|
النموذج الأساسي للممارسة السياسية العربية الراهنة، والتير الغائب..!
محمد عبد الشفيع عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 6228 - 2019 / 5 / 13 - 21:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ألا لماذا تبدو السياسة العربية هذه الأيام هكذا.... ؟ قد انكشفت زواياها المعتمة فإذا بها تسفر عن جسم شائه للممارسة السياسية فى الدائرتين المحلية والخارجية ..؟
لماذا؛ وقد أصبح الأمر لا يقتصر على خلل فى الإدارة السياسية الاعتيادية للأشياء و للناس، إنما يتجاوزه إلى الدخول فى دوامة (حروب بالوكالة) War by proxy بين ظهرانينا، ليس في المشرق فقط، ولكن أيضا في وادي النيل والمغرب (ابتداء من ليبيا إلى شاطىء المحيط) لمصلحة قوى الغرب الأوروبى – الأمريكى في التحليل الأخير.. ؟ وهذه الحروب بالوكالة تدور فوق ما يبدو و كأنه (أرض يباب) تقريباً (والاستعارة هى من الشاعر الإنجليزى الشهير ت.س. إليوت فى قصيدته العصماء) ..هذه الأرض اليباب، ظاهريا، تمثل كلا من القلب والأطراف المستديمة فى الجسم العربى العليل. هذا القلب و هذه الأطراف المستديمة تكون فى المشرق (مشتملاً على العراق-إضافة إلى اليمن) و وادى النيل والمغرب العربي الكبير. فى خضم إدارة حروب الوكالة تلك، على أراضى القلب والأطراف الحية، نتساءل: لماذا جمد دوران الدم فى شرايين النظم السياسية العربية إجمالا، أوْ كاد؛ فإذا بالسلطة السياسية تدور فيما يشبه الحلقة المفرغة التى وصفناها فى مقام آخر؟ حلقة مفرغة، دائرة خبيثة أو شريرة vicious circle يتم تداول السلطة فى أتونها بين أيدى العسكريين والإسلامويين والليبراليين سياسيا أو اقتصاديا ( بمن فيهم "الليبراليون العسكريون" التابعون للغرب على النمط الساداتي 1971...- أو "العسكريون الإسلاميون" على النمط السوداني بين 1989 و2019). هذا، بينما قد يقف "الشعب"- الجمهور أو "العموم" أو "الغالبية الاجتماعية الشاسعة"- متفرجاً أو "شبه متفرج"، و تتلاعب الأيدى القوية بالجميع من خلف الستار فى صفيّن : صفّ إقليمىّ بعضه عربي-إسلامي، وبعضه الآخر غاصب دخيل، ثم صفّ دولي قوامه غربي – أمريكي، ومن حوله لاعبون جدد أو قدامى متنوعون .. ذلك كله مع استثناء خاص بحركات التحرر الوطني و القومي العربي، على مثال ثورة 23 يوليو بقيادة عبد الناصر (1952-1970) ونماذج قريبة منها فى بلدان عربية قليلة و لأوقات بعينها. سلطة سياسية متنقلة إذن في مختلف بلدان الوطن العربي، تتقاذفها تلك الأيدى الموصوفة فيما قبل، وكأنها تترجم بيت الشِّعر المأخوذ مثالاً على بعض الأوزان الزاهية في بحور الشعر العربي العتيق: كُرةٌ طُرِحتْ بصوالِجةٍ ... فتلقّفها رجلٌ رجلُ
فمن يا تُرى أولئك الرجال الذين يتقاذفون السلطات تباعاً ويتلقفونها على الأرض اليباب، أرض الخصوبة الحضارية الخضراء فى الأزمنة القديمة والوسطى من عمر البشرية الكوكبي ؟ ليس هنا مقام الإجابة المفصلة على السؤال، وخاصة من زاوية "فلسفة التاريخ"، وإنما قد يكون في حيّز الممكن اليوم تقديم ما يسميه طلبة العلم بالوصف التحليلي الموجز للظاهرة السياسية. إذْ تتقاسم "اللعبة السياسية" الراهنة في بلداننا العربية تشكيلة رباعية الأضلاع، بصفة غالبة، وفق إشارة سابقة: العسكريون، و نخبة الحكم من تيار "الليبرالية الجديدة" بصفة أساسية في المجال الاقتصادي، و الليبراليون من دعاة الحريات السياسية والفكرية ولكن دون عناية واجبة بالمحتوى الاجتماعي، و أخيرا: الإسلاميون العاملون علي الاستقطاب الجماهيرى بقوة التراث، فيما يسمّى "الإسلام السياسي- أو الحركي". هذا ما يمكن أن يعتبر بمثابة "نموذج أساسي" للممارسة السياسية العربية المعاصرة، حيث يتناوب صُنّاعه أو أضلاعه مواقع التأثير والنفوذ في تسيير دفّة المجتمع، و يتداولون السلطة. غير أن من المهم الإشارة هنا إلى أن (الليبراليين دعاة الحريات ولكن بدون محتوى اجتماعي حقيقي) والذين قد يُنظر إليهم كطرف "مشاغب" فقط، حتى لو استولوا على قلوب الجماهير في لحظات معينة، لا تتم دعوتهم، في الغالب، للمساهمة في السلطة، إلاّ كلاعب هامشي، أو مشارك علي مستوى أدنى. و يتم ذلك خاصة، ربما لغرض "التخديم" علي "تبييض" وجه السلطة في أعين الجماهير، هذه السلطة التى يتحكم فيها الآخرون الثلاثة: العسكريون، و نخبة الحكم، و الإسلاميون (أو "الإسلامويون"). هذه ملاحظة أولي علي طبيعة "مربع السلطة" أو "النموذج الأساسي" للممارسة السياسية في البلدان العربية. أما الملاحظة الثانية فهي أن الأطراف الثلاثة الرئيسية المشار إليها :"العسكريتاريا"، إن صح التعبير، و نخبة الحكم، والتيار السياسي الإسلاموي، أو الإسلام السياسي بالمعنى الضيق او المحدد؛ كثيرا ما تتجه الي بناء تحالفات متغيرة لتشديد قبضة السلطة، بدفع من هذا الطرف أو ذاك. فقد يتحالف إسلاميون مع بعض من نخبة الحكم، عبر مشاركة الأوّلين، بنِسَبٍ محكومة، في المجالس التشريعية أو النيابية ( مثل حالة الأردن في معظم الأوقات، بل وحالة مصر في الانتخابات البرلمانية لعام 2005) . وقد يذهب بعض من أصحاب الإسلام السياسي إلي (تقصير الطريق)، عبر القيام بانقلاب في رأس الدولة ( مثل انقلاب 1989 في السودان). وقد يستعين أهل الحكم بالجيش كدعامة لاستقرار السلطة، أو يستعين الحاكم، من أصول عسكرية، بالجيش أو القوات المسلحة، أحيانا، للمساعدة في تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة. يبقي خارج معادلة الحكم الرباعية طرفان : أحدهما طرف قوي، وثانيهما ضعيف. فأما الطرف القوى فهو " رجل الشارع " وخاصة من جيل الشباب، الذي يلجأ، إن فاض الكيْل، الي الخروج علي عصا الحاكم في مجموعات كبيرة تصل الي حد " المواكب المليونية " لتحدّي أهل الحكم و العسكر و ربما الإسلامويين؛ جماعة أو متفرقين: (مصر أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011؛ الجزائر والسودان في فترة فبراير-مايو 2019 رغم الاختلاف بين الحالات). رجل الشارع هذا، و إن شئت فقُلْ: الحشد أو الجمهور، هو القوة التى أثبتت الأحداث العربية، وخاصة خلال العقد الأخير، أنها يمكن أن تكون قادرة علي تغيير الموازين، أو ربما وضع العصي في العجلات فحسب (أو الدواليب ) أو إرباك المشهد أحياناُ. و لكن قد يصل الأمر إلى حدّ (قلب المائدة علي رؤوس الجميع) في بعض الأحايين. إن رجل الشارع ذاك، الممثل للغالبية الاجتماعية الساحقة (80% من السكان أو أكثر)، هو المادة الحية للثورة الشعبية أو الانتفاضة أو الهَبّة الجماهيرية؛ هو لحمها وشحمها، سداتها ولحمتها إن شئت، قوتها و وقودها في نفس الوقت. قد يحركه من في الحكم أو خارج الحكم من أطراف اللعبة (عسكرياً كان أو إسلاموياً أو ليبرالوياً متسيّساً ومثقفاً)؛ أو قد يشعل غضبه تصرف أهل الحكم بسفاهة منهم و إمعان في الفساد والعناد. ولكنه حين يرفع عقيرته أو يتحرك، لا يلوي علي شيء، ولا يستطيع أحد إيقافه إلاّ بمقدار. كما أن تلك نعمة، فإنها قد تتحول الي نقمة، حين "ينفلت العيار"، و(إذا زاد الشيء عن حدّه انقلب إلي ضده) كما يقولون، حينذاك يصبح الجمهور قابلاً للشحن والشحن الزائد، وتنطبق قوانين "الأعداد الغفيرة"، و قد يذهب في اتجاهات شتّى علي غير هدى، فتحدث الفوضى و تجري "أعمال السلب والنهب" على أوسع نطاق. و يمكن أن يصبح الحشد فريسة للاتجاهات المتنافرة للعصبيّة الفرعية الضيقة، عشائرية أو قبلية أو مذهبية دينية، أو طائفية، أو "جهوية"، و حينئذ يقع التدخل الخارجي كعامل حاسم، إقليميا ودوليا، فيحدث الاقتتال الداخلي الذي يمكن أن يذهب بعدم الاستقرار كل مذهب، ناحية "الحرب الأهلية". و ليس ذلك عنّا ببعيد، فقد خبرناه نحو خمس عشرة سنة في لبنان (1973-1989) ومثله في شكل مختلف خلال "العشرية السوداء" في الجزائر (1991-2000)، وقلْ قريبا من ذلك حين وقفت سوريا علي الحافة أو ما بعدها مباشرة، وقبلها العراق وخاصة بعد الغزو الأمريكي 2003، و بعدها اليمن بمعنى معين؛ و لْيحفظ الله ليبيا من المكروه. وليس كل ذلك إلاّ نتيجة، بصفة رئيسية، لغياب طرف آخر وأخير من معادلة السلطة، هو "التيار الوطني – القومي التقدمي"؛ و ما لم يصبح هذا هو التيار الرئيسي Main stream في الحياة السياسية العربية، فسيظل التخبط ديْدن الجميع. نقصد بالتيار الوطني، ذلك المشتغل علي صوْن سيادة الوطن واستقلاليته وحريته، علي أن يكون (عربيّ المنحى، فلسطينيّ الهوى) أي "قوميّا"، فلا ينحدر إلى درك القطرية المقيتة أو إلى العصبية الضيقة لمجموعة أقطار معينة بذريعة الانتماء إلى إقليم فرعي أو جهة اقليمية ضمن الوطن العربي الكبير؛ كما لا يقبل المهادنة علي "قضايا العرب المركزية" عبر التاريخ المعاصر، وعلي رأسها القضية الفلسطينية. ثم أنّنا نقصد إلي أن يكون هذا التيار الوطنى – القومي، تقدمياً في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، بمعنى السعي إلي التنمية الحقيقية بالتحول الهيكلي المتطور للاقتصاد، و التصنيع الجوهري، و بالسعي الجاد إلى العدل الاجتماعي الجذري؛ و كذا "الاستقلالية النسبية" التي تنحو الي العمل من أجل "الاعتماد علي الذات"، دون قطع الروابط مع العالم الخارجي. هذا "التيار الوطني -القومي التقدمي" هو حامل الرسالة الحضارية الحقّة للوطن العربي، و الذي بإمكانه توجيه "بوصلة" الحركة الجماهيرية ناحية "المستقبل الأمثل" الذي يستحقّه شعبنا العربي المجاهد على مدار الزمان.
#محمد_عبد_الشفيع_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاقتصاد المصري ومستقبله في الأجل المتوسط: المتغيرات المحلية
...
-
نحن و صندوق النقد الدولي: وصفة العلاج إلى أين..؟
-
الثورة الصناعية الرابعة وقوة العمل، وماذا عن البلاد العربية.
...
-
-نظرة طائر محلق- على الانتفاضات العربية الراهنة : -من غير عن
...
-
سلاسل القيمة المضافة العالمية
-
عن أعراس الوطن العربي الطارئة وأوجاعه المزمنة (الجزائر نموذج
...
-
أنهار العسل والحليب لا تتدفق دائما مع الاستثمار الأجنبي..!
-
تأملات فكرية وملاحظات تطبيقية حول -التنمية البشرية- و الفقر
-
المحرومون من جنّة الاقتصاد العالمي.. وما العمل؟
-
اقتصاديات ترامب الدولية، و..أمريكا التي لا تزال قوية!
-
العولمة في الفكر العربي التقدمي المعاصر: سمير أمين نموذجا
-
حول الاختراق الأجنبي للوطن العربي: مقارنة مع شرق آسيا، وما ا
...
-
أين موقع مصر الآن من الجغرافيا السياسية لمناطق النفوذ الإقلي
...
-
البيانات-المعلومات-المعرفة : خطوتان إلى الأمام، خطوة إلى الخ
...
-
شذراتٌ عن الهُويّة: سؤال -من نحن؟- وإجاباته المُراوِغة
-
المسار اللولبي (الحلزوني) للإمبريالية الأمريكية: دورةٌ للتهد
...
-
حول التكامل العربي: الاقتصاد ضحية السياسة، ولكن السياسة هي ا
...
-
الثورة الصناعية الرابعة في بلدان غير صناعية: الوطن العربي في
...
-
و نحن نتذكر وعد بلفور : ماذا نفعل بقناة السويس..؟
-
أفكار اقتصادية من أجل اليسار، ودعوة إلى الحوار
المزيد.....
-
كان محكومًا بالسجن مدى الحياة.. لحظة لقاء فلسطيني بزوجته في
...
-
لافروف وفيدان يناقشان الوضع في سوريا والقضايا الإقليمية
-
كيف تصادمت طائرتان في أجواء واشنطن؟ تفاصيل غريبة عن حادث مطا
...
-
-نقوم بالكثير من أجلهما-...ترامب يصر على استقبال مصر والأردن
...
-
مظاهرة حاشدة لأنصار عمدة مدينة اسطنبول أثناء مثوله أمام القض
...
-
فرقة البيتلز تعود بالذكاء الاصطناعي وتترشح لنيل جائزة غرامي
...
-
الشرع رئيساً.. بداية لإرساء منطق الدولة أم خطوة نحو المجهول؟
...
-
الجيش الإسرائيلي: إطلاق صاروخ اعتراضي نحو هدف جوي في منطقة ز
...
-
هيئة الأركان العامة الأوكرانية تعترف بوضع قواتها المعقد على
...
-
شبكة -NBC- تكشف تفاصيل جديدة حول حادث تصادم الطائرتين في مطا
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|