتِ المطرْ
تتجمهرُ فيّ السماءُ
لا طيورَ تحطّ على كتفي
كأنّيَ فزاعةٌ
في حقولِ الرمادِ
أكفكفُ دمعَ الشجرْ
ويقولُ ليَ البحرُ:
لا ماءَ عندي
فبلّلْ حياتكَ بالموتِ
عدْ في ليالٍ آخرْ
عدْ تجدني أرمّمُ موجي
فسافرْ
ومزّقْ جوازَ السفرْ
في هذه الأبيات يعلن رفضه لمآسي للوطن، لأنه بالنسبة له الوطن ليس تاريخًا "ضجيج الزمان" أو أرض "صمت الحجر".
حتى أنّه يرفض أن تكون أشعاره التي يسكنها وطنه فيدعوها "بناي عقيم" و يصوّر نفسه فزّاعة لا تصلح حتى وطنًا لعصفور.
وهو لا يسمع إلّا صوت البحر، وهو رمز الوطن الكونيّ. وحكمة البحر التي قدمها له أن يمزّق جواز السفر، أي أن يفكّك كلّ الحدود، ويصبح إنسانًا كونيًّا. مع أنّ هذا سيتعبه، إذ يعترف له البحر بأنه يرمّم أمواجه. ولعلّ ذلك يشير إلى أنّه على الرغم من أنّ السفر يخلق إنسانًا كونيًّا، ولكنْ في ذلك أوجاع ومعاناة.
والسمة الثالثة التي تعكسها أشعار داري هي حفظ القيم الجماعية للأقلية التي ينتمي إليها من دون أن يهمّش ملامح ثقافة الأكثرية.
أشعاره مرآة تعكس تقاطع القيم العربية والكردية كالشهامة والحزن واحترام العائلة. فبعض لوحاته الشعرية ناي حزين:
ماذا أقولُ لخيبتي
مدرارةً
والسيلُ مخبوءٌ
وراءَ مدامعي
وطني المسوّر بالفجيعة غابةٌ
ما بينَ ذئبٍ متخمٍ
أو جائعِ
ويرى دولوز أنّ هذا النوع من الأدب طبيعته ثورية، لذلك لا يكتفي بحفظ القيم الجماعية بل ينتقد بهدف التغيير. وفي هذا السياق يقول داري:
إنّي الغريبُ
بمن ألوذُ إذًا
ما زلتُ بالأطلالِ
مغلولا
حسبي الخيالُ
أجوبُ عالمهُ
ليصيرَ مكتظًّا
ومأهولا
الصّبرُ.. هذا الصّبرُ أرهقَني
بسهامِهِ
قدمتُّ مقتولا
لا ليس وطنٌ
ألي وطنٌ؟
يا صاحبيّ...
تكلّما...
قولا..
هذه الأبيات تعكس هجانة الشاعر، لأنّه يكتب على حدود ثقافتين، فيفكّك الأقطاب الثنائيّة، وبالتالي يسعى إلى التغيير.
في كتابها مناطق الحدود، تشرح غلوريا أنزلدوا، المفكرة الأميركية المكسيكية أنّ الحدود أرض غريبة، ولكن تصبح وطنًا للهجينين. ومع أنّ الحياة عليها غير مريحة، ولكنها البيت الوحيد للغرباء. لذلك فإنّ معاناة داري من الغربة وليدة الهجانة، وهي مزج قيم من ثقافتين مختلفتين، ولعل "صاحبيّ" ترمز إلى شعبين من الثقافتين اللتين يعيش على حدودهما، وحياته على الحدود تخلق وعيًا تجعله يرى العالم بمنظارين مختلفين.
أضف إلى ذلك أنّه من خلال هجانة أشعاره لا يسلّط الضوء فقط على ثقافة الأقلية بل يطعّم الأشعار العربية بروح جديدة. فأشعاره مرآة للتسامح الدينيّ الذي تتميز به الثقافة الكردية، فبالرغم من تعدّد الطوائف في المجتمع الكردي: الإسلام واليزيدية و المسيحية و الزرادشتية إلا أنّ الوطن يجمعهم، ولا يفرقهم الدين، وذلك بعكس الطائفية المتفشية في معظم المجتمعات العربية.
كما أنّ أشعاره تعكس المكانة العالية التي تتميّز بها المرأة الكرديّة. يؤكد المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي أنّ الأكراد أكثر شعوب المنطقة تسامحًا تجاه المرأة، فيعطونها مكانة كبيرة، ويتقبلون زعامتها.
وفي أشعار داري تبرز مكانة المرأة في حياته، ففي " قليلٍ من رثاء" يقول إنّه فقد أمّه الكبرى سوريا التي تنزف، والثانية أمّ أولاده التي يصفها "بامرأة من نور" والثالثة والدته، ويؤكّد أنّهنّ الأغلى لديه.
الكثير من أشعار داري تصور حبّه لزوجته ووجعه بعد رحيلها، ففي " ذكرى رحيل الحبيبة" يقول:
معي أنتِ
ليسَ لهُ أيُّ معنى الغيابْ
وصوتُكِ يملأُ قلبي
ويشعلُ نارَ العذابْ
تعالي إلي
اخرجي لي
إلامَ تظلّينَ نائمةَ العمرِ
أم أنّ قبرَكِ من دونِ بابْ
لماذا يسمّون هذه الحياةَ حياةً
فأولى بها أن تُسمّى: الهبابْ
وأشعاره لا تتغنّى الا بامرأة واحدة وهي زوجته. في مقالة شعراء لا يتغزّلون إلا بزوجاتهم، يؤكّد الناقد منصف الوهايبي أنّ الشعراء العرب منذ الجاهلية حتى الشعر المعاصر يتغزّلون بكثير من الحبيبات إلا زوجاتهم، والسبب بالنسبة له أنّ المجتمع العربيّ لم يعقل غريزة الجسد، فعلى الرغم من التغيرات التي طرأت على المجتمعات العربية إلا أنّ شعر الغزل المعاصر يتناول علاقة الرجل بصاحباته، ولا يتغزّل بزوجته.
أعتقد أنّ السبب أيضًا هو بنية المجتمع العربيّ البطريركية، فتقدّم الكثير من التحرّر الجنسيّ للرجل والقيود للمرأة بحجّة أنّها شرف العائلة، وهذا يشوّه كليهما.
ولكن وعلى الرغم من أنّ المجتمع الكرديّ ككلّ المجتمعات الشرقية بطريركيّ إلا أنه قدّم للمرأة الكرديّة مساحة حرية أكثر، إذ حدّ من غلاء المهر ومن تعدّد الزوجات، حتى أنّها تخدم في الجيش.
لذلك نرى أشعار داري تحثّ المرأة الشرقية أن تتحرّر أكثر كنظيرتها الكرديّة.
إنّ الكثير من الكتّاب والشعراء اليوم يعيشون خارج لغتهم، وفي حقائب سفرهم، وهذه الفئة هي من رواد التغيير. لقد أدرك الغرب أهمّية الدور الكبير الذي تلعبه هذه الفئة من خلال وعيها المزدوج في تطوير ثقافتها و لغتها. أعتقد أنّ الأدب العربيّ يجب أن يستفيد أكثر من تجارب هؤلاء كتجربة الشاعر داري.
وإذا كانت الحكومات العربيّة تهمّش الأقليات في مجتمعاتها فإنّ صوت الكتاب و الشعراء من الأقلّيات سيدوّي أكثر في صميم اللغة العربية، وسيطعمها بعناصر جديدة، فيغني الثقافة العربية، وكما تقول أنزلدوا المستقبل سيكتب بيد الذين يعيشون على الحدود، لأنّهم تغيريّون.
Anzaldúa, G. (1999). Borderlands. La frontera: The new Mestiza. San Francisco: Aunt Lute (First published in 1987, this edition was published in 1999).
Deleuze, G., Guattari, F. & Brinkley, R. (1983). What is a minor literature? Mississippi Review, Vol. 11 (3), 13-33.
جميل داري. منذ دهر و ثانيتين
#ميرنا_ريمون_الشويري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟