تمرين في الاقتصاد: متلازمة بومول

محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)

الحوار المتمدن-العدد: 6223 - 2019 / 5 / 8 - 18:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

الأصل في العلاقات الاقتصادية الكلاسيكية أن نقول أن نمو الأجور "الحقيقي" يرتبط بشكل وثيق بإنتاجية العمل وتغيراتها, بمعنى ارتباط زيادة الأجور حكماً بزيادة الإنتاج , و طبعا هذا من صميم العلاقة الحدية"الطردية" بين الأجر الحقيقي المدفوع و الاستهلاك التي تحدث عنها ماركس( لا تخضع بعض القطاعات الاقتصادية ذات الإنتاجية غير المباشرة أو الإنتاجية الضئيلة و شبه المعدومة لهذه العلاقة مثل قطاع التعليم و الصحة و التمثيل ...إلخ)
طيب ليش المدير أو المسؤول يتقاضى راتباً أعلى من العامل المنتج؟ مش بس هيك , ماذا عن ظاهرة زيادة الأجور في الوظائف التي لا يحدث فيها زيادة في الإنتاج؟
في منتصف ستينيات القرن الماضي قام باحث اقتصادي يدعى "وليم بومول" المستشار في مؤسسة فورد و أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك مع زميل له يدعى " وليم بوين" الأستاذ بجامعة برنستون, برصد هذه الظاهرة وقدما تفسيرا يقول بأن الأجور تزيد في الوظائف التي لا يزيد فيها الإنتاج كاستجابة منطقية لزيادة الأجور في الوظائف التي زاد فيها الإنتاج في قطاعات "صناعية" أخرى في ذات الفترة, وعرف هذا التفسير تقليديا باسم " متلازمة بومول" أو "تناقض بومول" , ويرى بومول أن رب العمل ( سواء كان مؤسسة أو فرد أو الدولة ذاتها) قد يضطر , بالأحرى هو مضطر لزيادة الرواتب من أجل الحفاظ على العاملين لديه في وظائف معينة , بما يحد من تسربهم من تلك الوظائف التي لا تسمح بزيادة الإنتاج ( و بالتالي حسب العلاقة الاثقتصادية السابقة , لا تسمح بزيادة الأجور), فيذهب هؤلاء نحو وظائف تسمح بزيادة الإنتاج و بالتالي بزيادة الرواتب, و من الواضح أن عمال مصنع ما يحققون إنتاجية أعلى بكثير من مدير مكتب سياحي مثلا أو ممثل أو مطرب أو قاضي أو رئيس أركان القوات المسلحة أو مدير مشفى ..وغيره, و لو اتبعنا القاعدة الاقتصادية السابقة فسوف يكون أجر العامل في مصنع بلاستيك أعلى بكثير من أجر نقيب الفنانين أو حتى من مدير المعمل نفسه , ولهذه تقوم الإدارة المسؤولة بزيادة أجور هؤلاء ليس لارتفاع إنتاجيتهم أ إنتاجية مؤسساتهم , بل بسبب ارتفاع إنتاجية مؤسسات أخرى ( لا يغيب عن بالنا المهارة التي يكتسبها عمال المصنع المذكور مع مرور الزمن من خلال الإبتكار و التطوير لأدواتهم ووسائل عملهم و طرق إنتاجهم.. مقابل النمو الضئيل أو شبه المعدوم في القطاعات الأخرى ذات الكثافة العمالية و التي تعتمد بصورة كبيرة على التفاعل و النشاط البشري غير الروتني مثل التعليم أو التمريض ... إلخ, فمن الناحية الإتثادية لا يمكن مقارنة تنزيل محرك جرار زراعي مع تغيير ضمادة في مشفى أو إلقاء محاضرة عن المعقول و اللامعقول في شعر أبو الطيب المتنبي مثلا. ناهيك عن إنتاجية بعض الوظائف -المطربين و الممثلين مثلا- حيث السلعة المنتجة تكون هي ذاتها اليد العاملة .وهنا قد نستغرب التكلفة العالية لأنتاج فيلم أو مسلسل تلفزيوني وهذه أعمال ووظائف غير منتجة حسب التعريف الاقاصادي الكلاسيكي السابق, ولكن هنا ينبغي الانتباه إلى ثمة "نمط" ما من زيادة الإنتاج في هذا النوع من "الصناعات البصرية و الأدائية تتمثل في استخدام المزيد من الآلات أو استثمار معدات و تكنولوجيا عالية, ومع ذلك هذا لوحده غير كاف لتفسير الأجور المرتفعة للممثلين بخلاف الموظفين العاملين في هذا القطاع , وهنا نعود إلى تناقض بومول الي يقول أن جميع الصناعات , بما فيها صناعات الفنون تتنافس على توظيف العمالة ضمن آليات سوق العمل المتكامل, وبالتالي سوف ترتفع أجور الفنانين مع مرور الوقت بنفس نسبة ارتفاع الأجور في الاقتصاد العام بهدف عدم استنزاف هذا القطاع من موظفيه و تمكين صناعة الفنون من توظيف العمالة التي تؤمن لها الاستمرارية في العمل" للأسف لا تتوفر لدي معلومات إحصائية لمقارنة أجور الفنانين و الممثلين العرب أو أسعار تذاكر السينما و المسارح و الحفلات....و غيرها خلال عدة سنوات سابقة" )
ومن الناحية الرياضية , يعبر تناقض بومول هذا عن نوع من " انحراف معياري" يتعرض له أي مسار اقتصادي منصبط بسبب العلاقة الطردية بين قاعدة العرض و الطلب في قوة العمل " أي سوق العمالة" مما يؤدي هذا الانحراف إلى زيادة غير مخطط لها في التكلفة الإنتاجية من أجل إعادة ضبط المسار الاقتصادي , و من الطبيعي الاستنتاج أن زيادة التكلفة هذه لن يدفعها رب العمل من جيبه الخاص , بل سيتم تعويضها بعدة طرق مثل تقليل كمية السلعة المطروحة في السوق مع تثبيت سعرها أو تقليل نوعيتها و جودتها أو الإبقاء على كل شيء دون تغيير مع زيادة تدريجية في سعر السلعة " وهو الحل الأسهل على كل حال", و في لحظة ما يصبح هذا الانحراف اتجاها نمطيا و فعلاً سلطويً واعياً , بل و مقصوداً حين تزيد الرواتب و الأجور لبعض الفئات دون أن يقابله زيادة فعلية في الوظائف الإنتاجية , ويمكن طرح العديد من الأمثلة ( ارتفاع رواتب كبار ضباط الجيش و رجال الأمن و الشرطة أو رجال الإعلام و القضاء المحسوبين على السلطة , أو أجور الفنانين أو رواتب رجال الدين و الدعاة, الهندسة المعمارية [ لعل هذا يفسر خلو التصاميم المعمارية الحديثة من أعمال وتزيينات تتطلب مهارة و عمل يدوي فائق المهارة و ذات التكلفة الباهظة, بالتالي الأجر العلية ,] ... إلخ, وهذه كلها وظائف في مؤسسات غير إنتاجية)

#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات