|
بعض ملامح السينما الإيرانية ضمن السياق المسموح
جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي
(Bashara Jawad)
الحوار المتمدن-العدد: 6234 - 2019 / 5 / 19 - 16:37
المحور:
الادب والفن
بعض ملامح السينما الإيرانية ضمن السياق المسموح
إعداد وترجمة د. جواد بشارة
كانت هناك ملامح هوية واضحة للسينما الإيرانية في عهد الشاه قبل الثورة الإسلامية عام 1979، ومن بين ابرز الأسماء لجيل السينمائيين في تلك الحقبة عباس كيارستمي وكيميئي ، حيث كان الشباب يواجه تحدي الانخراط في الحداثة والعصرنة أو التمسك بالتقاليد ، عندما كان نظام الشاه يسعى بالقوة لفرض نمط الحياة الغربية في إيران ، وكان ذلك هو الموضوع الأثير لدى العديد من السينمائيين.
بدأ المخرج كيمئي تجربته كمخرج سينمائي في عهد الشاه البهلوي أيضاً. وأبطاله يعكسون للمشاهد صورة عن الإيراني التقليدي المقتنع بعدالة وصحة إيمانه الإسلامي الشيعي ، وهي الصورة التي حاولت السلطة السابقة والنظام السابق محوها من الوعي الجمعي وإستئصالها من اللاشعور المجتمعي، فتعين على السينمائي أن يتحايل على الواقع لتجنب تعريض أفلامه للرقابة والمنع. وبالرغم من تلك الصعوبات الرقابية والبوليسية نجح في تمرير رسائله لقطاع واسع من الجمهور الإيراني والعالمي مما حاز على تقدير الجميع . كانت رسائل هذا المخرج الرمزية والمواربة في التعبير والتي تصب في نفس سياق منظرين آيديولوجيين تركا بصماتهما على أجيال كاملة من الشباب الإيراني . أولهم الشيوعي السابق وعالم الاجتماع جلال الأحمد الذي نشر كتابه المتميز المتغرب l’Occidentaliste، وهو عنوان يشير بجلاء للحداثة القادمة من الغرب كنوع من المرض الذي يقود الشعب لخسارة وفقدان هويته الأصيلة. لذا "يجب العودة إلى ما نحن عليه ، إلى أصالتنا وطبيعتنا"، كما كان ينادي علي شريعتي الذي استأنف أطروحة ومقاربة أسلافه وعمقها . وفي أثره النظري والتنظيري ، يحتل الإسلام موقعاً متميزاً لكنه ليس الإسلام التقليدي بل الإسلام كحركة فكرية ذات منحى اجتماعي. ويمكننا القول أن علي شريعتي كان منظراً لــ" إسلام ماركسي" يبحث عن مجتمع إسلامي مثالي ،الجميع فيه متساوون ، لذلك اقترح شريعتي إسلام ثوري معارض واحتجاجي مبني على "الجهاد والشهادة. ينظر شريعتي للعالم كمكان لصراع الخير والشر إذ أن هذه الثنائية المتصارعة هي الأساس للفكر الديني الذي يقول أن تاريخ البشرية بدأ بحرب بين ولدي آدم هابيل وقابيل وقتل أحدهما الآخر. وتقول الأسطورة أن السبب وراء هذا التنافس والصراع كانت إمرأة ، ونوع القربان المقدم من كليهما إلى لله . فقابيل كان عاشقاً لخطيبة أخيه هابيل ولحسم الموقف بينهما طلب الله من كليهما تقديم قربان قبل التحكيم بينهما، فجلب قابيل المزارع حفنة من محصوله من القمح في حين جلب هابيل الراعي أجمل بعير لديه وهو الجمل الأصهب. وعندما فشل قابيل في إفتان الرب وخسر المباراة للحصول على رضا الله ودعمه ، قام بقتل أخيه غيرة منه. فالمخرج كيميئي ، المتأثر بفكر شريعتي، قدم المجتمع الإيراني بتلك الطريقة المانوية الثنوية التي يتصارع داخلها الحداثة والتقليد . ويرى السينمائي كما لو إنه عالم دين أن " المال" والمرأة" يقفان خلف كافة المواجهات والصراعات بين الخير والشر. بدأ هذا المخرج تجربته السينمائية بفيلم " جاء الغريب" سنة 1968 حيث توحي قصة فيلمه كمرجعية، ما حدث بين قابيل وهابيل في الأسطورة التوراتية، حيث يعشق شقيقان نفس المرأة وفي النهاية يضحي أحدهما بنفسه وينتحر . وبعد بضع سنوات يعود المخرج لنفس الثيمة بفيلم عنوانه " غزال" سنة 1976 وهو اسم بطلة الفيلم، وفي نفس الوقت يمثل هذا الاسم رمزاً في الشعر الصوفي الذي يتبنى فيه الشاعر الصوفي لغة مرمزة أو رمزية لتجسيد الحب السماوي عبر صورة المحبوب. يندفع المخرج بمتعة في عرض رؤية هؤلاء الشعراء الصوفيين حيث أن بطلته، ليس فقط أنها لا تمثل هذا الحب المقدس فحسب، بل وأيضاً تعرض للخطر الحب الإلهي المقدس، أي الحب النقي الموجود بين الشقيقين . كانا يعيشان في وئام وسعادة حتى ظهور تلك المرأة التي يقعان في حبها وهي مومس لا تتردد في أن تقسم نفسها بينهما وتضاجعهما معاً ومع الوقت وتصاعد الغيرة تضطرب وتتدهور العلاقة بين الشقيقين فيقرران قتلها ، وما يلفت النظر هو تلك القلادة على شكل صليب التي تضعها المرأة حول عنقها وهي علامة أو إشارة رمزية للخارج، للغرب الذي تكون فيه الديانة الغالبة هي المسيحية ، وهو هنا يضع على قدم المساواة الإنحراف والتغرب أو نمط الحياة والثقافة الغربية . تميز فيلم " القيصر" لعباس كيارستمي الذي أخرجه سنة 1969 باتخاذه الموقف المناويء للعصرنة والحداثة الغربية والتمسك بطريق الإسلام المجتمعي الذي كان يحمل لواء المعارضة السياسية والدينية المجتمعية الشيعية وهي الآيديولوجية التي قادت إلى انتصار الثورة الإسلامية بعد عقد من الزمن. اشتهر عباس كيارستمي في بلده بموقفه المعارض لنظام الشاه من خلال التعبير السينمائي وبلغة سينمائية شفافة ومهذبة لكنها صريحة أحياناً، ومن خلال الرموز أحياناً أخرى. لقد تبنى التقاليد في مقابل الحداثة الغربية التي اعتبرها بمثابة مرض مستورد وكان لمثل هذه المواقف تأثير كبير على أحداث سنة 1979. وفي تسعينات القرن الماضي أخرج كيارستمي ثلاثيته الشهيرة التي جعلته معروفاً على الصعيد العالمي خاصة بعد تبنيه جمالية ولغة سينمائية شخصية متميزة أبعدته عن الآيديولوجية السائدة التي بثها الإسلام السياسي الشعبوي . وكان عباس كيارستمي يرنو لإسلام معرفي وعلمي مشبع بالشعرية الصوفية التي وسمت إنتاجه فيلماً بعد الآخر. بحثاً عن هوية متجذرة في الكنز الثقافي المتعدد الثقافات . يتحدث فيلم " القيصر" عن قصة شقيقين يمثلان الجيل الجديد ، واللذين تنتحر شقيقتهما في بداية الفيلم في أعقاب تعرضها للاغتصاب. عمهما يمثل الجيل القديم ، والذي كان في شبابه بطلاً شعبياً ، بنتمي للفرسان وهي الصفة التي تعرف بالفارسية " داش Dash" والحال أن هذا العم هو الذي يحاول ردعهما عن تنفيذ فعل الانتقام وترك الشرطة والقانون يهتمان بالقضية. فهذه الشخصية، بالنسبة للمخرج، ترمز لجيل تخلى عن ماضيه المشرف والمجيد بقبوله الخضوع والاستسلام للقواعد الجديدة للمجتمع السائر في طريق الحداثة والعصرنة في بلد تسود فيه سلطة البوليس والدولة ، وبالتالي يتعين على الجيل الشاب أن يثور ضد خنوع وسلبية الشعب وبالتالي يقوم الشباب، من خلال عملهم البطولي والثوري، بفتح الطريق للعودة إلى الماضي المشرف . فعندما كان " القيصر" بطل الفيلم والشقيق الأكبر ، مسافراً، ينطلق الشقيق الصغر في مهمة أخذ ثأر الأخت المنتحرة الضحية. لكنه يطعن من الخلف على يد شقيقي المغتصب . وعند عودة القيصر من السفر يقتل قاتلي شقيقه قبل أن يواصل البحث عن المغتصب للنيل منه والانتقام لشقيقته فيطارد المغتصب في مخزن مهجور يحتوي على قطارات صدئة ومهجورة. يتصارع الرجلان بالسكاكين وينجح القيصر في قتل المغتصب ويجرح بدوره ، يحاول الهرب لكن الشرطة كانت تطارده وتحاصره وتطلق عليه النيران فيقتل بدوره في إحدى القاطرات ، وهنا في هذا الفيلم " القيصر" يضع المخرج رجال الشرطة في نفس مستوى أعداء البطل باعتبارهم رمزاً للشر . وهو أحد الأفلام الإيرانية النادرة في تاريخ السينما الإيرانية الذي يندد بصراحة وبلا مواربة بالسلطة القائمة. وليس اعتباطاً أو عبثاً اختيار المخرج مكاناً لموت بطله " مقبرة لقطارات مهجورة، وهي آلات ترمز للحداثة والتقدم الصناعي ، فالمخرج يجعل من تلك القطارات العاطلة الصدئة التي لاتتحرك رمزاً للمجتمع الإيراني الساكن والمشلول ، الجامد والخامل بلا حركة. في فيلم " القيصر" تكون المرأة هي السبب في صراع الخير والشر . فشقيقة الشخصيتين الذكوريتين لاتتعرض للاغتصاب في مكان مجهول وبلا مقدمات، بل في بيت صديقتها التي كانت تدرس عندها وتحل واجباتها المدرسية ، ويركز المخرج على هذه الناحية من الفيلم وفي لحظة الاغتصاب يوجه عدسة الكاميرا في لقطة قريبة للكتاب المدرسي للفتاة ، وكأنه بتركيزه المتعمد هذا يريد أن يقول موقفه السلبي من مسألة تعليم الفتيات حيث تتسبب الدراسة والواجبات والثقافة في فقدانها لعذريتها . ويستمر كيميئي في هذا النهج الذي يعتبر المرأة سبب الشر من خلال عدة قصص سينمائية . وكانت الموضوع الأثير والوحيد لفيلم " داش آكول Dash Akol" سنة 1971 وهو إعداد لقصة قصيرة للكاتب صادق هدايت حيث نشاهد التدهور التدريجي المتواصل حتى الموت لفارس عجوز يقع في حب فتاة شابة. قام كيميئي كذلك بقتل المثقف الحداثي المعاصر رمزياً من خلال إدانته في أفلامه وخاصة في فيلم " رضا سائق الدراجة" الذي أخرجه سنة 1970 بطريقة كاريكاتورية ساخرة حيث يدين المخرج كاتباً يؤلف كتاباً سيكولوجياً في علم النفس ويعمل في مستشفى للتحليل النفسي ، حيث يعرض عجز المثقفين الذي يدعون قدرتهم على تغيير العالم ، وعدم قدرتهم أو عجزهم عن أخذ المبادرة والتحرك الفعلي . وهذا الموضوع عولج من قبل هذا المخرج على نحو عنيف في فيلمه المعنون " الطائرات الورقية" الذي أخرجه سنة 1975 . وفي هذا الفيلم البالغ التعقيد والثراء الجمالي في رسم لوحة عن المجتمع الإيراني المعاصر، يبرز المثقف إلى جانب بطل الفيلم الذي يحمل اسم " سيد" كناية عن أحد أحفاد نسل النبي محمد وهم طبقة أو فئة" السادة" والذي اختزلته الحداثة وضغطته وحولته إلى مجرد مستهلك للمخدرات . وفي سعيه لتشخيص داء الحداثة والعصرنة الذي أدخله نظام الشاه إلى المجتمع الإيراني، يستمر المخرج كيميئي في نفس سياق فلسفة وآيديولوجية علي شريعتي التي يتبناها المخرج عندما يدين في سينماه مضار ومخاطر المال والتملك. ففي قصة قابيل وهابيل يحاول هذا المنظر الإسلامي ــ الماركسي، تثبيت بديهية تبعات وتداعيات هذا التمييز الجوهري : هابيل راعي وقابيل مزارع . النشاط الزراعي ينطوي على الملكية فالانسان مع الزراعة بحاجة إلى أن يحوز على جزء من الأرض في حين أن مهنة الرعيد تنطوي على شكل من أشكال الحرية وعد الاستقرار في مكان واحد حيث يكون الإنسان في وضع المعادل أو المساوي في مواجهة الطبيعية فقابيل مالك أرض ما يعني العبودية واستغلال الآخرين ومن ذلك يستنتج شريعتي أنه منذ ظهور البشر في الطبيعة بدأ الصراع بين أرباب العمل والبروليتاريا وهو نفس تفكير وموقف هذا السينمائي فنسل هابيل هم المستضعفون الذي يستغلهم أبناء ونسل قابيل هم أصل الطبقة الاجتماعية الثرية المحمية من قبل الدولة والنظام القائم على حساب الضعفاء والفقراء والمسحوقين والمستغلين. ابتداءاً من فيلم " رضا راكب الدراجة " أصبح الفساد والرشوة والفارق بين الطبقات الإجتماعية هي المواضيع الأثيرة والأساسية لأفلام كيمينئي وكانت ميزته وعلامته الفارقة هي وضعه الأغنياء دائماً في جانب الشر ، فهم يشكلون طبقة إجتماعية مسيطرة ومهيمنة وتستأثر بثروات البلد ومتع الحياة وتعيش على النمط الغربي وتستغل الفقراء ، تنتهك وتقتل الفئات التقليدية من المجتمع . ففي فيلم " الأرض " الذي أخرجه سنة 1973 يعتمد المخرج لغة مباشرة ليتناول موضوع استغلال الأراضي من قبل الغربيين من خلال قصة شقيقين مهددين بالطرد على يد غربي والذي يسعى للإستحواز على أراضيهم بعد وفاة زوجته واستعادة أملاكه إلا أن مقاومة الشقيقين، بطلي الفيلم، ستقود إلى سلسة من أعمال العنف والتضحيات الدموية . أما فيلم " رحلة الحجر" الذي أخرجه سنة 1978 فيروي قصة ثورة جماعية ضد مالك طاحونة استغلالي . وهي شخصية تستغل سكان المنطقة ويعيش في بيت يعرف بــ " البيت الأبيض" وهي ليست مصادفة، حيث تنتظم المقاومة حول شخية بطل متأثر بالإمام الحسين وشهداء كربلاء وتؤدي مقاومة السكان وبطولاتهم التي يشحذها إيمانهم بعدالة قضيتهم إلى تدمير هذين الرمزين ، أي مالك الطاحونه وبيته الأبيض . يعكس الفيلم الروحية الثورية لتلك الفترة وهو آخر أفلامه قبل الثورة الإسلامية بعام واحد التي حدثت سنة 1979. تبدو القصة وكأنها إعادة مستمرة لثيمة الصراع بين الخير والشر لكن شريعتي يرفض القدرية في الموضوع ويستشهد دائماً بثورة الإمام الثالث للشيعة وهو الإمام الحسين وصحبه وهو حفيد النبي محمد ، الذي رفض الانصياع والاستسلام للخليفة الأموي الفاسد ومضى إلى النهاية نحو الاستشهاد الذي بات هو رمزه، وناشد بطل الفيلم الشعب لمواصلة النضال حتى الشهادة أو النصر ، لذلك لا يؤيد شريعتي طقوس عاشوراء باعتبارها أيام حداد وحزن ويحث الشعب على الثورة ضد الظلم وغياب العدالة باسم الثأر لدم الحسين وهذا هو الرمز الذي يتجدد بأشكال ووجوه مختلفة في سينما كيمنئي الذي يلجأ إلى العناصر المؤسسة للمشهد الشيعي المعروفة باسم " التعازي" الحسينية. فأبطال كيمنئي متمردون يثورون ضد الواقع المفروض عليهم وكلهم عنيفين ويبررون العنف والقسوة .لكنه يقدمهم كونهم ضحايا الظلم، ويضعهم في أوضاع وجودية لا خيار لهم فيها سوى الدفاع عن النفس بكافة السبل وعليهم أن يختاروا بين " الجبن" والشجاعة، بين الذل ورفعة النفس . وكباقي الأبطال التراجيديين يقررون المقاومة والقتال حتى يصبحوا شهداء لأنهم ليس لديهم خيار آخر إلا الرد على العنف بالعنف ويستغل المخرج هذه المظلومية لدى شخصياته ليس لإثارة استرحام المشاهدين بل ليعطي صبغة تقديسية لأفعال أبطاله حتى لو اصطبغت بالدماء والدموية. ومع هذا المخرج انتشرت نهايات مختلفة للأفلام الإيرانية بدل النهايات السعيدة الكلاسيكية. فمآسيه الفيلمية تنتهي كلها كما تتطلب التراجيديا ، بموت الأبطال. فلو لم يموت هابيل مقتولاً على يد أخيه قابيل لما أصبح شخصية مقدسة وتجسيداً للخير مقابل الشر الذي تمثل بفعل شقيقه الإجرامي. يتبع المخرج كيميئي نفس هذا المنطق . وتجد الإشارة إلى أن موت الأبطال ليس موتاً عادياً بل مصبوغ بقدسية وعدالة القضية التي يدافعون عنها ويضحون من أجلها بأرواحهم . فموتهم ليس تراجيدياً حسب التصنيف الغربي بل تضحوي لأنهم جميعهم يعون بأن بإمكانهم الإفلات من هذه القدرية أو الحتمية لو تراجعوا وتخلوا عن معركتهم لكن النصر بالنسبة لهم يكمن في التضحية بالنفس والشهادة لذلك فإن مصير أبطال كيمنئي تأخذنا نحو مفهوم الشهادة. وعلى غرار كيمنئي ، يعود كيارستمي إلى اصول وجذور ثقافته الأصيلة بحثاً عن الهوية الإسلامو ــ فارسية لكنه يضع مسافة حيال الإسلام الاحتجاجي لينغمس في الإسلام الروحي أو العرفان. فالإسلام الصوفي تمركز في قلوب الشعب الفارسي منذ قرون وفي قلب الشعر الصوفي الفارسي ليقولب حساسية وخصائص الشعب الإيراني. وعلى غرار الشعراء الذي لايستطيعون التعبير عن أنفسهم ونشر أفكارهم بصراحة وشفافية فيلجأون إلى اللغة التأويلية المشفرة أو اللغزية ، وعباس كيارستمي هو الآخر يلجأ إلى لغة سينمائية مجازية ويستعير من المتصوفة وجوههم اللغزية أو رمزية صورة الصديق والمحبوب المتسامي. ويستلهم من فناني المنمنمات حيث ترافق الصور والرسومات النصوص الشعرية . ويستعير رمز الثمالة الصوفية والهيام الصوفي والدروب الروحية حيث يغدو اللولب هو الطريق المتعرج ، ويتبنى رمزية وجمالية الحجاب والتورية ويذهب كيارستمي بعيداً في استخدام هذه الجمالية الرمزية لكي يكون على وفاق ظاهري مع قوانين المجتمع الإسلامي الحذر جداً حيال من يتلصصون ويسترقون النظر. فهذه الجمالية تتيح له أن يقترح مفهوماً للعالم والإنسان الذي يجد نبعه ومصدره في الفلسفة المعروفة بالفلسفة الشرقية والإشراقية. فالفلاسفة الإشراقيين يعتقدون بوجود كونين متميزين عن بعضهما ، العالم المحسوس والملوس الواضح، والعالم الرمزي وغير المرئي . ونلمس هنا بصمات الفلاسفة الأفلوطينيين الجدد ، مع تميز الفيلسوف الشرقي عن الفلاسفة الإغريق ، بربطه بين العالمين بعالم أو طريق ثالث هو " العالم المتخيل الحي النشط " . ولايمكن للإنسان أن يقوم باتصال مع العالم المحسوس إلا من خلال حواسه ومن ثم عبر عدة مستويات من التدريب والإعدادات الإستهلالية ، ويجسد بمخيلته الأشكال الحساسة بملكة التخيل على مستوى يتموضع مابين العوالم ، للإقتراب من واقعها الجوهري في العالم الظاهر والواضح الملموس . فهذه الفلسفة هي التي أولدت الشعر الصوفي الذي يجعل الشاعر الصوفي يعتقد بتفوق العالم المتخيل على العالم المحسوس ويتيح له الغوص في عالم من النشوة والحس ، وإن هذه الفلسفة هي التي تقود الرسامين نحو تمثل خيالي محض للعالم المحسوس. يستخدم كيارستمي " جمالية الحجاب" بطريقة فذة وبمعنى رمزي وليس المقصود حجاب المرأة الإسلامي التقليدي وإنما هو ذو تمثلات تجريدية ، فيه الغياب والحضور، لشيء ما ، والذي يأخذنا نحو عالم صوري وسينمائي تكون فيه كل صورة وكأنها تبحث عن معنى رمزي . في مجتمع تكون فيه النساء محجبات ، هناك فصل راديكالي بين العالم الذكوري والعالم الأنثوي، بين العام والخاص، بين الخارج والداخل. إن موضوع الفصل بين الجنسين هو من الموضوعات التي يحرم ويمنع الخوض فيها من قبل السلطة الإسلامية الدينية الحاكمة لذلك أصبح من المواضيع الأساسية للسينما الإيرانية الجديدة. فالنظر مقرون بالتلصص مما يخلق معضلة اختيار موضع الكاميرا وزاوية التصوير . كيارستمي من المخرجين الذين تهرب معه الكاميرا إلى الخارج في الشوارع والأزقة والطرقات والساحات مع محاولة عدم تجاوز الحدود المحرمة والممنوعة عرفياً وتقليدياً ومجتمعياً . ترفض كاميرته التوغل إلى الداخل الحميمي لكي لايظهر، على هيئة عبثية، إمرأة محجبة وهي في بيتها وفي محيطها الحميمي مع عائلتها فهذا الأمر غير موجود في الواقع. لذلك نراه يرفض التصوير في الأماكن الداخلية كنوع من الرقابة الذاتية لكن لا يشكل ذلك علامة على الخضوع والانصياع بل محاولة لإظهار المنع المفروض سلطوياً على السينما. من المحرمات الأخرى الممنوع إظهارها أو التي يمنع المجتمع التقليدي الإسلامي في السينما التطرق إليها، موضوع الحب والجنس ، وخاصة الحب بين شخصين غير متزوجين، وقد عالج كيارستمي هذه المشكلة من خلال قصة زوجين في فيلمه " والحياة تستمر الذي أخرجه سنة 1991" ومن خلال قصة حبيبين غير متزوجين في فيلم " عبر أشجار الزيتون الذي أخرجه سنة 1994" فهناك صورة للزوجين الشابين يقفان أمام بيت يرمز إلى اتحادهما وارتباطهما الجديد. وعندما يصعد الزوج السلالم للالتحاق بزوجته تبقى الكاميرا مثبتة في أسفل السلالم فيما يستمع المشاهد لحوار الشخصيات خارج الكادر. يضع كيارستمي هذا المشهد في مركز فيلمه " عبر أشجار الزيتون" حيث يغدو ما هو خارج المشهد هو المشهد في الفيلم الجاري تصويره . ففي أعلى السلالم وضع الممثلان كل واحد منهما على طرفي الكادر . الرجل واقف على اليمين والمرأة جالسة في الطرف الأيسر وهناك مسافة بين الشخصين ما يشير إلى الفصل بين الجنسين في المجتمع الإيراني. يحاول كيارستمي تحقيق حلمه كسينمائي في نهاية الفيلم في لقطة ــ مشهد طويلة عندما يغادر الشخصان المتباعدان مكانياً ، مكان التصوير ، حيث تبقى الكاميرا ثابتة تصورهما عن بعد وهما يبتعدان ويختفي الممثلان في غابة الزيتون ومن ثم يظهران من جديد من بعيد جداً كبقعتين بيضاويتين غير واضحتي المعالم وسط مشهد أو منظر طبيعي واسع ، حيث نشعر بأن البطل يلاحق البطلة. وفجأة يتوقف الرجل وتستمر المرأة تعدو ومن ثم تتوقف وتعود أدراجها نحوه، و في هذه اللحظة تندمج البقعتان البيضاويتان وتتحدان لتشكلان بقعة واحدة قبل أن تفترقان مرة أخرى . ففي سينما يمنع فيها لمس الرجل للمرأة تمكن المخرج من إيجاد حل إيحائي وحيلة سينمائية من خلال التصوير عن بعد ومع ذلك أعتبر كيارستمي أنه خرق القانون والقواعد الاجتماعية والدينية دون أن يكون ذلك على نحو صريح ، ولقد كرر كيارستمي هذه الحيلة من جديد في فيلمه " الرياح تحملنا الذي أخرجه سنة 1999" حيث لاتظهر وجوه العشاق أبداً على الشاشة في لقطة واضحة . ولقد بلغ هذا التعبير القسري عن العلاقة بين الرجل والمرأة أوجه في فيلم " شيرين الذي أخرجه سنة 2008" وهو فيلم يروي قصة " شيرين" بطلة ملحمة قديمة مليئة بالصخب والضجة والعنفوان والغضب والاندفاع حيث توجد مشاهد حسية ولمسات جنسية موحية يستحيل عرضها صراحة على الشاشة في مجتمع كالمجتمع الإيراني الإسلامي المتزمت والمنغلق. ومن المفارقات، أن هذا الفيلم عرض على الشاشة أمام متفرجات نساء مزيفات ، حيث لايرى المشاهدون الحقيقيون لقلم كيارستمي، الفيلم أو المشهد المصور، بل وجوه المتفرجات المزيفات وهن يشاهدن الفيلم ، وفي نفس الوقت وأثناء العرض يستمعن إلى شريط الصوت الذي يكشف عن مشاهد جنسية تجمع بين العاشقين و ينوه إلى أنهما يمارسان الجنس ، وهكذا يحتال المخرج كي لا يبدو كمن ينتهك القوانين، نراه وهو ينتهك القواعد الفنية المتبعة عادة في مثل هذه الأحوال حيث الغاية منها هي عرض قصة حب على الشاشة السينمائية . فلقد عرض فيلم " شيرين" في سياق مخيلة المشاهد الذي لديه حرية التخيل من خلال الإيحاءات السينمائية التي لجأ إليها المخرج. هناك أشياء أخرى يكشف عنها المخرج ، بعرض الأجساد ولكن ليس الأفكار كما هو حال بطل فيلم " لقطة مقربة كلوز آب الذي أخرجه سنة 1990" وفيلم " طعم الكرز الذي أخرجه سنة 1997" فالشخصية الرئيسية لفيلم طعم الكرز، لن يكشف أبداً عن أسباب انتحاره. ما نعرفه فقط هو أنه حفر قبره بيده، ويبحث عن شخص آخر لكي يدفنه . أما بطل فيلم " كلوز آب أو لقطة مقربة جداً " فبسبب سرقته أو انتحاله شخصية مخرج معروف قدم إلى المحكمة ، وأثناء المحاكمة، يصور المخرج بطله في لقطاته مقربة وهي التي تفسر عنوان الفيلم . فهذا الاختيار الراديكالي يرسم محاولة المخرج بتصويره شخصيته على نحو مقرب ، فهو يريد أن يتجاوز " المظهر البادي" لرجل يكون وجهه هو قناع فكره أو تفكيره. فعبر شخصياته غير الصورية التي يتعذر اختراقها يقترب كيارستمي من لوحات أو رسوم المنمنمات أو المصغرات حيث تكون الرسوم هي التمظهرات للأشكال الخيالية . ويتبنى المخرج عنصر آخر تعبيري هو النابض الشعري الحلزوني حيث يتخلى الرسامون عن البعد الثالث من خلال تبنيهم للنابض الحلزوني كشكل من أشكال تنظيم المكان المرسوم. ولهذا الشكل عدة معاني، فهو يرمز للعنب ، وبالتالي يوحي بالسكر والهيام الصوفي والنعيم الخالد ويزج بنا في المتاهة التي ترمز للدروب والمسالك الروحية. ففي هذا المضمار، وفي الإسلام بالذات، تحتوي المسالك الروحية على ثلاث مراحل: الشريعة، والطريقة، والحقيقة، والتي تتسق ، في البعد الفلسفي، مع الثالوث الوجودي: المحسوس ، والمتخيل، والواقعي . وإذا كانت الشريعة هي الجانب الظاهر للدين، فإن الطريقة، هي الجانب الخفي أو الماورائي الذي يرسم الطريق الواجب سلكه نحو معرفة الذات، في حين ترسم الحقيقة الجانب الرباني والإلهي . والإبادة هي المرحلة القصوى للمسالك الروحانية. . فوحدة الوجود هي اللحظة التي يموت فيها الكائن الفاني لكي يغدو الإنسان الكامل. فهذا الموت المقدس، الذي يدينه الإسلام لأنه يحرم الانتحار، هو المقصود والمعني في الشعر الصوفي. صديق المحبوب الأزلي، بمثابة صورة مجازية ترمز للإله المعبود والمحبوب الخالد والحب هو الشعور المعبر عن رغبة المحب أو العاشق الذي لايفعل ذلك إلا مع المحبوب الرباني أو العشق الإلهي . هذه الطريقة تقود إلى العودة للذات وهي أحد ملامح سينما كيارستمي الأساسية حيث يتعين على جميع أبطاله المرور عبر الطريق الروحي المتعرج قبل أن يمحوا أنفسهم. فمحو الذات هو ما يقترح فيلم " طعم الكرز" رؤيته من خلال الثيمة الرمزية للانتحار . فالعودة للذات هو مايميز سعي كيارستمي في ثلاثيته التي تبدأ بفيلم " أين بيت ابي 1987، ويتبعه " والحياة تستمر" وتنتهي بــ" عبر أشجار الزيتون" ومن فيلم لآخر ، يعود المخرج أدراجه ويقدم عبر الإخراج " قرينه " وهو الممثل الذي يلعب دوره كمخرج. العودة إلى الذات أو الموت المقدس هي الثيمات التي تتكرر لدى المخرجين الذين تحثنا عنهما كمثالين للسينما الإيراني الجديدة وهما كيميئي وكيارستمي فالأول يحلل ويعرض الرهانات الاجتماعية والمجتمعية بالعودة إلى الدين، فيما يأخذ الثاني موضوع الدراسة السينمائية لنفسه كمخرج ولفنه ومهنته الأول ويركز على " الشريعة"، والثاني يركز على " الطريقة" فآثارهما السينمائية تكمل بعضها البعض الأول ترسخت شعبيته قبل الثورة الإسلامية، والثاني تتساءل أفلامه حول تبعات وتداعيات وانعكاسات ونتائج تلك الثورة والتي من خلالها يمكننا تفكيك وتصفح وفك تشيفرة الحالة النفسية والروحية للشعب الإيراني الذي مايزال يبحث عن هويته ، هل هي الفارسية أم الإسلامية؟. نموذج ثالث أحدث للسينما الإيرانية الجديدة يتمثل في المخرج أصغر فرهادي وفيلمه " الزبون الذي أخرجه سنة 2016" . بعد فيلم " الماضي 2013"، و " إنفصال 2011" الذي حاز على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي كأفضل فيلم أجنبي ، عاد المخرج أصغر فرهادي إلى طهران من أجل فيلمه الروائي الطويل الأخير " الزبون" الذي حصد في مهرجان كان جائزة أفضل سيناريو وجائزة أفضل ممثل ذكر وهو الممثل شهاب حسيني. ولقد ضرب الرقم القياسي في عدد المشاهدين في إيران وبات موضوع نقاش عن القيم الأخلاقية والمجتمعية وعن هوية البلد التي قدمها وقد كرس هذا الفيلم قيمة ومكانة هذا المخرج في تيار السينما الإيرانية الجديدة. يحكي الفيلم قصة شخصين " عماد" وهو ممثل وأستاذ، و " رنا" وهي ممثلة فقط، اللذين ينتقلان إلى شقة جديدة، إثر تدهور حالة عمارتهم القديمة . وفي أحد الأيام، معتقدة أنها تفتح باب الشقة لزوجها تعرضت رنا لاعتداء رجل غريب . حاول زوجها تشخيص ومعرفة هوية المعتدي المذنب، حتى لو انزلق إلى هوس الأخذ بالثأر والانتقام. ومع هذا النص، يبدو أن الفيلم أنهى ثلاثية عن " الخطيئة" فبسبب حادث، وفعل ، وخطأ، تعيش الشخصيات حالة التدهور والتخلخل التي أصابت حياتهما وعليهما ، إما استئصال الحقيقة أو محاولة الاستمرار بحياتهما ووجودهما كما كان عليه الحال قبل الحادث، أي النسيان. فشخصية علي مصطفى، في فيلم " الماضي"، تريد ، بأي ثمن، ترديد إبنة صديقته السابقة، اعترافها ، ويجيب على ذلك شهاب حسيني في دوره ، وسعيه حتى النهاية الحصول على اعتراف المعتدي على زوجته والذي تحول إلى ما يشبه العصاب والإساءة القسرية . فهل يمكننا أن إدراج أصغر فرهادي من بين المؤلفين الأخلاقيين، ممن تنطوي آثارهم على فلسفة عن الإنسان وهفواته؟ نعم يمكننا قول ذلك بل وأكثر منه، حيث يمكن لفكرة تقول إن بضعة ثواني كافية ومبررة لتغيير حياة بأكملها. ففيلم " إنفصال" يعالج الصعوبات القائمة للتوصل إلى طلاق في إيران الأمر الذي يترتب عليه تبعات وتداعيات غير متجانسة أو لامتناسبة مترجمة بأعمال عنف لرجل ضد عاملة عنده. أصغر فرهادي يكتب ويصور ويدير ممثليه كمؤلف درامي مسرحي. فالشخصيتان الرئيسيتان يمثلان في نطاق إخراج لمسرحية " موت تاجر متجول لآرثر ميللر 1949، حيث تكون الجمل الحوارية صدى لوضعهما المأساوي المضطرب . ولقد اثبت أصغر فرهادي موهبته كسينمائي في أفلامه السابقة من خلال زوايا التصوير ووضع الكاميرا لتصوير المشاهد الداخلية ومشاهد الخصام العائلي ويستخدم فضاء حركته ــ البيت وكذلك كواليس المسرح ــ ليسجن أو يطبق على شخصياته. ويرغمها على المواجهة حيث يستخدم منذ البدء ، لقطة ــ مشهد ، معدة بعناية شديدة، لإدخال شخصيتيه أو بطليه إلى صلب الموضوع وتوضيح سبب انتقالهما وتغييرهما للبيت. ويلجأ إلى أسلوب اللقطة واللقطة المقابلة عندما ينحصر لب التمثيل في وجهيهما حيث نقرأ مشاعرهما فقط منعكسة على تعابير الوجوه مع تنوع في تلك التعابير والنبرة الجافة لكلامهما وحوارهما. وينتهي فيلم " انفصال" على مايمكن أن نقول إنه " اللامعبر عنه أو ما لا يقال، من خلال لقطات طويلة ثابتة للبطلين وهما يقومان بالمكياج قبل دخولهما لمشهد العرض المسرحي دون أن نعرف إذا كانا سيفترقان حقاً ودون أن نعرف ما إذا كانت الصغيرة إبنتهما ترميه، ستذهب للعيش مع أبوها أم مع أمها في حالة من " الانفصال". هذا النوع من الدراما يفترض وجود أخلاق معينة للمعالجة الإخراجية كي لا نسقط في فخ التغريب أو السخرية . ففي فيلم " الماضي" وقع اختيار المخرج على علي مصطفى كممثل لدور الصديق السابق للبطلة ماري ما يتيح نوع من التنفيس للمشاهد الذي يمكنه أن يتماهى مع هذه الغريبة التي وصلت للتو إلى فرنسا لحل إشكالات وقضايا قانونية ما أرغمها على التكيف مع كادر قضائي مختلف ولغة مختلفة . نفس الشيء في " انفصال" حيث المراوحة بين نادر و سيمني دون الانحياز لوجهة نظر أو الوقوف إلى جانب ، هذا الطرف أو ذاك، في هذا الثنائي المقدم على الطلاق لغاية حصرهما وجمعهما في لقطة طويلة ثابتة في النهاية بانتظار قرار القاضي فيما يتعلق بحق الحضانة للطفلة. إحدى القضايا والرهانات في فيلم " الزبون" تكمن كذلك في القدرة على التعاطف مع عماد وهو يؤدي الشخصية الغاضبة حيث تغزو الرغبة في الانتقام حياته وعمله وأدائه المسرحي وحياة أسرته وبيت الزوجية . بكتابة مقوسة ، بدون فعل حاد ولكن مع مبدأ جوهري مؤسس ، يتمثل بعملية الاعتداء على رنا، يبرز سعي البطل البحث عن الكشف ومعرفة الجاني ما يؤطر حالة التوتر لدى المشاهد وإنغماره في تعاقب الأحداث لغاية تشخيص هوية المتهم واكتشاف المذنب الحقيقي ، يحرص أصغر فرهادي على أن يلصق كاميرته بشخصياته وممثليه. وعندما يبتعدون في لقطة واسعة فإن اللقطة تستجيب لدهشة الشخصيات وعدم استقرار حالتهم النفسية . فالتصوير لا يهتم بإضفاء تسامي على بيوت عادية بل إبراز أهمية الملابس والأصباغ والألوان والنظرات ، وللمزيد من الواقعية يفضل المخرج غياب الموسيقى ويحصل التناوب من خلال المونتاج في الإيقاعات ما يوحي لحالة من الاندماج أكبر مع الحكاية المعروضة . لم ينتقد أحد أصغر فرهادي على عدم كتابته وصنعه أفلاماً سياسية أو خارج الواقع الإيراني فشخصياته تنتمي للطبقة الوسطى وتمارس مهناً فكرية وثقافية وإبداعية. وهو يعلن ذلك ويتحمل تبعاته لأنه يرى في هذه الفئة الاجتماعية الأرضية الأكثر خصوبة وملائمة لسرد حكاياته وقصصه ومواضيعه . فمسألة النظام السياسي وموضوع فرض الحجاب على النساء لايطرح نفسه على الأجيال التي ولدت بعد الثورة الإسلامية 1979. فالنساء يتحايلن على موضوع الحجاب بلبس حجابات ملونة زاهية وعلى الموضة فيما تكتفي النساء الكبيرات في السنة بحجاب أسود أو عباءة سوداء. . ففيلم " الزبون" يقلب الكليشة السائدة عن إيران حيث يمكن لفرقة مسرحية عرض مسرحية لأرثر ميللر على أمل عبور حاجز الرقابة المشددة حيث تظهر الممثلة على الخشبة بمكياجها وتنورتها القصيرة والمراهقين يمتلكون هواتف ذكية محمولة ويمكننا أن نلمس طبيعة العلاقات القائمة بين الرجال والنساء والدور الذكوري الأبوي الذي تمارسه السلطة من خلال منح الذكور السلطة على الإناث بالرغم من وجود طبقة مثقفة وواعية تحرص على إقامة علاقات حيوية في الروابط الاجتماعية وممارسة النشاط الثقافي والإبداعي في طهران وباقي المدن الإيرانية . وهذه المواضيع تكتسب أهمية إضافية في مرحلة الانفتاح الإيراني على الغرب والعكس صحيح وينعكس على نمط وقابلية السينما الإيرانية على الإفلات من الرقابة السياسية والفنية التي تعرض لها وعانى منها مخرج إيراني آخر هو جعفر باهاني . يجدر بنا ملاحظة نوع من الحشمة وضبط النفس في سينما يتم فيها تفادي المشكلات العويصة والحساسة الأهم والأخطر التي تغيب عن مجال الكاميرا حيث لا يمكن عرض عملية الاعتداء الجنسي كما حصلت بل الإيحاء بها من خلال لقطات موحية كالباب المفتوح لفترة طويلة وآثار الدم على السلالم على عكس ما هو سائد في بلدان أخرى حيث يتم عرض كل شيء وبالتفصيل وبصراحة بدون فلتر أو قناع بينما اختار أصغر فرهادي التعبير عن القطيعة وسوء الفهم والعنف بين شخصياته من خلال إخراج ضمني غير معلن ما ينبيء عن موهبة كبيرة ونادرة في نقل الأحاسيس والتعبيرات إلى الشاشة حيث يفهم المشاهد بالإشارة والرمز مايريد المخرج قوله ولا يخطيء في حدسه أو فهمه للرسالة التي يريد المخرج إيصالها. هناك مخرج آخر غير معروف في الغرب هو مجيد مجيدي ، استطاع بفكرة بسيطة وبرؤية إخراجية واقعية وبأدوات سينمائية عادية ومتواضعة وممثلين غير محترفين عدا شخصية الأب ، في فيلم " أبناء السماء" والذي يمكن أن نضع له عنوان آخر هو " قصة حذاء" تمكن من لفت انتباه العالم والمشاهد الغربي ويحصد العديد من الجوائز السينمائية عالمياً. حتى تم ترشيحه لجائزة الأوسكار سنة 1998 وانتشر الفيلم عبر شبكات التواصل الإجتماعي ويعرض في الكثير من المدارس الغربية وفي اليابان والولايات المتحدة الأمريكية والعنوان الذي اختاره المخرج يضفي مسحة ملائكية على شخصيتي الفيلم الصغيرين الشقيقين وحالتهما المزرية وهما تلميذين صغيرين ، علي وزهراء، البريئين والمطيعين لوالديهما الفقيرين . ورغم الحاجة والفقر المدقع إلا أنهما قنوعين ومخلصين ونزيهين ومتفوقين ومتفانين رغم ظروفهما المعيشية الصعبة و القاسية جداً . محور الفيلم الأساسي هو " حذاء " زهراء الذي أضاعه أخوها بعد تصليحه عند الإسكافي وكان الحذاء أحد أبطال الفيلم منذ بداية الفيلم وهو يتحرك بين يدي الإسكافي وفي ثنايا الفيلم كله خاصة في مشهد سقوطه في ساقية مياه المجاري التي تتوسط الزقاق . ثم تحول الحذاء إلى محنة وقضية شائكة للشقيقين الصغيرين فلم يبق لديهما سوى حذاء واحد بالي هو حذاء " علي" عليهما التناوب في لبسه والذهاب إلى المدرسة لأنهما في مدرستين في نفس المبنى، واحد ذات دوام صباحي والأخرى ذات دوام مسائي . الفيلم يترك أثراً كبيراً على نفسية المشاهد وألم يعتصر القلب والوجدان إلى جانب الفضول والشغف وبدرجة أقوى مما تحدثه الأفلام الميلودرامية فهو عمل إبداعي رائع رغم بساطة فكرته ومعالجتها الواقعية العميقة مما يجعل الفيلم راسخاً في ذاكرة المشاهد . الصبيين يعيشان في عائلة شبه معدمة الأم في البيت وأغلب الأوقات مريضة ، خاصة بعد ولادة طفلها الثالث ومع ذلك تعمل بجهد كبير لتلبية متطلبات البيت ورعاية العائلة كالطبخ والغسيل وغير ذلك، والأب الكادح الذي يعمل بائع للشاي للموظفين في إحدى الشركات وهو بالكاد يسد رمق العائلة ما يراكم عليه الديون لدى البقال ومالك الدار الذي يطالب بإيجاراته المتراكم غير المدفوعة ويهدد بطرد العائلة إذا لم يسددوا ديونهم. وهذا السكن ليس سوى غرفة واحد للنوم والمعيشة والطبخ والغسل والتحمم . تبدأ مَشاهدُ الفيلم من محل الإسكافي ، حيثُ ينتظر " علي " تصليحَ حذاء " زهرا " ، الوردي اللون . ولكن في طريق العودة الى البيت يفقد الحذاء لأن الزبال يأخذ مع أكياس الزبالة التي حضرها له البقال في مدخل المحل، و من هنا تبدأ دراما الفيلم التي تبهر المشاهِدَ من خلال سيناريو مكتوبٍ بحبكةٍ و حساسيةٍ عالية و ذكاءٍ شديد يفاجئ المُشاهِدَ بأمور لم تكن تخطر على البال ، قد تتسم أحياناً بالكوميديا السوداء الخفيفة . لقد أبلى الطفلان مير فرخ هاشميان بدور علي والفتاة بهاره صديقي بدور زهراء بلاءاً مدهشاً في تأدية دوريهما بعفوية عالية وكأنهما يعيشان حالة الفقر المدقع حقاً وخوفهما من افتضاح أمر ضياع حذاء زهراء الوردي، إلى جانب الممثل الإيراني المحترف الذي قام بدور الأب وهو أمير ناجي . لا ندري كيف أفلت هذا الفيلم من مقص الرقابة في النظام الإسلامي الحاكم في إيران لأن أحداثه تجري في ظل الجمهورية الإسلامية بدلالة الحجاب و المراسم الدينية الشيعية التي تظهر في الفيلم حيث يفضح الفيلم الفوارق الطبقية وانتشار الفقر بين فئات واسعة من المجتمع الإيراني وفي ظل النظام الإسلامي إلا أن الفيلم لم يتعرض صراحة للوضع السياسي أو يدين سياسة الحكومة تجاه المجتمع بل مرر رسالته هذه من خلال " قصة الحذاء" العميقة إنسانياً واجتماعياً وأدبياً وسينمائياً وبالطبع سياسياً .
#جواد_بشارة (هاشتاغ)
Bashara_Jawad#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق بين مطرقة واشنطن وسندان طهران
-
بعد الجمود والمراوحة، هل ستحدث انعطافة في الفيزياء المعاصرة
...
-
خطاب مفتوح لرئيس مجلس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي
...
-
الواقع وما حوله في الكون المرئي 2
-
الواقع وما حوله في الكون المرئي 1
-
الكون المرئي والكون المظلم
-
الأكوان الموازية 5
-
الأكوان الموازية الحلقة الرابعة
-
بورتريه تجريدية عن الله
-
الأكوان الموازية 4
-
الكون الموازي 2
-
الأكوان الموازية
-
رؤية مغايرة لقصة الكون المرئي
-
الإنسان ما له و ما عليه في الكون المرئي 4
-
الإنسان ماله وما عليه في الكون المرئي 2
-
الإنسان ما له وما عليه في الكون المرئي 2
-
عمر الكون ومعضلة الزمن 6
-
عمر الكون ومعضلة الزمن 9
-
عمر الكون ومعضلة الزمن 8
-
الإنسان ماله وما عليه في الكون المرئي 1
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|