|
بين فرنسا وسورية
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6247 - 2019 / 6 / 1 - 13:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ماذا يمكن للسوري أن يقرأ في اللوحة الفرنسية قياساً على تجربة بلاده؟ المظاهرات الصفراء لا تهدأ في فرنسا، ويصل غضب المحتجين، في أحيان غير قليلة، إلى حد الانفجار على شكل أعمال عنف موجهة ضد مؤسسات الدولة والمصارف والمحلات الراقية في الشانزليزية (رموز الثراء) وضد الشرطة .. الخ. ليس العنف الأصفر نتيجة غضب خرج عن السيطرة فقط (لا نقصد العنف الذي يتستر بالحركة لأغراض جرمية) بل نتيجة قناعة رسختها الحكومة الفرنسية الحالية خلال أقل من سنتين، ومفادها: لكي تكون مسموعاً ينبغي أن تكون عنيفاً. هذا ما جعل المحتجين يرون في الملاكم الذي هاجم رجل الشرطة وأوسعه لكماً، بطلاً، وترجموا ذلك بالتضامن مع عائلة الملاكم الذي وضع في الحجز، بجمع ما يزيد عن مئة الف يورو، في غضون يوم واحد، في صندوق ساهم فيه حوالي 8 آلاف مانح فقير، وكان سيتضاعف المبلغ لولا سارعت السلطات إلى إغلاق الصندوق في اليوم التالي على 146 ألف يورو. وقد قال أحد وزراء حكومة ماكرون، عن هذه المبادرة التي تعكس مستوى النقمة لدى المحتجين، إنها "مقززة ومهينة"، لأنها تنطوي على قبول وتقدير للعنف، يجب أن نقرأ هنا "العنف غير الرسمي". وفي تذكير بالاستقطاب السوري الحاد، بادر فرنسيون "مرتاحون"، رداً على ذلك، إلى فتح صندوق للتضامن مع مصابي رجال الشرطة، وسرعان ما جمع الصندوق حوالي مليون يورو. في كل حال، الواقع أنه لا استجابة الحكومة الفرنسية لبعض المطالب أرضت المتظاهرين، ولا "الحوار الوطني الواسع" الذي اقترحه الرئيس، فتح لهم أملاً يميل بهم إلى الهدوء والانتظار. تقول الحركة الصفراء في فرنسا إن النظام الديموقراطي التمثيلي وتوافر الحريات العامة ووجود مستوى جيد من الضمان الاجتماعي، لا يشكل ضمانة للشعب من الإفقار والتهميش الاقتصادي. أكثر من ربع أصحاب السترات الصفراء هم من العاطلين عن العمل، والغالبية هم من الفقراء ممن لا يحصلون على الحد الأدنى من الأجر. العلاقة بين الديموقراطية السياسية وتحسين مستوى معيشة الناس أو الحفاظ على مستوى مقبول من العدالة الاجتماعية، ليست إذن علاقة خطية. يخرج الفرنسيون اليوم ضد الإفقار الذي يعبر عن نفسه بتراجع القدرة الشرائية، الشرارة الأولى للحركة الصفراء تسبب بها فرض رسوم على المحروقات، كان من المقرر بدء العمل بها مع مطلع العام الحالي. فيما خرج السوريون في 2011 ضد القمع، وكان المحرك الأول لخروجهم إلى الشوارع حادثة قمع طلاب كتبوا عبارات سياسية على جدران مدرستهم في درعا. على هذا يمكن القول إن الحراك الفرنسي اقتصادي المنشأ، أما الحراك السوري فمن منشأ سياسي. البارز في الحركة الفرنسية هو تركز الاحتجاج ضد تمركز الثروة وأشكال التهرب الضريبي، ولا يمكن فهم إصرار المحتجين على إعادة فرض الضريبة على الثروة المنقولة (ISF)، رغم أن مردودها على الخزينة ضعيف نسبياً، إلا بوصفه مطلباً معنوياً أو رمزياً يحدد انحياز وهوية الحكومة، إذ طالما اعتبرت حكومة ماكرون حكومة كبار الأغنياء. يبدو، والحال كذلك، أن احتجاجات السترات الصفراء تتحرك في مستوى لا سياسي، في مستوى تحت أو فوق سياسي، وهذا ما يجعلها على تنافر مع كل المستوى السياسي الفرنسي. وهي بوصفها كذلك، تشكل حركة ضغط وتفجير أكثر من كونها ثورة، لأنها لا تمتلك تصوراً سياسياً متكاملاً من شأنه أن يحقق المطالب التي ترفعها الحركة نفسها. وفي الوقت نفسه، لن يكون من السهل على الحكومة الفرنسية امتصاص هذه الموجة الثورية. والحق أن مبادرة ماكرون في الحوار الوطني الواسع لا تختلف كثيراً عن مبادرة بشار الأسد في استقبال وفود من كل المناطق والمحافظات والاستماع إليهم في بداية الثورة السورية. في الحالتين هناك تحايل وتشتيت. الأول يناور حول ما لا يستطيع فعله، والثاني يناور حول ما لا يريد فعله. بالمقابل تركزت الحركة السورية على الحرية والكرامة، وكانت الصرخة الأولى ضد "الذل"، ليس كمنتوج للفقر الاقتصادي بل كمنتوج للفقر السياسي بالأحرى. وقد ألح السوريون على هذا التمييز حين ردوا على زيادة الرواتب، التي أعلنها النظام مبكراً، بالقول "الشعب السوري مو جوعان"، فيما رد الفرنسيون على زيادة الحد الأدنى للأجور بالقول إنها لا تكفي. الجوع السياسي طغى على الجوع الاقتصادي عند السوريين، في حين لم يجد الفرنسيون في الشبع السياسي ما يغنيهم عن الجوع الاقتصادي. تركزت الحركة السورية ضد الاحتكار السياسي والمطالبة بالديموقراطية و"إعادة السياسية إلى المجتمع"، الشيء الذي لا يحمل أي معنى من منظور الحركة الفرنسية الصفراء اليوم. على العكس، فإن هذه الحركة أظهرت أن الأحزاب الفرنسية جميعاً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ما هي إلا صمامات أمان ضد التغيير الذي يصب في مصلحة الفقراء، وأن الصراعات السياسية التي تجد حلها في الانتخابات التمثيلية (النزيهة والحرة) ليست سوى مناقلات سطحية تبقي من هم فوق فوق ومن هم تحت تحت. هذه الرائحة الفوضوية لدى الحركة تخيف الطبقة السياسية الفرنسية التي انقسمت إلى فئة تهاجم الحركة وأخرى تتملقها. منذ الأسبوع الأول تقدم أصحاب السترات الصفراء بمطالب محددة وصلت إلى 42 مطلباً، تتقدمها مطالب اقتصادية. فهم يقفزون فوق الأحزاب ويقولون لا يهمنا آلية إنتاج السلطة، أو من يصل ومن يسقط، يهمنا أن نأخذ نصيباً عادلاً من عملنا، ويهمنا أن يتم توزيع الثروة بحيث لا يبقى هناك من ينامون في الشوارع (المطلب الأول). هذا النوع من التضامن في توزيع الثروة هو ما يعتبره الفرنسيون الترجمة العملية للكلمة الثالثة من شعار الجمهورية "حرية، مساواة، أخوة"، وهو ما دفع ناشطي السترات الصفراء إلى استبدال كلمة "الأخوة" بكلمة "الفلاش بول" (القذائف المطاطية التي استخدمت ضد المتظاهرين وتسببت بأضرار جسدية وإعاقات دائمة لعشرات المتظاهرين) في لوحة رسام الشوارع الأمريكي شيبارد فيري التي تجسد صورة ماريان محاطة بالزهور وحولها الكلمات الثلاث، وهي اللوحة التي اختارها ماكرون لتكون في مكتبه في قصر الاليزية. مع تقدم الوقت بالحركة الصفراء (عشرة أسابيع) بات التركيز يقتصر على مطلبين أساسيين هما فرض ضريبة على الثروة لا يستثني العمالقة الرقميين (غوغل، أمازون، فيسبوك، أبل)، واستفتاء بمبادرة المواطنين (RIC)، مع مطلب ثالث يصر عليه جزء من الحراك وهو استقالة الرئيس. ومن المشكوك فيه أن تزول أسباب تفجر الحراك الأصفر حتى لو تمت تلبية المطالب هذه، ذلك لأن الحركة هي تعبير، محق بلا شك، عن الضيق بقيود الرأسمالية النيوليبرالية التي لا تمتلك الحكومة، ولا الحركة نفسها، القدرة على تخطيها. آلية عمل النظام السوري، وأمثاله، هي آلية طارده للسياسي، أي تسعى إلى حل "مشاكله" مع الناس بطريقة لا سياسية، إما اقتصادياً عبر الرشوة إذا أمكن ذلك، أو أمنياً وعسكرياً حين يستعصي الأمر. وهكذا فقد شتت النظام السوري سياسية ثورة 2011، وعالجها على مستوى أمني وعسكري. أما النظام السياسي الفرنسي، فإنه، على العكس، يحاول شد الحركة الصفراء إلى الساحة السياسية، التي هي ساحة أمان النظام وملعبه، دون أن يفلح حتى اليوم، ذلك أن الحركة ما زالت تصر على طابعها الشعبي وتقاوم التأطير السياسي وترى فيه مقتلها. وهكذا فإن التدمير العسكري للحراك السوري، من المرجح أن يقابله على الجانب الفرنسي استيعاب سياسي إذا ما تأطرت الحركة سياسياً، أو تماوت للحركة بسبب تراجع التأييد العام تحت تأثير تنازلات من المتوقع أن تقدم عليها الحكومة في نهاية الحوار الوطني في منتصف آذار القادم، وبفعل "العطالة الاجتماعية"، حين تتقادم الحركة دون توسع.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السترات الصفراء، بين الشعب والمؤسسة
-
أفعال مشينة
-
مراجعة في الثورة
-
الحرب في إدلب، لا عزاء للسوريين
-
الطائفية و-الرماد الثقيل-
-
اللجوء بوصفه تهمة
-
متحف للدم الحار
-
أخرج من سوريا كي أعود إليها
-
مواطنون وأعداء
-
فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 2
-
فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 1
-
أسئلة عن الثورة السورية
-
حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 4
-
حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 3
-
حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 2
-
حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 1
-
تمرد المرأة السورية على الأطر السياسية الذكورية
-
جرائم شرف في الثورة
-
نجاحات ومخاطر في السودان
-
الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 8
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|