طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 6262 - 2019 / 6 / 16 - 23:09
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يعتقد الكثير من الكتاب والمعلقين الماركسيين, واني (كنت!) احدهم, ان الرئيس الاخير للاتحاد السوفيتي وزعيم حزبها الشيوعي, غورباتشوف, كان مسؤولا مسؤولية رئيسية او الى حد كبير عن انهيار وتشظي الاتحاد السوفيتي.
تسعى هذه المقالة الى تفحص هذا الاعتقاد من بعض جوانبه وبقدر الامكان, لتحديد مسؤولية غورباتشوف من عدمها في حدوث الانهيار والتشظي, وذلك فقط على ضوء المعلومات المتوفرة, واني اعتقد ان كلمة التاريخ قد تكون موقتة وخاضعة للتحوير, النفي او الاثبات, بتوفر معطيات جديدة او باعادة تفسير ادق صحة لما حدث.
----------
إن ما كان أكبر دولة شيوعية في العالم - وبثقل موازنة الولايات المتحدة- تشظت الى 15 جمهورية مستقلة, مما جعل أمريكا القوة العظمى العالمية الوحيدة. وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفيتي في ذروته كان لديه أكثر من 5 ملايين جندي متمركزين دولياً وما يكفي من الطاقة النووية لتدمير الجنس البشري, إلا أن أعضاء القيادة العليا السوفيتية تنازلوا عن السلطة دون إطلاق رصاصة واحدة. العديد يعتبر هذا التنازل امراغريبا,غير معقول, او حتى قد يرقى الى مستوى الخيانة!
في يوم عيد الميلاد عام 1991, صدم الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف العالم ببيانه الذي أعلن فيه حل الاتحاد السوفياتي واستقالته من منصبه الأعلى. وانتهت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
Gorbachev, Last Soviet Leader, Resigns- U.S. Recognizes Republics Independence
https://archive.nytimes.com/www.nytimes.com/learning/general/onthisday/big/1225.html#article
وقبلها, في عام ,1988 اختارت مجلة تايم ميخائيل غورباتشوف ليكون "رجل العام" لعمله من أجل إنهاء الحرب الباردة. في العام التالي, أطلق عليه اسم "رجل العقد". في عام 1990 فاز غورباتشوف بجائزة نوبل للسلام. ولكن استطلاعات الرأي العام الروسي اكدت إلى حد كبير ان الغاء غورباتشوف للاتحاد السوفيتي كان كارثة وتقرب من الخيانة
Fall of the Soviet --union--
https://www.history.com/topics/cold-war/fall-of-soviet---union--?utm_campaign=
و الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعلن في عام 2015 أن انهيار الاتحاد السوفيتي "كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن (العشرين)".
Putin: Soviet´s collapse a genuine tragedy
http://www.nbcnews.com/id/7632057/ns/world_news/t/putin-soviet-collapse-genuine-tragedy/#.XQZlKI9CTIU
بينما لا يتفق جميع الروس بالضرورة مع وصف بوتين, إلا أن معظمهم ينظرون إلى تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 باعتباره "أمرًا سيئًا"، وفقًا لمسح أجراه مركز بيو للأبحاث في روسيا و 17 دولة أخرى في أوروبا الوسطى والشرقية, بين عام 2015 و 2016.
7. Views on role of Russia in the region, and the Soviet --union--
https://www.pewforum.org/2017/05/10/views-on-role-of-russia-in-the-region-and-the-soviet---union--/
وهذا الرأي لم يقتصر على روسيا. على سبيل المثال, في روسيا, وكذلك في جمهوريات أرمينيا ومولدوفا السوفيتية السابقة, ما يقرب من سبعة من كل عشرة أو أكثر اعتبروا انهيار الاتحاد السوفيتي على أنه "أمر سيء" , وفي بيلاروسيا 54 ٪ يرون في ذلك امرا سلبيا. وفي الدول السوفيتية الخمس السابقة التي شملها الاستطلاع ، جمهوريات البلطيق الثلاث وهي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا - التي أُدمجت "قسراً " في الاتحاد السوفيتي - اعتبرت الانفصال عن الاتحاد السوفياتي باعتباره شيئًا ليس سيئًا, وان ثلاثة من كل عشرة أو أقل فقط في كل بلد لم يحمل هذا الرأي.
وأظهر استطلاع للرأي أجري مؤخراً في مركز بيو للأبحاث في روسيا انخفاضًا بنسبة 10 في المائة في حصة الروس الذين يقولون إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أمرًا سيئًا بالنسبة لبلدهم (59٪ في عام 2017 ، مقارنة بـ 69٪ في 2015). يسير هذا التغيير جنبًا إلى جنب مع تحس الوضع الاقتصادي العام بين الروس.
Russians Remain Confident in Putin’s Global Leadership
https://www.pewresearch.org/global/2017/06/20/russians-remain-confident-in-putins-global-leadership/
وفي استطلاع للرأي أجري عام 2017 للروس, كانت نسبة تأييد غورباتشوف أقل بكثير من تصنيف جوزيف ستالين في زمن الحرب. ومع ذلك, ما زالت غالبية الروس يقولون إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أمرًا سيئًا بالنسبة لبلادهم.
عندما اصبح رئيسا للاتحاد السوفيتي في عام 1985, ورث غورباتشوف كلا من الاقتصاد المريض والنظام السياسي المتداعي. يعتقد العديد من المؤرخين أن السياستين اللتين وضعهما غورباتشوف لمعالجة التحديات, وهما الغلاسنوست "الانفتاح" والبيريسترويكا" ("إعادة الهيكلة"), سارعتا بأنهيار النظام السوفيتي, الذي كان من قبل في وضع تراجع بالفعل!
Perestroika
https://www.history.com/topics/cold-war/perestroika-and-glasnost
كانت غلاسنوست, التي بدأت في أواخر الثمانينات, بمثابة دافع للشفافية في الحكم. فقد كبحت رقابة الدولة, مما سمح لوسائل الإعلام السوفيتية بالإبلاغ عن الحقائق المؤلمة والمغطاة منذ فترة طويلة - مثل حقيقة أن إدمان الكحول ومعدل وفيات الرضع آخذا في الارتفاع, ومتوسط العمر المتوقع عند الولادة آخذ في الانخفاض, ومستويات المعيشة في الغرب تفوق تلك الموجودة في الاتحاد السوفيتي. كما سمح للأحزاب غير الشيوعية بالمشاركة في الانتخابات.
اما بيريسترويكا, التي أجريت في الوقت نفسه, فكانت عملية إصلاح اقتصادي تهدف إلى إنعاش الاقتصاد الذي طالت معاناته. لقد نقلت الاقتصاد السوفيتي بعيداً عن نموذج القيادة المركزية, الاقتصاد الذي كانت الحكومة تملكه وتدير أعماله, نحو نموذج هجومي - رأسمالي يشتمل على إصلاح السوق الحرة. تم السماح للمواطنين بالبدء في فتح شركات خاصة, تم السماح للأجانب بدخول البلاد للمشاركة في مشاريع مشتركة.
قوبلت التدابير بداية بحماسة: عندما افتتح مطعم ماكدونالدز في عاصمة البلاد في يناير 1990 تعجب سكان موسكو من "شطائر ثلاثية الطوابق" ومن "ابتسامات عمال الوجبات السريعة"!
First McDonald’s opens in Soviet --union--
https://www.history.com/this-day-in-history/first-mcdonalds-opens-in-soviet---union--
كان وصول ماكدونالدز إلى موسكو علامة صغيرة ولكن مؤكدة على أن التغيير كان في الأفق. في الواقع, بعد أقل من عامين, لم يعد الاتحاد السوفيتي قائماً, واستقال ميخائيل غورباتشوف من زعامة البلاد، وأعلنت العديد من الجمهوريات السوفيتية استقلالها. وكما ذكر صحفي امريكي كان متواجدا على مسرح الاحداث, إن زبائن ماكدونالدز الروس الأوائل " استشرفوا المستقبل, وهو يعمل, على الأقل بقدر ما يتعلق الامر بالجهاز الهضمي". ولكن عندما أدت الآلام المتزايدة في البيريسترويكا إلى موجة جديدة من النقص والصعوبات الاقتصادية, استخدم القادة الإقليميون, الذين زادت سطوتهم حديثًا في الجمهوريات غير الروسية, مثل ليتوانيا وأوكرانيا, انفتاح العملية السياسية حديثًا للمطالبة بالاستقلال عن الكرملين, مما ادى كمحصلة الى انهيار
الاتحاد السوفيتي او تشظيه.
وعبر غورباتشوف في وقت لاحق عن أسفه ان "عقلية الروس لدينا تتطلب أن تُقدم الحياة الجديدة لهم على طبق من الفضة على الفور, لاحقا وهناك ، دون إصلاح المجتمع"!
ولكن العديد من الباحثين يعتقدون انه ليس من الانصاف تحميل غورباتشوف لوحده مسؤولية انهيار السوفيتي. فقد أهدر سلفه، ليونيد بريجنيف، الأرباح الناتجة عن طفرة نفطية استمرت عقدين على سباق التسلح مع الولايات المتحدة, متجاهلاً فرصة ذهبية لرفع مستويات المعيشة قبل وصول غورباتشوف. وفي الوقت نفسه, كانت التغييرات في جميع أنحاء أوروبا الشرقية. في غضون عام من إعلان غورباتشوف في ديسمبر 1988 عن أن الاتحاد السوفياتي سيقلل السيطرة العسكرية على دول حلف وارسو المجاورة, فان هذه الدول سعت على الفور إلى مزيد من الاستقلال. أطيح بالأنظمة الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا وبولندا والمجر ورومانيا وبلغاريا. سقط جدار برلين وبدأ التحرك نحو إعادة توحيد ألمانيا. بحلول الوقت الذي حاول فيه غورباتشوف أن يعيد عجلة التاريخ الى الوراء ويسترجع إصلاحاته كان قد فات الأوان, حيث تم اطلاق سراح قوى اجتماعية أوسع واكبر.
في حين انه يمكن القول أن غورباتشوف كان "ضعيفًا" في قيادته لأنه لم يكن على دراية بتداعيات محاولة إصلاح اقتصادي وسياسي جذري في وقت واحد, إلا أنه, البعض قد يعترض, كان قويًا أيضًا في سياق سياسات الحزب. على وجه الخصوص فانه نجح في إضعاف النظام الشمولي لصالح الحقوق الفردية, على الرغم من المقاومة من داخل الدولة الحزبية -الحكومية.
ولكن هل كان انهيارالاتحاد السوفيتي يعني فوز الولايات المتحدة في الحرب الباردة؟
في اليوم الذي انهار فيه الاتحاد السوفيتي, اعلن الرئيس جورج بوش "النصر" في الحرب الباردة. يقول سيرهي بلوخي, أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد ومؤلف كتاب "الإمبراطورية الأخيرة: الأيام الأخيرة للسوفييت"، إن هذا الإعلان كان مضللاً.
The Last Empire: The Final Days of the Soviet --union--
by Serhii Plokhy
https://www.goodreads.com/book/show/21857933-the-last-empire
يقول بلوخي: "كانت الولايات المتحدة تحاول أن تفعل كل ما في وسعها لوقف تفكك الاتحاد السوفيتي". ويضيف: "لقد كان الأمر بهذه البساطة." لقد نشأت النهاية الحقيقية للحرب الباردة في قمة مالطا في عام 1989 حيث التقى غورباتشوف وبوش ووافقا على السلام الذي بُني "على أساس الشروط الأمريكية".
ويضيف بلوخي, سعت حكومة الولايات المتحدة بنشاط إلى الحفاظ على الاتحاد السوفيتي كدولة موحدة, معتبرةً ذلك بديلاً مناسبا لقوة نووية تتحلل إلى أكثر من عشر دول قومية. حتى أن جورج بوش سافر إلى أوكرانيا في أغسطس عام 1991 لإلقاء خطبة لما كان يشار إليه لاحقًا باسم chicken Kiev حيث حث فيها الأوكرانيين على التصويت ب "لا" على استبيان الانفصال عن الاتحاد، واصفا الانفصال بـكونه "(سياسة) وطنية انتحارية" وحذر الأوكرانيين من أن "الحرية ليست هي صنو للاستقلال".
The secrets of chicken Kiev
https://www.newstatesman.com/node/195184
لقد غيرت الولايات المتحدة مواقفها بشأن حل الاتحاد السوفييتي في أواخر شهر نوفمبر - عندما أظهر الاستطلاع الذي أجري في أوكرانيا حتمية التصويت لصالح الاستقلال، مما وضع الاتحاد السوفيتي بأكمله على شفا الانهيار.
السؤال الاكبر الذي لم اسع الى الاجابة عليه, لاني لا استطيع, على الاقل حاليا: هل كان بامكان غورباتشوف, او اي شخص أخر مكانه وباجراءات مخالفة لاجراءت غورباتشوف, قادرا على اصلاح الاتحاد السوفيتي و الحيلولة دون انهياره وتشظيه؟ ومسؤولية غورباتشوف, الجزئية ان لم تكن الكاملة, تتحدد بالضبط من خلال الاجابة على هذا السؤال!
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟