|
مرأة كان اسمها ميسون *
سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1539 - 2006 / 5 / 3 - 12:01
المحور:
الادب والفن
في ضاحية من ضواحي بغداد الشمالية ، وفي ساعة باكرة من صباح مشرق ، زاهٍ ، هبت ريح شمالية رخية ، محملة برائحة البارود على إثر ليلة ظلماء ، شهد معارك ضارية ، اشترك فيها العشرات من المقاتلين الملثمين وغير الملثمين ، وتطاير فيها رصاص كثيف ، تساقط على واجهات الدور ، مخترقا زجاج شبابيك بعضها ، تلك الشبابيك التي اهتزت من قبل على إثر انفجارات رهيبة ، مدوية ، كانت أصواتها تأتي من كل صوب ، لتنزل الرعب والخوف في قلوب من سكن تلك البيوت ، خاصة النسوة اللائي اعتدن الجلوس طوال ساعات الليل والنهار فيها ، ومنذ أن تكرست حالة المكوث هذه طوال سنوات ثلاثة خلت ، وعلى العكس من ميسون التي لم تكن واحدة من هؤلاء النساء في مكوثهن الطويل هذا ، فقد اعتادت هي على الخروج من بيت أهلها الذي تحول الى زنزانة بفعل تلك المعارك ، والتوجه صوب العمل في إحدى دوائر الدولة ، تلك الدائرة التي تعلقت بها كثيرا ، لا لشيء إلا لأنها كانت تحب عملها ، وتحرص على مزاولته بين رفقة من موظفين وموظفات ، كانوا وكن يقدمن أجل خدمة للناس في وطن تتصاعد فيه النيران ، ويتعالى فيه دخان السلاح . لقد أقسمت ميسون على أنها لن تغادر عملها ، ولن تغادر وطنها الذي غادره الكثيرون ، وتوزعوا في مشارق الأرض ومغاربها ، ومن هؤلاء صديقات لها غادرن العراق بعد أن اقترن برجال يعيشون في بلدان أخرى ، ولكنها ، مع ذلك ، مازالت مصرة للآن على قرارها في عدم المغادرة . لم يستطع أحد أن يعثر على السبب أو الأسباب الحقيقة التي تقف وراء قرار ميسون ذاك ، حتى حازم صديقها الوفي ، والذي طالما سألها مداعبا عن ذلك ، لم يظفر بجواب مقنع منها ، رغم إلحاحه الكثير عليها ، فهي حين تراه قد تمادى بإلحاحه ذاك تسرع ، وبأدب جم ، وبطريقة محسوبة ، الى تغيير مجرى أسئلته تلك الى جهة أخرى ، ليس لها علاقة بموضوع النقاش نفسه ، مما يضطر حازم الى اتهامها بالهروب دائما . كانت ميسون التي استيقظت صباح هذا اليوم المشرق قد استافت من تلك الريح الرخية بعضا من رائحة البارود ، وبعد ليلة رعب ، مرت ساعاتها ثقيلة ، رتيبة عليها ، ولكنها حين حدقت من خلال شباك غرفتها في الطابق الثاني من بيتهم وجدت أن الهدوء قد سكن الشوارع المحيطة به ، تلك الشوارع التي لم يتبق فيها غير أثار معارك الليلة البارحة ، ولكنها مع هذا ظلت ترسل نظرها بعيدا ، وفي كل اتجاه ! ـ لم يأت ! قالت ذلك مع نفسها . ـ ومتى يأتي ؟ لقد انتظرته سنينا طويلة ، توسلته كثيرا ، رسمت من أجله جنة في أحلام ما مرت على امرأة ، أعطيته قلبي الذي يمد الحياة في عمري ، حدقت فيه ، غير ما مرة ، بعيني الجميلتين اللتين تمناهما رجال آخرون غيره ، ركضوا ورائي لاهثين ، لكنني ما عرتهم اهتماما ، تمسكت به ، قبلت له عذرا ، وعذرين ، وثلاثة ، ولكنه لم يأت ! ـ قال : إن أمه ترفض مجيئه ، ولا تريده أن يأتي ، لقد خيرته بيني ، وبينها ، فهو أما لها ، وأما لي ، فكان لها في نهاية المطاف ، وحسمت أمري أنا الأخرى ، وصممت على نسيانه هذه المرة ، متشبثة بشجاعة قلب امرأة ملت الانتظار ، واحترقت بنيران سقره التي لا ترحم . كان شباك غرفة ميسون ، الذي طالما رمت نظراتها منه ، يطل على حديقة الدار ، وعلى الشارع كذلك ، ولهذا كانت في عجب مما تراه أحيانا ، فكثير ما كانت ترى طيورا تسبح في سماء من الألفة والحب ، ولكنها في الوقت نفسه كانت ترى بشرا يسبحون في خضم من دماء تسيل ، يزكم الأنوف بنتن رواح باروده ، ويدمي القلوب بكراهة منظره . لقد كان هذا الموت المتصل هو ذاته الذي يشد خطاها خوفا من المجهول ، وذلك حين كانت تحث أقدامها الغضة في تلك الدروب المخيفة التي عادت سكنا لشياطين الأرض الذين يظهرون فجأة ، ليغيبوا بعد دقائق ، وفجأة كذلك ، ومع كل ذلك فهي ما تزال على عهدها : ـ لن أغادر ! سأظل هنا ، فبغداد رغم كل شيء تظل جميلة ، زاهية . تظل ترنو بعيون شمس الى دجلة ، وهو يروي لها قصص غزاة كثيرون عبروه ، فذهبوا جمعيا ، وظلت هي ، وهو صنوين لا يفترقان . ـ حين يرحل دجلة عن بغداد سأرحل أنا ! ـ أية امرأة عصية أنت ؟ رد حازم صديقها الوفي الذي كانت تبوح له بالكثير من أسرارها المتواضعة ، فهي لا تجد حرجا مثلا في أن تخبره عن مداعبات البعض لها . أو مشاكسة بعض الصديقات ، وقلة وفائهن معها . لقد بات ميسون تثق بحازم ثقة مطلقة ، وغالبا ما داهمها هاجس ميل حب نحوه ، فلقد صارت تتمناه زوجا لها ، فهو واحد من أولئك الرجال الذين يستطيعون هزها من الداخل ، ويوقدون فيها مشاعر حب فياضة ، ولهذا فقد سارعت ذات مرة على إبداء موافقة عجلة على مقترح غريب له ، وذلك حين أصر على تبديل اسمها من ميسون الى ميس ، والذي ألقى الاقتراح ذاك في خلد حازم هو القوام الجميل ، الممشوق لها ، فهي مياسة مثل غصن بان تداعبه ريح شمالية عذبة كانت تمر على بغداد صباحا . ولهذا ، وبعد أن حل فيها مقترح حازم محل قبول صارت هي ترد عليه حالا كلما نادها باسمها الجديد ، ومن ساعتها أيقن حازم أنها تميل إليه بشكل أو بآخر ، رغم أنها كانت للتو قد مرت بتجربة حب فاشلة ، مثلما مرّ هو بتلك التجربة الفاشلة من قبل كذلك ، وبسبب من هذه التجارب الفاشلة طالما كان حازم يكرر كثيرا على مسامع ميس قوله : ـ في هذه الأيام يتوجب على الإنسان أن يحب بعقله ، وليس بعاطفته ، فزمن العواطف قد انتهى ، والظرف الاجتماعي الذي خلق حب العواطف قد ولى مع ليلى وقيس ، لقد تبدلت الحياة التي كانت تمنح الرجل أو المرأة فرصة واحدة للحب في عزلة اجتماعية قليلا ما كانت المرأة تُشاهد فيها . أما اليوم ، وفي ظل المشاركة الفاعلة للمرأة في حياة العمل ، فقد صارت هناك أكثر من فرصة أمامها ، وأمام الرجل كي يختارا بعناية شريكا لهما ، رغم أن هذا الاختيار قد ينجح أو قد يفشل ، فلا أحدا يعيش في عقل الآخر ، ولكن حسن التقدير قد يؤدي الى نجاح دائم . لم يكن حازم على يقين أكيد من أن ميسا كانت تصغي اليه ، وهو يتحدث لها عن فلسفة الحب هذه ، رغم أنه كان على هذا اليقين في ميلها الأكيد نحوه ، ولكنها ، ومع صراحتها في الحديث معه في أحيان ، كانت تخفي مشاعرها عنه في أحيان أخرى ، هذا مع أنها سمعت منه ، أكثر من مرة ، أن من حق الرجل والمرأة أن يمرا بتجربة حب أخرى في حالة فشلهما في التجربة الأولى ، رغم علم حازم الأكيد في أن التقاليد الاجتماعية المتخلفة كانت تقف بوجه المرأة دون الرجل دائما في خطوة مثل هذه الخطوة ، فالرجل يُباح له أن يتعشق هذه وتلك من النساء ، أما المرأة في المجتمع الشرقي فلا يُباح لها ذلك ، وقد يعتبرها البعض ـ في حالة كهذا ـ امرأة لا تستحق أن يتزوجها أحد من الناس ، هذا في وقت يتزوجون هم فيه نساء مطلقات ، أو نساء فقدن أزواجهن بسبب الحروب الكثيرة التي يشهدها هذا الشرق باستمرار ، حتى بلغ الحال فيه أن تجد رجلا قد تزوج من زوجة أخيه المتوفي ! مثل هذا الحديث وغيره طالما سمعته ميس عن لسان حازم ، وكثير ما اعتبرته لسانا غريبا ، يتحدث بلغة غريبة ، لم تسمعها من أحد قبله ، فهي مازالت قليلة التجربة ، لا تتعدى معارفها في الحب عن أحلام ترسمها ، وهي تجلس في غرفتها على سريها الذي يقابل سرير أختها ، شريكتها في تلك الغرفة الجميلة التي تزهو بستائر شبابيكها ، وبعض الصور والمناظر التي تعلقت على جدرها ، وجهاز الكمبيوتر ، نافذتها الوحيدة على هذا العالم الفسيح في زمن الموت والبارود . لكن حازما كان يرى أن ما يزين تلك الغرفة ، وما يجعلها مشرقة أبدا ، هو تلك الابتسامة الفاترة التي تنساب مثل سحر من شفتي ميس الرقيقتين ، الناعمتين ، أو تلك العيون الضاحكة بهدوئها الأبدي ، والمتطلعة الى الحب أبدا ، أو تلك الخدود الطافحة التي تخجل دونها خدود التفاح ، كل شيء فيها جميل ، حتى نفسها التي انطوت على شيء عظيم من السماحة ، وحسن المعشر ، مثلما انطوت على رقة كرقة القوارير ، ولهذا طالما صاحت بحازم ، وهو يداعبها متغزلا : ـ يا حازم ! رفقا بالقوارير ! لقد كان حازم يدرك أن ميسا كانت على قدر كبير من الانوثة المفرطة ، وعلى قدر كبير من الرهافة الحسية ، مثلما هي على ذلك القدر من شبق روحي جارف ، عاصف ، تمنت معه ، وهي تصغي باهتمام الى مداعبات حازم المثيرة ، أن تلقي بنفسها عليه ، لتبل في نفسها ظمأ سنين طوال . = = = = = = = = = = = = * قصة قصيرة .
#سهر_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في رسالة إزاحة الجعفري !
-
نحو حكومة إنقاذ وطني !
-
ما بعد الجعفري !
-
حرب الأسماء في العراق !
-
عند ضفاف المعدمين !
-
النهج الأمريكي الجديد !
-
إبن فضلان والعودة الى بغداد !
-
الشيطانان يلتقيان !
-
قصيدتان : السؤال وغزل
-
الشهواني يلوح بحظر منظمة بدر كمنظمة إرهابية !
-
العراق والحرب الأهلية !
-
الجعفري عاد من تركيا دونما توديع !
-
انتصرت أمريكا وخسرت إيران !
-
مضحك من مضحكات الوضع في العراق !
-
القراصنة (Vikingarna )
-
فرق الموت الصولاغية !
-
إيران بدأت زج الشيعة العراقيين في معركتها مع الغرب !
-
الأخبار في طوق الحمامة 3
-
الجعفري بمشيئة إيران الى رئاسة الحكومة في العراق ثانية !
-
الأخبار في طوق الحمامة 2
المزيد.....
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|